تابعت العواصم الاقليمية الآسيوية وبضع بلدان إسلامية باهتمام بالغ ما يحدث في العاصمة الأفغانية كابول التي ظلت تصطلي بصواريخ قوات حركة طالبان طوال السنوات الأربع الماضية، وها هي تواجه احتمال اندلاع معارك بالسلاح الأبيض في شوارعها في المعركة التي قد تكون آخر المعارك الكبيرة للسيطرة على أفغانستان، قبل أن تتفرغ طالبان لمواجهة قوات المهندس أحمد شاه مسعود والجنرال الشيوعي الأوزبكي عبدالرشيد دوستم في الشمال، ايذاناً ببدء معركة التقسيم المحتمل لأفغانستان. وتبدو الأوضاع في أفغانستان مثيرة لاهتمام عواصم إسلامية عربية عدة إثر ما ذكر عن اضطرار قادة جماعات "الأفغان العرب"، وفي مقدمهم المهندس اسامة بن لادن إلى الفرار في أعقاب سقوط جلال آباد حاضرة الشرق الأفغاني في أيدي طالبان. وتتردد أنباء عن وصول عدد من قادة "الأفغان العرب" إلى مقديشو إثر اتفاق مع زعيم الشطر الجنوبي من العاصمة الصومالية حسين محمد فرح عيديد على تمويله في مقابل سماحه لهم بالاقامة تحت حمايته. وعزز التكهنات بمغادرة بن لادن أنه شوهد مع المهندس محمود حاكم جلال آباد بالنيابة قبل سيطرة طالبان عليها بأيام. وبعد سيطرتها عليها عينت طالبان المهندس محمود حاكماً للولاية. غير أنه قتل مع عدد من مساعديه، وانضم بقية الموالين له إلى طالبان. وطبقاً للاجئين أفغان لدى باكستان اتصلت بهم "الوسط" هاتفياً يرجح ان بن لادن وعدداً من قادة جماعة "الجهاد" المصرية بدّلوا ولاءهم وانضموا إلى طالبان. غير أن الفوضى التي تشهدها مقديشو وبقية مناطق الصومال الأخرى تجعل من غير المستبعد لجوء تلك الجماعات إلى الصومال حيث لا توجد حكومة وحيث بقي النزاع بين الفئات الصومالية المتنافسة محدوداً. القوى الاقليمية لكن بن لادن ليس سوى قطرة في بحر الفوضى الأفغانية، والمصير القاتم الذي ينتظر هذه البلاد المسلمة. ولم تعد سيطرة طالبان على كابول وبقية مقاطعات افغانستان سوى مسألة وقت، الأمر الذي أثار مخاوف شديدة من تقسيم أفغانستان، خصوصاً أن القوى الاقليمية المجاورة تتسابق للفوز بأكبر قدر من النفوذ على المقاطعات الأفغانية المجاورة لحدودها. ويجمع المراقبون على أن الكلمة الحاسمة في مستقبل النزاع الأفغاني باتت الآن بيد قوى خارجية، خصوصاً باكستان والولايات المتحدة والدول الإسلامية المتهمة بمساندة طالبان. وفيما تنفي باكستان اتهام كابول لها بالتدخل في النزاع الدائر ومساندة الهجوم الذي أسفر عن سيطرة طالبان على جلال آباد، يبدو مثيراً للتساؤل أن ملا محمد عباس زعيم طالبان يبث رسائله الموجهة إلى الشعب الأفغاني عبر التلفزة الباكستانية. ويرى ديبلوماسيون آسيويون في إسلام آباد أن باكستان تتعمد أن تنأى بنفسها عن النزاع الأفغاني حتى تحكم طالبان قبضتها على العاصمة كابول، وقد تغض طرفها حتى تسيطر طالبان على قاعدة بغرام الجوية التي تبعد نحو 30 كيلومتراً شمال كابول، ثم تسعى بعد ذلك إلى جمع القادة الأفغان من مختلف الفصائل في محاولة للتوصل إلى اتفاق مصالحة. ويبدو ان إسلام آباد - الغارقة هي الأخرى في شؤون عنفها المذهبي واغتيالاتها السياسية - تريد ان تستخدم عودة ملك افغانستان السابق محمد ظاهر شاه، الذي يقيم في منفاه في روما، ورقة أساسية لإعادة ترتيب البيت الافغاني. غير ان عودة ظاهر شاه تجد معارضة عنيفة من "طالبان"، والفئات الافغانية الأخرى. كما ان ايران نددت صراحة بالاتجاه الى اعادة ظاهر شاه. لكن المراقبين يرون ان إيران منذ سقوط هيرات ومناطق غرب افغانستان القريبة منها بأيدي طالبان، لم يعد لها نفوذ يذكر في تلك البلاد. وإذا كتبت معركة كابول الحالية نهاية الائتلاف بين المجاهدين الذين يتزعمهم الرئيس برهان الدين رباني والمهندس قلب الدين حكمتيار والمهندس احمد شاه مسعود فستكون ايران بلا حليف في افغانستان كلّها. معقل مسعود بيد ان نهاية ائتلاف رباني - مسعود - حكمتيار قد لا تكون وشيكة، وقد لا تأتي مواكبة للهزائم المتوالية التي جاءت بقوات طالبان الى بوابات كابول الأسبوع الماضي. إذ ان المهندس مسعود الذي يشغل منصب وزير الدفاع في الحكومة الائتلافية لا يزال يسيطر على المناطق الشمالية من كابول، خصوصاً قاعدة بغرام الجوية التي لا تزال المكان الوحيد في البلاد الذي يتمتع بخدمات الوقود والكهرباء. ويبسط مسعود نفوذه في منطقة تمتد من تشاريكار حتى جبل السراج وكابيسا وبروان. وترابط القوة الضاربة من مقاتليه عند جبل السراج الذي يبعد نحو 80 كيلومتراً شمال كابول. وكان ملفتاً ان طلائع طالبان التي تسللت الى كابول الأسبوع الماضي حرصت على توجيه نداء إلى أنصار مسعود تخيّرهم فيه بين تسليم انفسهم او الهلاك. وكان مثيراً ان هذه الرسالة نفسها وجهها بصوته زعيم "طالبان" من شاشة التلفزيون الحكومي الباكستاني. غير أن قاعدة بغرام نفسها تواجه ذيول الحصار الذي اشتدت قبضته حول كابول. اذ لم يعد يربطها بالعاصمة سوى طريق وحيدة. أما الطريق الحيوية الثانية فقد زرعتها قوات الحكومة بالألغام لمنع أي تقدم محتمل لقوات طالبان. تسيطر حركة طالبان على 18 من محافظات البلاد ال 30. غير أن مستقبلها في حكم افغانستان غامض جداً، فهي لا تملك قادة لهم خبرة تذكر في السياسة والديبلوماسية. وكان محيراً حقاً نجاحها في احتلال جلال اباد التي كانت تدافع عنها قوات تخضع لامرة رئيس الحكومة المهندس حكمتيار. إذ دخلتها قوات طالبان من دون مقاومة. وذكر ماراك غولدينغ مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، الذي زار افغانستان قبل اسبوعين، للصحافيين في نيويورك ان سكان جلال اباد استقبلوا رجال طالبان "بأذرع ممدودة" عند دخولهم المدينة. وقال ان تشبث طالبان برغبتها في "قطع دابر الفساد وبسط حكم الشريعة" يجد قبولاً كبيراً من الأفغان الذين هدتهم الحروب المستمرة بلا انقطاع منذ 17 عاماً. غير أن ديبلوماسيين في مقر المنظمة الدولية قالوا ل "الوسط" ان اتصالات تجرى بين الأممالمتحدة وطالبان لابلاغها بأن العالم لن يساعدها في اقامة "حكم اسلامي متشدد". فحيث بقيت السيطرة للطالبان في محافظاتافغانستان الأخرى أمرت الرجال بارسال لحاهم، وحجب النساء عن العمل، ومنعت الفتيات من دخول المدارس. وينتمي معظم مقاتلي طالبان وقادتها الى الباتانيين الذين يتحدثون اللغة البشتونية. ويعتقد ان نصف عدد سكان افغانستان باتانيون. كما أن نسبة كبيرة من سكان باكستان ينتمون الى هذا الجنس. وربما كان ذلك عاملاً رئيسياً في التقارب الشديد بين اسلام اباد وطالبان. وهي الصلة التي حدت بالرئيس رباني وحلفائه الى اتهام باكستان بمساعدة طالبان على اجتياز الحدود المشتركة للتسلل الى جلال اباد من طريق تمر بالأراضي الباكستانية. ويتهم زعماء طالبان الهندوروسياوايران بالوقوف وراء الائتلاف الحاكم في كابول. وهو أمر دأبت موسكو ونيودلهي على نفيه. غير ان ايران لم تخف اتصالاتها المستمرة مع كابول على مستوى نواب وزير الخارجية الدكتور علي أكبر ولايتي. حسابات دوستم ويبقى البيدق الأخير في ساحة الأزمة الافغانية الجنرال دوستم الذي ينتمي الى الاوزبك الذين يسكنون مناطق الشمال الافغاني المحاذية لطاجكستان. وكان دوستم، وهو شيوعي سابق كان يقود سلاح الجو الافغاني قبل انهيار الحكم الشيوعي، توصل الى اتفاق مع حكومة رباني، قبل نحو شهر، على تبادل الأسرى. لكن الاتفاق لم ينفذ بسبب الشكوك المتبادلة بين الجانبين. كما أن سقوط جلال اباد في أيدي طالبان أغرق المسؤولين في العاصمة في دوامة البحث عن سبل لتعزيز الدفاع عن كابول. وقبل أن تبدأ تلك المهمة التي أوكلت الى المهندس مسعود فوجئ الائتلاف بسقوط ساروبي 60 كيلومترا شرق كابول التي تعد المعقل الرئيسي لقوات رئيس الوزراء حكمتيار. ويقيم دوستم علاقات طيبة، وان بدت غامضة، مع الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة. وكان زار بريطانيا قبل بضعة أشهر حيث يعتقد أنه اجتمع مع عدد من مسؤولي اجهزة الاستخبارات الغربية، وربما أبرم اتفاقات للحصول على قطع غيار لسرب الطائرات الذي يسيطر عليه ويضمن له تفوقاً على منافسيه. كما انه على علاقة جيدة مع روسيا وطاجكستان. غير أن المراقبين يرون ان الصراعات الداخلية التي خاضها دوستم مع بقية الزعماء القبليين الاوزبك أضعفت قوته كثيراً. فدرالية الاقليات وينادي الجنرال الشيوعي السابق بضرورة تطبيق نظام فيديرالي تحفظ فيه حقوق الأقليات العرقية الافغانية المهضومة، حسب وجهة نظره. وإذا كتبت الغلبة في النزاع الحالي لحركة طالبان فقد يجد دوستم - وربما انضم اليه المهندس مسعود - نفسه مضطراً الى قضم الشمال الافغاني ليقيم فيه دويلة تحظى بدعم روسي واوزبكستاني وطاجيكي، وربما بمساعدات غربية. غير أن سيطرة طرف بعينه على افغانستان أمر لم يتحقق منذ العهود الاستعمارية. وكانت روسيا الاتحاد السوفياتي السابق آخر قوة محتلة تضطر الى الخروج من المسالك الجبلية الوعرة في افغانستان ملطخة بدماء قتلاها في حرب استمرت عقداً كاملاً. والواقع ان حكاية افغانستان لا تختلف كثيرا عن قصة الصومال وليبيريا... ففي كل من هذه البلدان تتوافر الموارد الطبيعية وامكانات النمو والعنصر البشري، غير أن جشع الزعماء القبليين والطائفيين يجعلهم مثل "دراكولا"، كلما اشتم رائحة الدم زاد عطشه للدماء.