الضربة الاسرائيلية التي كانت تتوقعها دمشق قبل نهاية العام الماضي بهدف الضغط السياسي عليها ودفعها الى تقديم تنازلات على طاولة المفاوضات، حصلت في اليوم ذاته الذي كانت فيه المؤشرات المتوافرة لدى المسؤولين السوريين تدل الى انها ستقع فيها، لكن بأسلوب مختلف عما كان متوقعاً، اذ ان الاستعدادات السورية كانت تسير باتجاه قيام عملية عسكرية في جنوبلبنان أو ضرب قواعد سورية في لبنان أو سورية، سواء في العمق السوري أو الجبهة الجنوبية، فحصلت فعلاً على الأراضي السورية لكن باعتداء طال أكثر من ستين مدنياً عبر تفجير حافلة ركاب وسط العاصمة. وكانت السلطات السورية اجرت استعدادات هادئة لتلافي الآثار الشعبية والاقتصادية المتوقعة للضربة الاسرائيلية قبل نهاية 1996، اذ انها أوعزت الى الجهات المحلية في شمال البلاد والساحل السوري، حيث المواقع الاقتصادية الاستراتيجية وبعض المواقع العسكرية المهمة، لرفع مستوى الجهوزية واعلان حال الاستنفار، ولم يكن تبرير ذلك بأن حرباً عسكرية آتية من الجنوب، بل تحت عنوان احتمال حصول "اعصار قوي" أو "زلزال" أو "هزة أرضية" تضرب البلاد في الأيام الأخيرة من العام الماضي. واستجاب الشارع لتلك الأفكار في شكل سريع، حيث نزل رجال الأمن المدني الى الميدان وجهزوا الشوارع والمؤسسات الكبيرة مثل المرافئ ومؤسسات النفط، وعملت المؤسسات الانتاجية، خصوصاً الأفران والمطاحن في أيام عطلها لتلبية الطلب العالي على المواد الغذائية والاستهلاكية تحسباً للحدث الطبيعي المقبل. وبنى المسؤولون السوريون توقعاتهم تلك على ثلاثة عناوين هي: التصعيد السياسي والخطاب المتطرف الذي يعلنه المسؤولون الاسرائيليون الذي أخذ شكل التهيئة لمواجهة مع سورية، والمناورات الميدانية التي حصلت في مرتفعات الجولان المحتلة، وحديث مسؤولين كبار عن ضربة عسكرية اسرائيلية ستحصل في 31 كانون الأول ديسمبر 1996. غير ان تدخل الادارة الأميركية بناءً على توضيحات طلبتها سورية من السفير الأميركي في دمشق كريستوفر روس، وعودة الأخير بتطمينات سياسية تؤكد عدم نية الاسرائيليين القيام بالحرب مع سورية وبأن المناورات روتينية دفاعية وان الادارة الأميركية "لن تقف مكتوفة اليدين" امام أي هجوم تقوم به اسرائيل على سورية، رفع حال الاستنفار الشعبي في البلاد الذي تزامن مع هزة أرضية وقعت وسط البلاد، فابتعد - بموجب تحليلات خبراء سوريين - احتمال حصول الزلزال المرتقب أو الاعصار، وكأن التدخل الأميركي غير المعلن بين سورية واسرائيل فعل الأمر ذاته الذي فعلته الهزة الأرضية بالنسبة الى الاستنفار الشعبي والرسمي غير المعلنين. اعصار مختلف وفي حال أُخذت التطمينات الأميركية في الاعتبار، يمكن القول ان السوريين فوجئوا بالضربة الاسرائيلية التي حصلت في وسط دمشق، خصوصاً لجهة الأسلوب الذي اتخذته. غير ان الانطلاق من المعطيات التي توافرت لدى المسؤولين والخبراء، فإن تفجير الحافلة لم يكن مفاجئاً، وهو الأمر الذي أدى بالمسؤولين السوريين الى عدم التردد في توجيه اصبع الاتهام الى اسرائيل واعتبار ان العملية ليست سوى "تنفيذ التهديدات التي أطلقها الاسرائيليون في الأشهر الأخيرة". وقال المسؤولون السوريون ان "اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية" الموساد انتهزت "غمرة الاعداد لاحتفالات رأس السنة وأوعزت الى عملائها لتنفيذ تهديدات اسرائيل الجبانة بوضع عبوة ناسفة في حافلة ركاب انفجرت بعد امتار من انطلاقها من مركز الحافلات في منطقة "الحلبوني" البرامكة وسط دمشق في الساعة 1.35 من بعد ظهر يوم الثلثاء أول العام الجديد. وفي الواقع فإن تأجيل الاعلان عن الانفجار الى مساء الخميس، أفسح في المجال لتأكيد "تورط اسرائيل" في العملية وعدم تعكير اجواء احتفالات رأس السنة على المواطنين، حسب تفسير مصدر رسمي، كما ان السبب الأخير هو الذي دفع الى اعلان توضيحات تتعلق بأخبار عن حصول انفجارات اخرى في البلاد مثل ساحة "العباسيين" أو في بانياس على الساحل، اذ ان معاون وزير الداخلية اللواء نعيم الياس أكد لپ"الوسط" عدم حصول "اي انفجار ارهابي آخر" في أي من المحافظات السورية. ولم يخطر في بال أحد ان تكون أنقرة وراء الانفجارات، كما حصل في وقت سابق عندما اتهم عملاء أتراك بالوقوف وراء انفجارات حصلت في شهري نيسان ابريل وأيار مايو الماضيين، وذلك بسبب تحسن العلاقات بين دمشقوأنقرة بعد وصول رئيس حزب "الرفاه" الاسلامي نجم الدين أربكان الى الحكم وتراجع التوتر بين البلدين والسعي الى تطوير العلاقات. ولا يمكن الربط بين الانفجار المحدود في آخر أيام "معرض دمشق الدولي" في أيلول سبتمبر الماضي الذي أكدت مصادر سورية انه "فردي ولم تكن أي دوافع وراءه"، و"العملية الارهابية" الأخيرة التي تؤكد المؤشرات ان جهة كبيرة خططت لها ونفذتها، وينطبق الأمر ذاته على احتمال ان تكون جهة داخلية وراء حادث "الحلبوني" بسبب طبيعة الانفجار الذي شمل مواطنين من جميع المناطق في حافلة وسط دمشق، اضافة الى عدم وجود معارضة قوية أصلاً بسبب حصول المواقف السياسية، خصوصاً ما يتعلق منها بعملية السلام، على تأييد ودعم كاملين على المستويين السوري والعربي. حتى ان "حركة الاخوان المسلمين في سورية" دانت العملية، وقال بيان حصل مكتب "الوسط" في دمشق على نسخة منه، انها "ترفع الى شعبنا السوري والى أسر الضحايا أحر التعازي بالمصاب الأليم متمنية للجرحى والمصابين الشفاء العاجل". وأضاف البيان "تستنكر الجماعة أيضاً كل أشكال الارهاب التي تطال المدنيين الأبرياء مهما كان مصدرها وبواعثها". وتكمن اهمية هذا البيان في ان المعارضة السورية - على قلتها - لم تسكت على ادانة العملية الأخيرة بسبب فظاعتها أولاً ولأن المواقف السورية في مفاوضات عملية السلام سحبت الأوراق من المعارضة. وتجدر الاشارة الى ان "الاخوان المسلمون" كانوا مسؤولين عن الانفجارات التي حصلت في سورية في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات الا ان أحد قادتهم السيد عبدالفتاح أبو غدة عاد الى البلاد أخيراً. وأكد مسؤول سوري لپ"الوسط" ان الاتهامات لاسرائيل لم تقتصر على "المعطيات السياسية فحسب، بل ان التحقيقات الأمنية أكدت التورط الاسرائيلي وان ذلك سيتأكد لدى الاعلان عن نتائج التحقيقات بعد انتهائها". وأوضحت مصادر مطلعة ان المعطيات السياسية التي استند اليها السوريون في اتهاماتهم كثيرة، ومنها اعلان أكثر من مسؤول اسرائيلي أمني وسياسي ان الطريق الوحيد لدفع دمشق الى التوقف عن دعم المعارضة الفلسطينية، خصوصاً "حركة المقاومة الاسلامية" حماس و"الجهاد الاسلامي" يكون بالقيام بعمليات مماثلة لتلك التي ينفذها المنتحرون في اسرائيل. وكان مسؤول أمني اسرائيلي قال بعد عمليات لهاتين الحركتين انه "يجب تفجير حافلة وسط دمشق" رداً على تلك العمليات. كما أن المسؤولين السوريين يعتبرون ان منسق الأنشطة الاسرائيلية في لبنان أوري لوبراني "تبنى رسمياً العمل الاجرامي" قبل حصوله، عندما أعلن بعد حادثة اطلاق النار على حافلة ركاب اخرى في لبنان في 17 الشهر الماضي وتوزيع بيانات ضد الوجود السوري في لبنان وما تلى ذلك من اعتقالات، بأن المسؤولين عن الاعتقالات "لن يفلتوا من العقاب". وكانت دمشق ربطت بين تفجير الحافلة وحوادث بيروت فور حصول الاعتداء الارهابي وسط دمشق عبر قول المسؤول السوري، في أول اعلان رسمي عن حصول الحادث، بأن الحافلة كانت تعمل على خط حلب - بيروت وانتقلت للعمل على خط دمشق - حلب بسبب زحمة نهاية السنة. وفسر محللون تلك الاشارة باحتمال تفخيخ الحافلة في الأراضي اللبنانية أو بأن النية كانت لتفجيرها في لبنان كي يؤدي ذلك الى توتير الوضع بين السوريين والمعارضين اللبنانيين، واستخدام اسرائيل ذلك كذريعة للتدخل، على طريقة ما حصل بعد حادث طبرجا والبيانات. وقال المسؤول السوري ان "كل الأدلة تدل الى تورط الاسرائيليين" مشيراً الى التصعيد العسكري ضد سورية والتطرف في الخطاب السياسي الاسرائيلي والحديث عن استعدادات عسكرية سورية للهجوم على اسرائيل اضافة الى ترافق ذلك مع طرح أفكار رفضتها سورية مثل "لبنان أولاً" أو انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوبلبنان ونشر قوات متعددة الجنسية فيه، أي ان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو أراد وضع السوريين في حال الاختيار بين أمرين: أما حل الموضوع اللبناني ووضع حد لپ"حزب الله" باعتبار انه الجهة التي تستمر في تسبب المشاكل العسكرية والسياسية لاسرائيل، مع تأجيل حل الموضوع السوري المتعلق بمرتفعات الجولان بما في ذلك نسيان التزام رئيس الوزراء الاسرائيلي الراحل اسحق رابين "الانسحاب الكامل" من الجولان، أو تهديد الوجود السوري في لبنان بعناصر لبنانية، مع امتداد ذلك الى العمق السوري عبر "تهديد الأمن والاستقرار اللذين تتفاخر بهما سورية". من المستفيد؟ ولم تجد دمشق صعوبة في اتهام اسرائيل على رغم نفي معظم المسؤولين الاسرائيليين، بمن فيهم نتانياهو، الى حد ان مصدراً سورياً قال: "ان نفي نتانياهو لا يستحق المناقشة وانه يعبر عن تكامل بين الرغبة في استدراج سورية الى الاستسلام والمفاوضات المسلحة كما ان الاسرائيليين محترفون في ممارسة الارهاب والتنصل منه في آن". وقال مصدر آخر "ان السؤال الأول المطروح هو: "من المستفيد؟" وأجاب: "لا يشك أحد في ان المستفيد الوحيد من ترويع دمشق وسورية كلها، في الوقت الحاضر، هو اسرائيل". وبعدما أكد ان "الموساد" "أعادت الاتصال بعملائها وأوكلت اليهم هذه المهمة التخريبية"، قال ان الجهة المنفذة ليست مهمة وأياً تكن "فإن اسرائيل تقف خلف جريمة تفجير الحافلة". لكن هل تحققت الأهداف السياسية والأمنية للعملية؟ لم تؤدِ العملية الى فوضى أمنية في البلاد، اذ ان أقصى ما حصل هو نشر عناصر أمنية يرتدون الزي المدني مع السعي لمنع حصول تجمعات بشرية كبيرة في الجامعات والمؤسسات الحكومية ومراكز الحافلات مع تركيز على معرفة الأشخاص الذين يرتادون هذه الأماكن وتفتيش حقائبهم، بحيث جرى كل ذلك في هدوء ومن دون أي قلق، كإجراء احترازي لأي "عملية ارهابية" اخرى. وأشار أكثر من مصدر سوري الى توقع عمليات اخرى وان انفجار دمشق "لن يكون الأخير في ظل وجود حكومة بقيادة زعيم تكتل ليكود الذي تأسس على انقاض عصابتي شتيرن وارغون الارهابيتين". كما شكل الحادث فرصة لاعادة تأكيد "الوحدة الوطنية" باعتبار ان الهدف المعلن للعملية هو الضغط السياسي على الحكومة السورية ودفعها الى تقديم تنازلات في عمليات السلام ودعمها للمقاومة العربية سواء في جنوبلبنان أو بالنسبة الى المعارضة الفلسطينية. وعبر المصابون الذي التقتهم "الوسط" في مشفيي "المواساة" و"المجتهد" في دمشق عن تأييدهم المواقف السورية واتهامهم "الموساد" بارتكاب الانفجار. وفيما تحسن حال بعض المصابين، لا يزال آخرون في غرف العناية الفائقة، حيث فقد بعضهم بصره أو أطرافه أو سمعه، وكان بين المصابين الزميل في صحيفة "البعث" علي سليمان الذي فقد عينيه وأنفه. اما بالنسبة الى العلاقة السورية - اللبنانية التي كانت هدفاً للعملية، حسب رأي دمشق، فإن مصدراً سورياً قال ان "التلاحم" بين الجانبين ازداد قوة، كما ان الرؤساء اللبنانيين الثلاثة والمسؤولين الآخرين أعلنوا ادانتهم العملية مؤكدين رفض فك ارتباط المسارين التفاوضيين باعتباره هدفاً اسرائيلياً دائماً، واستمرار التنسيق بين الطرفين. وشكل الانفجار فرصة لعودة الدفء الى العلاقات مع الأردن، حيث سارع المسؤولين الأردنيون وفي مقدمهم الملك حسين الى التعبير عن التعاطف مع سورية وادانة الحادث. وحصلت دمشق على التأييد ذاته من الدول العربية والأوروبية الأخرى. مؤشر الانحياز وقال المسؤول السوري ان رئيس الوزراء الاسرائيلي فشل في تحقيق أهداف العملية، كما فشلت سياساته منذ تسلمه الحكم قبل نحو سبعة أشهر اذ ان "الدعم الدولي والعربي والشعبي بلغ ذروته في ادانة بالغة للعملية لسياسات نتانياهو لقتل عملية السلام"، وزاد انه حتى الادارة الأميركية "دانت العملية الارهابية وتعاطفت مع الأبرياء" على رغم تأخرها في اصدار هذا الموقف. وكان الانفجار بمثابة مؤشر آخر الى الانحياز الأميركي الى اسرائيل والى التوتر المبطن للعلاقات بين دمشق وواشنطن، اذ ان الناطق باسم الخارجية الأميركية نيقولاس بيرنز لم يعلن ادانته للعملية أو تعاطف بلاده مع الضحايا الأبرياء، بل انه على العكس اعتبر الاتهام السوري لاسرائيل "متهوراً وغير مسؤول". وأزعج هذا الموقف دمشق ودفعها الى اصدار بيان رسمي يتهم بيرنز بأنه "تطوع لتبرئة من يقف وراء هذا العمل الارهابي المدان من دون ان يأخذ في الحسبان مشاعر المواطن السوري والعربي"، الأمر الذي أدى الى صدور الأدانة الأميركية الخجولة التي دعمت برسالة بعثها السفير الأميركي في دمشق، بعد عودته من اجازته، الى وزير الخارجية السيد فاروق الشرع واستنكرت "العمل البشع".