لا يزال برج بيزا المائل يثير دهشة زائريه ومن يسمعون به او يقرأون عنه. لكنه يثير ايضاً قلق المعماريين والخبراء الايطاليين، لأن صيانته ومعالجة زيادة ميلانه تمثل مهمة شاقة تتبارى الأمم والشعوب للقيام بها حفاظاً على هذه التحفة الهندسية الفريدة العجيبة. كانت بيزا، حاضرة اقليم توسكانا الواقعة على نهر أرنو، منذ أيامها الأولى موطناً للأساطير والتحف المعمارية والفنية الخالدة. خرج ابناؤها من وسط ايطاليا الى عالم المتوسط الأرحب، تجاراً مهرة وغزاة قساة. ومن سخرية الزمن أنهم كانوا في طليعة الجيوش الصليبية على رغم الدماء السامية التي تجري في عروقهم، اذ يرجح مؤرخون أن أصول بعضهم تعود الى قبائل سكنت الأناضول والمناطق الممتدة بين سورية وتركيا، ثم هاجرت الى اقليم توسكانا. وهؤلاء أقاموا ما يشبه الاتحاد الكونفيديرالي بين مدن الاقليم، وبسطوا نفوذهم على المناطق المتاخمة طوال قرون ثلاثة من القرن الثامن حتى الخامس قبل الميلاد، الا انهم اضطروا أخيراً الى تقديم فروض الطاعة لروما القوية. تقول الأسطورة إن الاله الاغريقي بيلوبس شيد بيزا، قبل حروب طروادة بزمن بعيد، على أرض مستنقعات داخلة في البحر. ومنذ ذلك الحين بدأت صداقتها مع جارها الأزرق العملاق، وصار الرأس الذي نهضت عليه بيزا قبلة للسفن والمراكب المختلفة. باع الفينيقيون فيها واشتروا، مع أنها كانت بالنسبة اليهم مرفأ ثانوياً مقارنة مع فلورنسا عاصمة اقليم توسكانا. وذهب أهل بيزا بدورهم تجاراً الى بلاد الفينيقيين على السواحل الشرقية للمتوسط. لكن رحلاتهم التجارية الى تلك الموانئ لم تنشط الا بعد أن علا ضجيج طبول الحروب الصليبية التي قادتهم الى تطويق طرابلس ومهاجمة صيدا وغزو بيت لحم والقدس مطلع القرن الثاني عشر. كما أقاموا مستعمرات في صور ويافا وطرابلس في تلك الفترة. المدينة الحصينة ولا يمثل الغزو الصليبي بداية حروبهم مع العرب، فهذه بدأت قبل القرن الحادي عشر بوقت طويل، إذ كانت بيزا في ما مضى قاعدة انطلق منها الأسطول المتجه الى شمال افريقيا لاخضاع أهلها. وانضم ابناؤها بعد ذلك الى جيوش شارلمان التي حاربت العرب المسلمين. وفي مطلع القرن العاشر كان المسلمون قد فتحوا صقلية، إضافة إلى شطر كبير من جنوبايطاليا، وأوشكوا على الظفر بروما ذاتها، كما وصلوا الى بيزا بعدما دمروا جيوش التوسكانيين في بعض أجزاء الاقليم الأخرى. لكن المدينة بقيت مستقلة استعصت أسوارها الحصينة على غارات المسلمين الذين انهمكوا في بسط نفوذهم على مناطق أهم. ولما كانت معظم مدن الاقليم سقطت في أيدي العرب لم تعد هناك مدينة تجاري بيزا التي أضحت عاصمة توسكانا وحاضرتها بلا منازع فترة غير قصيرة. ومثلما أفادت اقتصادياً من هذه الحرب مع المسلمين، عادت عليها الغزوات الصليبية بالنفع الكبير في ميدان التجارة، اذ نشطت مبادلاتها التجارية مع الشرق الأدنى عموماً عقب الغزو وفي أثنائه، بعدما كانت في السابق محدودة لا يتمتع القائمون بها بامتيازات خاصة. ويعود بعض الفضل في ازدهار تجارة بيزا البحرية الى مستعمراتها في شرق المتوسط التي كانت بمثابة مراكز تجارية ومالية واسعة، ادارها تجار المدينة بنجاح، خصوصاً أنهم كانوا ذوي باع طويل في هذا المجال، إذ واصلوا إبرام الصفقات والمبادلات التجارية مع جيرانهم ومع افريقيا، بما فيها قطاعها الشمالي العربي المسلم، على مدى سنوات طويلة. في تلك الفترة اشتهر التوسكانيون شعباً اتقن ركوب البحر، ومخر عبابه في عدد كبير من السفن والقوارب التي شكلت واحداً من أكبر الأساطيل في ذلك العصر. والى جانب نقل البضائع التجارية، كانت مهمة بعض هذه السفن حمل الركاب المسافرين بين دول المتوسط خصوصاً. ولم تكن سفن بيزا أقل شأناً في هذا الجانب من نشاطاتها البحرية، بل اكتسبت سمعة حسنة وأثنى على خدماتها كثيرون، منهم الرحالة الأندلسي الشهير ابن جبير الذي أبحر من عكا الى صقلية على متن مركب توسكاني العام 1186م وأشاد بكفاءة القبطان. ومع أنه تجول في رحاب ايطاليا الا انه لم يزر بيزا ذاتها، بل اكتفى بالتفرج على مدن أخرى في اقليم توسكانا. الأرقام العربية وبمعزل عن الحرب والتجارة والمواصلات البحرية، ارتبطت بيزا بالعرب عن طريق العلم أيضاً، اذ نهل كثير من أبنائها العلوم في محافل العلم العربية، أو تتلمذوا في مدينتهم على يد أساتذة عرب. وأحد هؤلاء ليوناردو فيبوناتشي الذي رحل الى شمال افريقيا في طلب المزيد من المعرفة، بعد أن درس في مسقط رأسه بيزا على يد أستاذ مسلم. ونجح في مهمته أعظم نجاح اذ كان أول أوروبي يستخدم الأرقام الهندية، التي سماها الأوروبيون عربية لأنهم أخذوها عن العرب. ونشر في ما بعد كتاباً يعتبر المرجع الأول من نوعه الذي عرّف الأوروبيين بالأرقام الهندية العربية، ويعد أيضاً المقدمة التي مهدت لانطلاقة علم الرياضيات في أوروبا. وبعد فيبوناتشي بحوالى ثلاثة قرون ولد في بيزا عالم آخر كان أكثر شهرة من سلفه، هو الفلكي غاليليو الذي أثبت دوران الأرض حول الشمس في القرن السادس عشر استناداً الى نظريات كوبرنيكوس. وفضلاً عن ذلك، عُرفت بيزا - خصوصاً في العصور الوسطى - بصروحها المعمارية البديعة التي كانت آية في الجمال. وهي في ذلك تتفق مع مدن ايطالية عدة تأتي البندقية في طليعتها. واضافة الى الروعة التي تتسم بها مباني المدينتين، كانت كل منهما منطلقاً للغزو الصليبي، بل كانت للبندقية يد بيضاء على هذا الغزو، إذ زودت الغزاة السفن والبواخر للوصول الى القسطنطينية. وبقيت البندقية قوة بحرية ضاربة في المتوسط وقتاً طويلاً انتهى مع بزوغ فجر السلطنة العثمانية. واذا اشتهرت بيزا ببرجها المائل الفريد، فإن البندقية تزخر بالمعالم المثيرة التي تكاد تنفرد بها. وهل يجهل أحد حواريها الضيقة وبيوتها التي تغتسل اقدامها بالماء؟ ومن لا يعرف الجندول الذي يتنقل به الناس بين أطراف البندقية التي تشكل جداول الماء الكبيرة والصغيرة شوارعها التي تغص بالحركة؟ ومع أن ايطاليا ككل اشتهرت بروعة فنها المعماري وكنائسها الجميلة ذات البناء المتقن، فإن بيزا كانت ولا تزال تعد في مصاف المدن المتفوقة في ميدان العمارة. وكان عدد من الرحالة العرب أبدوا اعجابهم بفن العمارة الايطالي، ومنهم الشريف الادريسي الذي أدهشته كنيسة روما حلت محلها في ما بعد كنيسة القديس بطرس الحالية باتساعها ومتانة بنائها بأعمدته الكثيرة والعظيمة وراق له منظرها الحسن. لكن أياً منهم لم يذكر بيزا، ولو كانت التحف المعمارية لا تزال ماثلة للعيان شاهداً على براعة قدماء مدينة بيزا في هذا الفن. ترك الشرق الأدنى بصماته على فن العمارة في بيزا. وقد رد بعضهم أصل شعب المدينة الى تلك المنطقة، وليس هذا هو السر الوحيد في الطابع الشرقي التي تحمله معظم آثارهم المعمارية المهمة. التجارة الناشطة بين بيزا من جهة، وبلاد الشام ومصر والقسطنطينية، من جهة أخرى، تفسر تأثر معماريي هذه المدينة الايطالية بفنون الشرق الأدنى وابداعاته في البناء والتزيين. ويمكن للمرء أن يميز بين نوعين من هذا التأثر: مباشر وغير مباشر، تم ثانيهما عبر بيزنطة التي تردد عليها أهل بيزا وتجارها فترة طويلة، إذ ان الفن الهلنستي الذي يُنسب عادة الى بيزنطة لم يكن في الحقيقة الا فناً معمارياً ابتكرته بلاد الشام ومصر ثم طُعِّم ببعض اللمسات الأجنبية، وانتقل الى الغرب عبر بيزنطة. ولا يغلب التأثير البيزنطي على فن بيزا فحسب بل ايضاً على فن جنوبايطاليا بمجمله الذي رأى النور قبل بداية القرن الرابع عشر. استقى نحاتو اقليم توسكانا الكثير من الاشكال التي أعدوها من فن بيزنطة، والمثال الأبرز على ذلك منبر الواعظ في كنيسة بيزا الذي يعتبر أحد روائعها. ثمة أدلة أخرى تؤكد بوضوح أكبر استعانة البنائين بالفنون الشرقية استعانة مباشرة لم تكن بحاجة الى وسطاء. في هذا السياق تُذكر الأواني والجرار المصرية المصنوعة من السيراميك والناتئة من جدران ثلاث كنائس في بيزا، وقد شيدت في القرن الحادي عشر في أوج ازدهار النشاط التجاري مع مصر. وهناك أيضاً مبنى الكاتدرائية الفاخر الذي يعبر عن طراز العمارة الذي شاع في بيزا. ويتميز هذا الطراز بصفتين أساسيتين: الاكثار من ألواح الرخام الموشاة بشرائح ذات لون مختلف، واستخدام الأروقة المتوجة بالقناطر. وهذه السمة الثانية مستوحاة من الكنائس الأرمنية التي بنيت في عهد سابق. كتلة عملاقة مائلة أما الصرح الهائل الذي يميّز مباني بيزا فهو برجها المائل. وهذا متأثر ايضاً بفن العمارة الأرمني، اذ انه رخامي ذو طبقات ثمان، كل منها عبارة عن أعمدة متقاربة تعلوها قناطر صغيرة. ولم يكن غريباً ان يستغرق انجازه 176 عاماً 1174 - 1350، ذلك أنه كتلة رخامية عملاقة ترتفع في الفضاء أكثر من 55 متراً، ويبلغ وزنها 1500 طن، إلى جانب التزيين الدقيق الاخاذ والأعمدة التي تعلوها قناطر صغيرة. ويعد البرج الصرح الثالث الذي يتمم "مجموعة أبنية الكاتدرائية" المؤلفة من الكاتدرائية ذاتها ودار المعمودية ثم البرج الذي أقيم أساساً ليوضع الناقوس في قمته. لكن الأبراج لم تؤد عبر التاريخ هذه الوظيفة وحدها على الدوام، بل كان بينها البرج الدفاعي الحصين وبرج الحراسة وغيرهما. إلا أنها على اختلاف وظائفها اعتبرت منذ فجر التاريخ رمزاً للنفوذ والسطوة. وربما كانت هذه الدلالة معروفة لدى البابليين أيضاً الذين شيدوا أحد أقدم الأبراج في تاريخ الانسان. وتتجلى الدلالة ذاتها، على الأغلب في أبراج هذه الأيام: ناطحات السحاب الشاهقة. ومن الطريف ان المدينة الايطالية في العصور الوسطى كانت كغابة من الأبراج التي تنافس النبلاء المحليون على بنائها، طلباً للفوز بلقب صاحب البرج الأعلى الذي يعتبر النبيل الأرفع مقاماً والأشد بأساً وقوة. إلا أن بنية برج بيزا المائل توحي بوظيفته وطابعه الديني المحض. يستنتج ذلك من شكله الدائري الذي يُعد منذ عصور ما قبل التاريخ السحيقة رمزاً محملاً بالمعاني الروحية. ولذا دأبت حضارات كثيرة على استخدامه في المباني الدينية. ثم انتشر الشكل الدائري في المقامات التي تبنى قبوراً مهيبة لرجال الدين ذوي المنزلة المتميزة وفي مدافن الأبطال وعلية القوم. وليست الوظيفة الدينية وقفاً على برج بيزا دون سواه من الأبراج القديمة والحديثة. إلا أنه ينفرد بصفة خاصة تميزه عن غيره هي ميله 2،5 متر، ويعود ذلك الى هشاشة جزء من التربة التي قام عليها أساس البرج. وكان المهندسون المشرفون على انجاز مراحله النهائية لاحظوا هذه المشكلة ولما ينتهوا بعد من بناء الطبقات الثلاث الأخيرة، فجعلوها أطول قليلاً من الجهة التي يميل اليها البرج في محاولة للتعويض عن الميل. لكن بدلاً من أن يُشفى المريض زاد هذا الدواء سقمه، إذ مال البرج أكثر مما مضى بفعل الثقل الناجم عن استخدام كميات اضافية من الرخام في الجانب المائل. وفي القرن الرابع عشر اضطر القائمون على المشروع الى وضع الناقوس أخيراً في بيته الصغير الذي يمثل الطبقة الثامنة بعد أن انتظروا سنوات طويلة بأمل العثور على دواء ناجع لميلان البرج من دون جدوى. وها قد مرت قرون ستة، والبرج العتيق لا يزال يهزأ بالتوقعات التي تكهنت غير مرة بقرب أجله. الا ان أحداً لا ينكر تأزم حالته الآن والعالم يودع الألف الميلادية الثانية، ولا يستبعد اختصاصيون كثيرون انهياره على حين غرة. وكانت محاولات عدة جرت في الماضي القريب بهدف تقوية أساساته وحقنها بالاسمنت تجنباً لنهاية مأسوية. لكن هذه المحاولات كانت بمثابة العقاقير التي تهدئ المريض دون أن تشفي علته. لذلك يخضع البرج الى عملية جراحية معقدة يجريها اختصاصيون مهرة هبّوا لنجدته من أقطار شتى. ويأمل هذا الفريق من المهندسين والعلماء الذين يرأسهم عالم يدعى ياميوكولفسكي بإعادة الشباب الى البرج المتهالك الذي غدا منذ زمن طويل اعجوبة الدنيا "الثامنة". ولم يحظ من قبل بترميم من هذا النوع المزدوج، إذ سيشمل ترميمه مرحلتين: تقوية وتدعيم أولاً، ثم تقويم الاعوجاج في ما بعد. وكان متطوعون من متسلقي الجبال الذين يعيشون في منطقة بورميو الواقعة على الحدود الايطالية - السويسرية ركّبوا على جدران البرج أجهزة كاشفة خاصة بالرخام مهمتها رصد درجة ميله، مما سيمكن المشرفين على الترميم من التعرف على حركة البرج أولاً بأول. ومن ناحية أخرى، بدأ الفنيون بإحاطة أعمدة البرج بقضبان فولاذية، الغرض منها حماية جدرانه من التشوه الذي سيمهد لسقوط النصب تحت وطأة وزنه الهائل مثلما حصل قبل سنوات مع برج "بافيا" الذي أقيم في العصور الوسطى أيضاً. وفي الطور الثاني من العملية ستزرع كتل من الرصاص يبلغ وزنها 700 طن في الجانب الشمالي للبرج لتقوّم ميلانه الى الجهة الجنوبية. وتتواصل التجارب المتنوعة الهادفة الى اكتشاف السبل التي تمكن العلماء من التحكم بحركة التربة تمهيداً للبدء بتقويم البرج وتثبيته. وستؤدي عمليات الترميم الى تسليط الضوء على طريقة انشاء البرج وسيتبدد الغموض الذي أحاط بهذا الانجاز الفني والعلمي دهوراً طويلة. ولا ريب أن الآلاف من السياح الذين يزورونه سنوياً سيتنفسون الصعداء، فقد يتعافى البرج اذا تكللت هذه العملية بالنجاح. إذ ظل يتمتع بشعبية واسعة بدءاً من نهاية القرن الماضي بعد قرون لم يحظ خلالها بالتقدير الذي يستحق، اذ رُوي عن الشاعرين الرومانسيين بايرون وشيللي أنهما ذهبا الى بيزا هرباً من السياح الانكليز والأجانب الذين لم يقصدوا في تلك الأيام أماكن منعزلة ومهجورة كتلك المدينة التوسكانية .