الزحام الجماهيري على فيلم "ناصر 56" له ما يبرره. بعض المزاحمين عاصر الاحداث وراح يستنشق عطر تلك الايام التي هزت عالماً بأكمله. اما الغالبية من الشباب الذين قرأوا ورصدوا الاحداث على صفحات الكتب، او من خلال مشاعر غائرة حرفتها في وجدانهم اعاني عبدالحليم حافظ وام كلثوم ومحمد عبدالوهاب، فقد غرقوا تماماً في مشاهدة ما لم يعاصروه. هكذا دائماً يكشف كل استدعاء بالصوت او بالصورة لتلك الايام عن عمق الاحساس الشعبي المصري بثورة تموز يوليو 1952 رغم ادراك المتدافعين بأن ما يشاهدونه تشخيص لماضٍ يحاول الاقتراب من الحاضر. وبعيداً عن التمثيل، تنشر "الوسط" عدداً من الصور التاريخية النادرة التي حصلت عليها من اسرة المصور الصحافي المصري الراحل محمد يوسف، وهي مجموعة نادرة حقاً من ارشيفه الخاص ذات قيمة وثائقية وتاريخية مهمة. بعد عامين من إتمام تصوير فيلم "ناصر 56" الذي عرض في مهرجان القاهرة للتلفزيون العام الماضي، اعيد تدشين الفيلم مجدداً قبل ايام في حفلة خاصة اقيمت في دار سينما التحرير في حضور مئات النقاد والفنانين، وبعد اختصار ثلث ساعة من زمن الشريط الذي صارت مدته الآن ساعتين. وعلى رغم ان الفيلم الذي بدأ عرضه للجمهور في 15 دار سينما في مصر، سبقته حملة دعائية ضخمة، فان المسؤولين في قطاع الانتاج في التلفزيون المصري اكدوا انه لن يعرض على شاشة التلفزيون قبل مضي عام ونصف. ويحاول الفيلم الذي اثار ضجة كبيرة في القاهرة طوال تصويره وانتاجه تقديم "تاريخ فني" لعملية تأميم قناة السويس، منذ جلاء الانكليز عن مصر وحتى قيام حرب 1956، وخروج التظاهرات التي ملأ هتافها شوارع مصر "حنحارب... حنجارب". لكنه في الوقت نفسه يحاول ان يقدم صورة اخرى لجمال عبدالناصر الانسان، بعيداً عن صورته زعيماً يخوض معركة. ويحاول ان يقترب جانباً من حياته الأسرية، وهو جانب نراه ايضاً في الصور النادرة المرفقة التي تكشف زوايا اخرى في حياة قادة ثورة تموز يوليو 1952 وعبدالناصر، لم يرها احد من قبل. ثلاث من هذه الصور تروي ذكريات رحلة صيف قام بها بعض اعضاء مجلس قيادة الثورة في بداية تلك المرحلة التاريخية المهمة. الصورة الاولى يبدو فيها عبدالناصر وجمال سالم خارجين لتوهما من سباحة في مياه البحر الابيض المتوسط. والثانية يظهر فيها صلاح سالم وعبدالناصر وعبدالحكيم عامر في تدريب رماية بالمسدسات على رمال الشاطئ. وفي الصورة الثالثة مجموعة تضم اعضاء مجلس الثورة الذين شاركوا في تلك الرحلة وأبرزهم عبدالناصر وعامر وصلاح وجمال سالم، وثروت عكاشة... واعوان آخرون بعيداً عن الرسميات. ولا يعرف على وجه الدقة ما هو تاريخ التقاط هذه الصور الثلاث، غير ان تحليل ملامح ابطالها يشير إلى انها ربما التقطت في بداية الخمسينات، في الفترة التالية لقيام الثورة، خصوصاً ان وجوه قادة تموز يوليو لم تكن قد تأثرت بعد بعوامل تقدم السن وتأثيرات الاحداث السياسية، كما انها تشير إلى ان العلاقات الشخصية لم تكن قد عانت بعد من الخلافات التاريخية التي عرفت لاحقاً. الصور الثلاث نفسها تعطي فكرة عن مدى عمق العلاقة بين عامر وعبدالناصر، في مرحلة تعيين الاول قائداً عاماً للقوات المسلحة، برتبة لواء - التي رقي اليها مباشرة من رتبة صاغ رائد - وهو ما اعترض عليه في حينه الرئيس الراحل اللواء محمد نجيب. وكان الرئيس نجيب كتب في مذكراته "ثُرتُ ثورة عنيفة معارضاً ترقية عبد الحكيم عامر من رتبة الصاغ إلى رتبة اللواء مرة واحدة، وقلت ان ذلك سوف يخلق نقمة عامة في الجيش قد تكون صامتة ومطوية في الصدور، ولكنها ستكون قابلة للانفجار في اي لحظة". رداً على هذا فان الصور توضح ان قادة الثورة الشبان كانوا غير عابئين بتحذيرات نجيب. لكنها في الوقت نفسه تشير إلى عمق العلاقة بين عامر وعبدالناصر قبل ان تتعرض لأول هزة عنيفة العام 1956، حين اعلن عبدالناصر تأميم قناة السويس كما يرصد فيلم "ناصر 56"، وكما يرصد كتاب "ناصر وعامر - الصداقة والهزيمة والانتحار" الذي اصدر مؤلفه عبدالله إمام طبعة جديدة منه قبل ايام من عرض الفيلم. وترصد ايضاً في جانب آخر منها اجتماعاً جماهيرياً في ميدان عابدين العام 1954، وهو الاجتماع الذي حضره الرئيس محمد نجيب، في اعقاب وأثناء ازمة ذلك العام التي دفعت الجماهير للتظاهرات مطالبة بعودة الضباط إلى الثكنات. وهو الاجتماع الذي يقول "الاخوان المسلمون" انهم حضروه، وان القاضي عبدالقادة عودة - الذي أعدم فيما بعد - حضره إلى جانب محمد نجيب في محاولة لتهدئة الجماهير الساخطة. ويتضمن فيلم "ناصر 56" لقطات لاجتماع حاشد عقد في ميدان المنشية اعلن فيه الممثل احمد زكي الذي مثّل دور عبدالناصر تأميم قناة السويس. وقد بُني في مدينة الانتاج الاعلامي ديكور خاص مماثل للميدان الذي تغيرت حالياً كثير من معالمه في الاسكندرية. والتقطت صور قادة الثورة بملابس البحر في شاطئ المعمورة، لكنها - اي الصور - لا تكشف اي شيء من ملامح الشاطئ المنتزه الذي شهد هو الآخر رحلات مماثلة قام بها قادة الثورة المصرية الذين اختاروا هذين الشاطئين مقرين لاقامتهم ذلك الصيف. وكانت حكومات ما قبل ثورة 1952 تفضل الاقامة صيفاً في بولكلي وسان استيفانو وهما منطقتان وسط الاسكندرية. وقد فضل قادة تموز يوليو شرق المدينة حيث بنيت المقصورات والاستراحات التي احتفظ بها عدد كبير منهم بعد ذلك. ويذكر ان الرئيسين انور السادات وحسني مبارك فضّلا تمضية الصيف غرب الاسكندرية للابتعاد عن الزحام بعدما صارت الاسكندرية احدى المناطق التي تعج بالمصطافين. وتضم المجموعة التي تنشرها "الوسط" ثلاث صور اخرى التقطت العام 1954، الاولى لجمال عبدالناصر في مكتبه في وزارة الداخلية، اذ كان وزيراً للداخلية برتبة بكباشي مقدم. والصورة الثانية لعبدالناصر العام 1954 على سرير في احدى المستشفيات العسكرية يعوده صلاح سالم - وهي واقعة غير معروفة مطلقاً ولم تتحدث عنها اي مصادر تاريخية. لكن الصورة الثالثة تكشف عن لقاء خاص بين عبدالناصر وأنور السادات في الفترة الزمنية نفسها لأن ناصر يبدو في الصورة برتبة بكباشي في مبنى مجلس قيادة الثورة، على مائدة غداء سريع اعد في مجلس القيادة الذي اعلن قبل ايام انه سيصبح متحفاً لذكريات قادة الثورة. ومن المؤكد ان هذه الصورة ستكون احد عناصر مجموعة ضخمة من صور وممتلكات قادة الثورة سيعرضها المتحف. وعلى رغم ان المجموعة لا تشير إلى حدث سياسي خاص، فانها تكشف عن أمرين مهمين للغاية، الاول، ان قادة الثورة حرصوا على ان تكون لهم حياتهم الخاصة بعيداً عن عيون المواطنين. والثاني: انهم كانوا حريصين للغاية - لا سيما عبدالناصر - على ان تسجل كل لحظات حياتهم بالصور بقدر الامكان.