وصل الى الصالات السينمائية الاوروبية أخيراً الفيلم الفرنسي "أجمل مهنة في العالم" من اخراج جيرار لوزييه - الرسام الفكاهي المعروف المتزوج من لبنانية - وبطولة جيرار دوبارديو والمغربية سعاد حميدو. والفيلم نسخة فرنسية عن العمل الاميركي "الى معلمنا مع حبنا" الذي اقتبس من في مسرحية "مدرسة المشاغبين" الشهيرة. وهذه ليست المرة الأولى التي تعمل فيها سعاد حميدو الى جوار دوبارديو، إذ بدأت حياتها الفنية في عمل من بطولته يحمل عنوان "الاخ الكبير". وبعد هذا الفيلم الذي يعود الى مطلع الثمانينات، قطعت سعاد مشواراً لا بأس به في السينما والتلفزيون والمسرح. والفنانة ابنة الممثل المغربي المعروف جيداً على مستوى الدول الناطقة الفرنسية حميدو الذي اشتهر في 1968 حين منحه السينمائي الفرنسي كلود لولوش دور البطولة في فيلم "الحياة والحب والموت". والواقع ان المخرج الشهير تعرف الى حميدو عبر ابنته وليس العكس، فالأب هنا هو المدين لابنته بدوره الأول الكبير في السينما، إذ ان سعاد ظهرت وهي بنت خمس سنوات في فيلم "رجل وإمرأة" من اخراج لولوش نفسه في 1966، وذلك بعدما عثر عليها عبر اعلان كان نشره في الصحف بحثاً عن فتاة موهوبة للقيام بأحد ادوار فيلمه. وكان حميدو رد على الاعلان وقدم ابنته الى الاختبار ففازت بالدور، وبالتالي عرف السينمائي الفرنسي ان الوالد يعمل في الحقل الفني فنشأت بينهما علاقة صداقة انتهت بالممثل المغربي بطلاً لفيلم "الحياة والحب والموت" بعد حكاية سعاد بعامين. واذا كانت أسهم حميدو صعدت مرة وهبطت مرات خلال حياته الفنية الطويلة، فيمكن القول ان السبب يعود الى حسه الوطني وتعلقه بهويته العربية ورفضه قبول الأدوار التقليدية التي تعرض على العرب في فرنسا وهي الاجرام وتجارة المخدرات. ومثّل حميدو هذه الشخصيات في اكثر من مناسبة عندما وجدها تنسجم فعلاً مع سيناريو من النوع القوي يحكي قصة من دون ان يهدف الى الاساءة إلى العرب. لكنه، من ناحية ثانية، كثيراً ما رفض العمل في خدمة سينما تسيطر عليها نزعات معادية للعرب مع انه كان في حاجة الى المبالغ الكبيرة التي عرضت عليه لاداء ادوار كهذه، حسبما قالت ابنته. وتكررت الحكاية ذاتها مع سعاد عندما بدأت تعمل في السينما فور تخرجها من معهد التمثيل، فكان أول عرض تلقته هو دور فتاة عربية تحترف الدعارة في الشمال الفرنسي لكسب قوتها اليومي والتغلب على مشاكل الغربة. يتميز الفيلم وهو "الأخ الكبير" بمتانة حبكته وجودة اخراجه وهذا ما دفعها الى قبوله وعدم الاصغاء الى نصائح والدها بتفادي فخ الأدوار المغرية ظاهرياً والمسيئة في مضمونها الى العرب المقيمين في الخارج. ولكن يجب ان لا ننسى رغبة سعاد في تسلق سلم الشهرة وممارسة المهنة التي اختارتها، إذ ليس من السهل على ممثلة ناشئة رفض أي دور كبير الى جوار دوبارديو. ويلعب العمر دوره ايضاً، فهي لم تتمتع في العشرين من عمرها بالنضج ذاته الذي تتميز به الآن في الخامسة والثلاثين. وبعد "الأخ الكبير" ظهرت سعاد في عمل فكاهي هابط عنوانه "الأبله الصغير" ادت فيه أيضاً شخصية فتاة عربية تعيسة ضائعة في متاهات الغربة ومضطرة الى ممارسة الدعارة وتعاطي المخدرات لنسيان همومها. ومرت المغربية الحلوة بأزمة نفسية حادة إثر "عودة الوعي" المفاجئ وادراكها خطورة ما فعلته على الشاشة الكبيرة خلال خمس أو ست سنوات من العمل الفني، اذ ظهرت في افلام جيدة أو أقل جودة لكنها مثلت دائماً دور العربية الطائشة او التائهة في الحياة، والقريبة جداً الى عالم الدعارة والعصابات، وهي وقفت عارية امام الكاميرات في هذه الافلام وفوق صفحات المجلات المختلفة التي كانت تعرض عليها اجراء الاحاديث معها شرط موافقتها على نشر صور مغرية "مفيدة لشهرتها وشعبيتها". غير ان التجربة علمتها ان أحسن مدرسة هي الحياة، وان النصائح العائلية مهما كانت صحيحة ومبنية على اساس من الخبرة لا تعوض التجربة الشخصية، فراحت تبتعد عن السينما وتحاول ان تبدأ مجدداً من نقطة الصفر، ولكن في المسرح حيث لا يضطر الفنان الى التعاطي مع العقلية التجارية ذاتها. وفعلاً وقفت فوق الخشبة في ادوار مختلفة من كوميدية الى مأسوية مروراً بالأعمال الكلاسيكية المعروفة. ولم تكن المهمة سهلة، بل احتاجت الى وقت وصبر حتى استطاعت فرض نفسها في عالم ينظر الى نجوم السينما كأنهم قادمون من المريخ. فهناك كراهية متبادلة بين أهل السينما وأهل المسرح عرفت سعاد خباياها عن كثب ودفعت الثمن من اعصابها ووضعها النفسي، لكنها صمدت ثم تزوجت وأسست عائلة مما ساعدها على تحمل مشقات الحياة المهنية بسهولة أكبر. وفي التسعينات نالت فرصتها الكبيرة في التلفزيون حيث أدت الدور الرئيسي في عمل يروي حكاية نجاح المغنية البرتغالية ليندا دي سوزا المقيمة في فرنسا، والتي عرفت مشقات الغربة وعانت من المعاملة العنصرية قبل ان تصبح نجمة مرموقة معترف بها على الصعيد الأوروبي. ونجح الفيلم الى درجة ان القنوات الفرنسية لا تزال تعيد عرضه دورياً، فهو فتح باب الشاشة الصغيرة واسعاً أمام سعاد الموزعة حالياً بين التلفزيون والمسرح وعائلتها. وبدأت السينما تحظى ببعض اهتمامها ايضاً بعدما صارت تقدم اليها عروضاً جيدة مثلما حدث في "وسط العالم" قبل ثلاثة أعوام والآن في "أجمل مهنة في العالم" حيث تعذب عاشقها جيرار دوبارديو المولع بجمالها. هكذا تحاول سعاد بعد 15 عاماً ان تُصلح الخطأ، وتظهر مع النجم المعروف في فيلم رصين لعله يعوّض قليلاً دورها الأول الى جانب دوبارديو في الفيلم "الاباحي" الهابط!