عرفت مصر قبل حوالي نص قرن قيام جماعات سياسية وثقافية على ايدي اجانب او متمصرين. وها هي عاصمة الازهر تشهد اليوم للمرة الأولى، ظهور جماعة دينية صوفية إسلامية مرشدها في قبرص، وتضم في مصر أساتذة غربيين من الجامعة الاميركية اعتنقوا الإسلام إلى جانب مصريين وعرب غالبيتهم من الفئات الارستقراطية. فما هي حكاية هذه الجماعة الدينية الاسلامية؟ من الوجوه البارزة في هذه الجماعة استاذ الكتابة بالإنكليزية في الجامعة الاميركية عبدالحي هولدايك 50 عاماً هولندي الجنسية، يقول : "اعتنقت الإسلام منذ 15 عاماً على يد الشيخ ناظم الحقاني نقشبند شيخ الطريقة النقشبندية في قبرص لا علاقة لها بالطريقة النقشبندية المصرية وهو يعيش في شمال قبرص وله مراكز وجماعات في جميع انحاء العالم ويعتمد في ذلك على فتح من الله ... فهو المرشد المسؤول عن الارشاد والتربية الروحية في الجماعة "..." ويوصينا مرشدنا الشيخ بالذكر والتسبيح والدعاء". ويضيف الدكتور عبدالجليل ستيلزر 50 عاماً ألماني الجنسية أستاذ الادب والنقد في الجامعة الاميركية: "كنت دائم البحث عن شيء يرضي نفسي. بحثت عن ذلك في المسيحية وفي الاسلام، حتى انني كنت نويت السفر إلى اليابان للبحث في البوذية ... الى ان التقيت الشيخ ناظم الحقاني ... وجدت فيه تجسيداً حياً للإسلام ... وتعلمت منه كثيراً وقرأت عن الإسلام بعد ذلك اكثر، وفي العام 1984 أشهرت اسلامي في الأزهر. وهدف جماعتنا القرب من الله باتباع الشريعة وتطبيقها في اسلوب الحياة حيث نحن نتبع مثال الرسول عليه السلام الذي علمه القرآن ان يدعو الآخرين إليه بأن يكون سراجاً منيراً، وهذا هو منهجنا الذي يجذب الآخرين إلينا". وفي رده على سؤال عن الفرق بين جماعته وجماعات الإسلام السياسي المعروفة في مصر، أجاب عبدالحي هولدايك: "هم أبعد ما يكونون عنا. فنحن ضد أي جماعة تعارض الحكومة بالقوة لأن بامكانهم ان يعالجوا خلافاتهم مع الحكومة بالطرق المشروعة. اما نحن فلا نتدخل في السياسة". وهناك اساتذة آخرون اعتنقوا الإسلام، وإن لم يكونوا في المجموعة نفسها، ولهم اهتمامات بالتصوف والقضايا الاسلامية العامة. من ابرزهم استاذ ورئيس قسم الاخبار التلفزيونية في الجامعة الاميركية عبدالله شليفر 62 عاماً اميركي الجنسية الذي كان رئيساً لشبكة "إن. بى. سي" الأميركية فى الشرق الأوسط ، وله رأي في الجماعات الإسلامية المعروفة، فيقول: "اعرف تلك الجماعات حيث عملت كصحافي في السنوات الماضية، وتابعت احداث اغتيال الرئيس السادات. ولكن على المستوى الشخصي لا أهتم بأي جماعة إسلامية ايديولوجية او سياسية. وفي رأيي انها جماعات رفض تستخدم لغة اسلامية، وقد حولت الإسلام الى ايديولوجية من صنع البشر ... إن الجماعات الاسلامية الموجودة اليوم اكتسبت أهمية أكبر من حجمها الحقيقي خلال الخمسة عشر عاما الماضية بسبب سوء الأوضاع الاجتماعية واستمرار تهميش الإسلام التقليدي وعدم قدرة الازهر على اختراق المجتمع. لقد درست المجموعة التي قتلت الرئيس السادات، سواء المتورطين او من الخارج، مثل الشيخ عمر عبدالرحمن، فلم أجد أزهرياً واحداً بينهم ما عدا عبدالرحمن، كلهم طلبة من اكثر الكليات علمانية ... وحين تحدثت مع شيوخ الازهر علمت ان عمر عبدالرحمن لا يمثل الازهر بل اعتبروه غريب الاطوار ...، كما ان سيد قطب لم يكن ازهرياً". المجموعة من الداخل وبعض اعضاء المجموعة من طلبة الجامعة الاميركية او خريجيها. بينهم مصريون وعرب تتراوح أعمارهم بين السابعة عشرة وأواخر الثلاثينات، وإلى جانب مدرسين في الجامعة الاميركية وموظفين من خارجها، تتراوح اعمارهم بين الثلاثين والخمسين. إضافة إلى بعض الشباب من نادي الجزيرة الرياضي المشهور الذين يشكل وجودهم في الجماعة نوعاً من المفاجأة نظراً إلى التحول في سلوكهم ومظهرهم من النمط الغربي الى النمط الاسلامي. وفي حين ينتمي معظم اعضاء الجماعة إلى الطبقة المتوسطة العليا، ينتمي بعضهم إلى عائلات غنية مرموقة اجتماعياً، وتضم المجموعة شباباً من المصريين المتوسطي الحال، وبعض الأجانب من جنسيات أوروبية مختلفة. وتربط بين افراد المجموعة علاقة إنسانية حميمة، تأخذ أشكالاً اجتماعية وأحياناً مادية، مثل المساعدة في توفير فرصة عمل أو سكن، أو تقديم المساعدة المادية في صور أخرى إذا استدعى الأمر. وكل ذلك يتم في يسر واضح، ويعتبر من "بديهيات الاخوة في الطريق إلى الله". وتحدث أحياناً الزيحات بين اعضاء المجموعة غير المتزوجين من الشباب والشابات، بعض هذه الزيجات ينجح وبعضها يفشل، بعضها متكافئ وبعضها غير متكافئ، خصوصاً بالنسبة إلى عامل السن، ويتم بعض الزيجات بين أجانب ومصريين وعرب. ولا يفضل أعضاء المجموعة الاستماع إلى الاذاعات أو مشاهدة التلفزيون باعتبار ان ذلك مضيعة للوقت و"تلوث" سمعي وبصري. ويهتمون بالعلاج بالاعشاب بدلاً من الأدوية إلا عند الضرورة. وتتم بعض حالات الولادة بينهم بواسطة "حكيمة" من الجماعة. ويعتبرون أن التعليم العالي ليس ضرورياً للمرأة، باعتبار أن هدفها الأمثل هو الزواج. وحيث انه "لا يمكنها الترقي روحياً لمعرفة الله معرفة أكثر عمقاً وقرباً إلا عن طريق الزواج ومن خلال الزوج لأنها خلقت من ضلعه". ويميل بعض الزوجات في المجموعة الى عدم العمل لأن دورهن في البيت والانشغال برعاية ابنائهن اهم، وبعضهن لا يفضل وسائل تنظيم النسل. ويلتقي أعضاء المجموعة ثلاث مرات في الأسبوع، واحدة لإقامة حلقة "الذّكر" تضم النساء فقط. وثانية لإقامة حلقة من "الذّكر" للرجال فقط، وثالثة وتسمى "الصحبة" ويلقى فيها درس على الرجال والنساء الغالبية محجبات في جلسة مختلطة. وعندما يلتقي الأعضاء في حلقات "الذّكر" تطفأ الأنوار باستثناء ضوء خفيض ليقرأ الجميع آيات قرآنية من قصار السور. وبعدها يشتركون بشكل جماعي في التسابيح الغنائية التي يختلط فيها اللحن الشرقي بلحن غربي، وتردد اسماء الله الحسنى والادعية. وبعد انتهاء "الذّكر" يلقى درس قصير باللغة الانكليزية عادة ما يدور على التوبة والتحكم في النفس باعتبارها مصدر الرغبات الدنيا والاحقاد والغضب والغيرة والحسد، ويدور في أحيان أخرى حول رحمة الله. وبعض هذه الدروس مأخوذ عن إحياء علوم الدين للإمام الغزالي مترجم إلى الإنكليزية، او عن نصوص تركية وفارسية مكتوبة بالألمانية وتترجم فوراً إلى الإنكليزية. وهناك دروس عن أهمية دور المرشد في توصيل العضو الى طريق الله، وقدرة المرشد الشيخ على ان يتحمل عبء المشاكل عن العضو وتخفيفها عليه. واما "الصحبة" فيبدأ الدرس فيها بعد اداء الصلاة، وبعض الصلوات الاضافية مثل "صلاة الاوابين وصلاة الغائب". ودرس "الصحبة" اطول من درس "الذّكر". وقد يكون مستواه الفلسفي أعمق لكن مضمونه يتسم أحياناً بالغموض، ويقترن في أحيان أخرى بلهجة تأديبية يشعر معها المتلقي انه يتلقى درسا في الادب. وتركز الدروس على فكرة "قتل الأنا" والتخلي عنها، وعلى اهمية التكافل والتزاور والمساندة بين أفراد الجماعة، واهمية العناية بالصحة والنوم والاستيقاظ مبكرا، وغير ذلك من المضامين التي تكرس روحية العلاقات بين الاعضاء، حيث لا يتسع مجال لجدل أو اعتراض. واللافت انه في حين ينشط بعض اعضاء المجموعة في مهنهم وأعمالهم، فإن بعضهم الآخر لا يرتبط بأي عمل اعتقاداً بأنه يشغلهم عن حياة العبادة والصلاة باعتبارها الحياة الأرقى. وفي كل الأحوال يلمس المرء بوضوح تكريس فكرة الزعامة ودور المرشد الذي "يعرف أكثر". وقادر على مساعدة العضو في حل مشاكله. ويقابل ذلك من الناحية الأخرى، حرص العضو على مشاورة راعي الجماعة او محاضر الدرس، والتطلع إلى لقاء المرشد في قبرص كضرورة من ضرورات الترقي او التقدم الروحي، والحرص على استطلاع رأيه في مشاريعه المستقبلية بما في ذلك الزواج أو العمل أو لاستئذانه القيام بفعل كذا أو كذا، وحتى في تسمية المواليد. وهكذا تصبح الجماعة ملاذاً روحياً وانسانياً واجتماعياً لكل عضو. رحلة الى قبرص ورحلة الجماعة الى قبرص لزيارة المرشد، تتم مرتين كل عام. مرة في الشتاء ومرة في الصيف، وقبل الزيارة يكثر تبادل الحكايات والقصص عن المرشد وكراماته وقدراته وحكمته. ويتهيأ الجميع باحساس أهمية لقاء المرشد وخلق رابطة روحية معه. وهكذا يشد أعضاء الجماعة رحالهم بالطائرة الى قبرص حيث يسكن في إحدى قرى الجزء الشمالي من الجزيرة المرشد الشيخ ناظم الحقاني. القرية جميلة وبيوتها خليط من الطراز الانكليزي واليوناني والتركي. وهناك بيت ضيافة لاستقبال الزوار ومبيتهم، أما إذا لم يكن يتسع لعددهم اذا زاد، يستأجر القادرون مادياً من الأعضاء بيتاً أو بيوتاً أخرى للبقية، الحياة بسيطة، والنساء وحدهن في ملابس محتشمة ورؤوسهن مغطاة بحجاب أو منديل، أما الرجال الذين يقيمون وحدهم أيضاً فيلبسون سراويل تشبه ما يلبسه الشيخ المرشد وقميصاً بأزرار جانبية يشبه القميص الباكستاني، وفوق رؤوسهم عمة تشبهاً بالمرشد. ويتعاون كل أعضاء الجماعة في أداء الخدمات المختلفة المطلوبة لمعيشتهم اليومية، النساء يساعدن في اعداد الطعام وقطف الفواكه، والرجال يساعدون في قطع الاخشاب وري الحدائق. اما المرشد الشيخ الحقاني فهو شخصية كاريزمية، يشد إليه محدثه، متقدم في السن، ابيض اللحية، وسيم الملامح. يتناول الأعضاء معه طعام الافطار والعشاء. ويؤمهم في الصلوات ويلقي عليهم بالانكليزية درساً دينياً بعد صلاة العصر. يسجله الاعضاء على أشرطة يتبادلونها فيما بعد. وتتسم احاديث الشيخ بالتباسط والود الشديد، ويستنتج من حديثه انه يتابع محطات الاذاعة والتلفزيون ومهتم بالأنباء والتطورات الدولية والاقليمية، وفي المساء تعقد جلسات "الذّكر" على ضوء الشموع، ويقودها المرشد. وفي نهاية الاسبوع يقوم الاعضاء برحلة إلى مدينة مجاورة حيث يؤم المرشد الصلاة في جامع المدينة. تليها جولات سياحية بسيطة. وعندما يعود الجميع الى القاهرة تكون قد توطدت علاقة قوية بين الأعضاء والمرشد، تتواصل من خلال الاستماع الى الأشرطة المسجلة. "مؤسسة رسمية" وسألت "الوسط" عبدالحي هولدايك، عن رأيه في مفهوم فصل الدين عن الدولة؟ فأجاب: "لا يوجد مثل هذا المفهوم في الإسلام المأخوذ عن الغرب الناس يحصلون على الحكم الذي يستحقونه، إن تغيروا تغير الحكم، لكنهما غير منفصلين، وهذا لا يعني انني ادعو الى حكومة اسلامية. انني اؤمن بأن الانسان يجب ان يكون مسؤولاً عن نفسه ومن حوله، وان يكون نموذجاً جيداً يساعد الناس ويتسامح. إذا حدث ذلك ربما يكون هناك أمل في بعض التغيير". وهل لديكم مشاكل مع الحكومة؟ يجيب: "نحن لا نتدخل في السياسة نحن متصوفون، وليست لدينا أي مشكلة، فالجماعة مشهرة لدى المجلس الأعلى للطرق الصوفية وهو مؤسسة رسمية". أما البروفسور عبدالله شليفر فيعتبر أن "الغرب يشوه الإسلام كما يشوهه المسلمون المحدثون، فلا الارهاب ولا خطف الطائرات إسلاماً، وإذا كان الغرب مستعداً للانقضاض على المسلمين في بقاع كثيرة من العالم، فإن كثيرا من المسلمين يوفرون للغرب الفرصة الذهبية لفعل ذلك بالارهاب والمجازر التي تدار باسم الاسلام، وفي رأيي انه منذ 20 عاماً مضت، كان المسلمون في وضع افضل، لأن الارهابيين لم يكونوا مهتمين بالإسلام، وانما كانوا ماركسيين او ثوريين عرب، اما الآن، فمع الأسف، أصبح الاسلام رائجا سياسيا وكنت أتمنى ألا يكون كذلك حتى لا ترتكب باسمه الجرائم التي ترتبط بالسياسة". والحديث مع البروفسور شليفر يفصح عن شخصية ثرية بالمعرفة والخبرات، ذلك أنه خاض تجارب كثيرة مثيرة منذ عاش في طنجة عندما كان في الستينات ينتمي إلى جماعة "البيز" الادبية الاميركية. وكان دائم الانتقال معهم الى بلدان كثيرة اخرى منها المكسيك وفرنسا وايطاليا. وكانت هذه الجماعة تتعاطف مع حركة كاسترو باعتبار انه، حسب قول شليفر، "ثوري اشتراكي بشكل غير محدد ولديه خطة اصلاحية" لكن شليفر يضيف انه زار كوبا كثيراً وقتها و"بدأت أرى تحول كاسترو الى الاستبداد والديموغاغية بعد وقت قصير من وصوله إلى الحكم، وكان ذلك صدمة كبيرة، وقد عدت الى طنجة وكنت متأثرا بهدوء المدينة ليلاً، حيث كان لآذان الفجر وقع طيب في نفسي المضطربة، وتأثرت بكرم المسلمين وتكافلهم في السراء والضراء، وقررت أن أصبح مسلماً فذهبت الى مسجد في بروكلين في أميركا وأشهرت اسلامي على يد الشيخ داود وهو اميركي من اصل افريقي علمني الصلاة والعبادة".