على الرغم من اعتزاله الكتابة قبل اربعة عقود، يبقى محمود المسعدي حاضراً في مشاغل وتجارب الاجيال اللاحقة، فالبعض صنّمه والبعض يمعن في تقليده. اما نتاجه فيشكل مفترق طرق في مسار الأدب المغاربي الحديث. والكاتب التونسي الذي تقلد بعد استقلال بلاده العديد من المناصب الرفيعة، لعب دوراً حاسماً في بعث النهضة الثقافية فيها. "الوسط" تقوم بجولة في عالم صاحب "السد" الذي اعاد الاعتبار إلى اللغة العربية ايام كانت تعاني في تونس من التهميش والتزمت واللامبالاة. قبل ان يبلغ الثمانين بقليل، اعتزل الكاتب التونسي الكبير محمود المسعدي الحياة السياسية التي لعب فيها دوراً بارزاً على مدى نصف قرن. فبعد ان ناضل في صفوف الحركة الوطنية قبل الاستقلال، عيّن وزيراً للتربية والتعليم 1958 - 1968، ثم وزيراً للدولة 1969 - 1973، فوزيراً للثقافة 1973 - 1976، وأخيراً رئيساً لمجلس النواب التونسي من مطلع الثمانينات حتى اواخرها. وهو الآن يعيش في بيته المتواضع في ضاحية باردو، غربي العاصمة، محاطاً بالكتب وبلوحات الرسامين الأثيرين إلى نفسه مثل زبير التركي وعمار فرحات وحاتم المكي. لا يكاد المسعدي يترك عزلته إلا في ما ندر. آخر مرة ظهر فيها علناً تعود إلى الاثنين 27 ايار مايو 1996، يوم نظم "بيت الحكمة"، بالاشتراك مع السفارة الهولندية في العاصمة التونسية، احتفالاً في مناسبة صدور ترجمة هولندية ل "مولد النسيان" الذي كتبه قبل ما يزيد على الأربعين عاماً. فمن هو هذا الكاتب الذي لا نكاد نعثر على نظير له في الأدب العربي المعاصر. ابصر المسعدي النور سنة 1911، في العام نفسه الذي شهد ولادة نجيب محفوظ. وتشاء مصادفات التاريخ ان يكون هذا العام محطة مهمة في تاريخ تونس الحديث، اذ شهد مظاهرات صاخبة، واصطدامات عنيفة بين الوطنيين وعسكر الحماية الفرنسية التي هيمنت على البلاد منذ 1881. وكانت قرية تازركة مسقط رأسه، مسرح احداث أليمة في منطقة "الوطن القبلي"، ذلك الذراع الاخضر الممتد في البحر باتجاه صقلية. وكان أبوه رجل دين جليلاً، يعلّم الصبية القرآن، ويصلي بالناس في مسجد القرية الصغيرة. مع هذا الأب الذي "رباه على ان الوجود مغامرة طهارة، جزاؤها طمأنينة النفس الراية في عالم اسمى فأسمى"، رتّل الصبي محمود طفولته الاولى على انغام القرآن وترجيع الحديث. ولا نكاد نعثر على أصداء هذه الطفولة إلا في نص وحيد بعنوان "السندباد والطهارة"، وفيه يصف المسعدي اجواء البيت العائلي والكتاتيب: "يتذكر انه عرف كثيراً من معاطن الحيوان وشمله كثير من حظائر الناس: في بيت ابيه اولاً في قريته، عندما كان صغيراً ينام وأمه وأبيه وأخوته السبعة على فراش واحد، فيصبح وعليه من لعاب اخته وبول اخيه الاصغر، ويقول كبشار: هذه ثمرة صلة الرحم. ثم في الكتّاب، حين كان صبياً يلقن القرآن، ويجلس في الشتاء والصيف في سقيفة ضيقة تراكم فيها خمسون صبياً، ليس منهم إلا متنفس بآخر، او مطلق رجليه بالكلع والريح، فائح يحامل جسده وامعائه، حتى يمتلئ الكتاب نكهة وغيماً". في العاشرة من عمره، دخل الصبي محمود المدرسة العصرية، وبدأ يتعلم اللغة الفرنسية. وسرعان ما أبدى موهبة خارقة خوّلته فيما بعد، وهو على عتبة السادسة عشرة، الدخول إلى المدرسة الصادقية. والمدرسة المذكورة بعثها المصلح الشهير خيرالدين باشا التونسي اواخر القرن الماضي، لإعداد النخبة التونسية المستنيرة القادرة على اصلاح اوضاع البلاد، وتحديثها اقتصادياً وسياسياً وعلمياً وثقافياً، عبر الانفتاح على الحضارة الاوروبية. المدرسة الصادقية والقصة الأولى وبالفعل تخرج من هذه المدرسة العتيدة رجالات وشخصيات تركت بصمات عميقة في تاريخ تونس المعاصر. ولعل ابرز هذه الشخصيات الحبيب بورقيبة الذي قاد حركة الاستقلال طوال عقدين وحتى الخمسينات، ثم اسس في العام 1958 اول نظام جمهوري في البلاد. في المدرسة الصادقية، فتن الفتى الموهوب بالمطالعة فراح يقرأ كل ما يقع بين يديه. ثم بدأت ميوله تتحدد شيئاً فشيئاً. وها هو يقبل اقبالاً نهماً على مؤلفات الادباء والشعراء العرب القدماء، من امثال أبي حيان التوحيدي والجاحظ وأبي فرج الاصفهاني وأبي نواس والغزالي وابن رشد وابن عربي. اما في مجال الادب الفرنسي فاستأثر باعجابه الكلاسيكيون ايضاً، من امثال راسين وموليير وكورناي وشاتوبريان وفيكتور هوغو. وكان لا يزال طالباً في المدرسة الصادقية حين كتب قصة ذهب عنه الآن عنوانها، ولم يعد يحتفظ بنصها. كل ما يذكره بشأنها ان موضوعها كان يمت إلى ثورة ابن الاشعث في القيروان، وانه وقعها باسم مستعار ونشرها في احد اعداد مجلة "العالم الأدبي" التي كانت من اكثر المجلات الادبية التونسية انتشاراً ورواجاً في مرحلة ما بين الحربين. بعد نيله شهادة البكلوريا بامتياز، سافر الشاب محمود المسعدي، مطلع الثلاثينات، إلى باريس لينتسب إلى جامعة السوربون. في ذلك الوقت كانت اوروبا تعيش ازمة اقتصادية خانقة، تمخضت عن صعود الحركات الفاشية. اما الاوضاع الثقافية والفكرية والفنية والأدبية، فكانت تعرف نشاطاً منقطع النظير السورياليون يملأون مقاهي باريس داعين إلى حياة جديدة تنتفي منها الأذواق البورجوازية الخسيسة. وفيها يستعيد الفرد حريته التي سلبتها منه الحضارة التقنية الزاحفة على العالم مثل طاعون. كان جيمس جويس منشغلاً في عزلته الباريسية بكتابة "يقظة فينيغن"، بعد رائعته "يوليس" التي احدثت رجة عنيفة في عالم الفن الروائي. اندريه مالرو الذي غامر في الهندالصينية، واختلط بالثوار من كانتون وشانغاي، عاد ومعه فكرة روايته "الوضع الانساني" التي ستأتيه بجائزة "غونكور" سنة 1933. لوي فردينان سيلين يتهيأ لاصدار "رحلة إلى آخر الليل" التي صور فيها بشاعة الحرب العالمية الاولى بلغة سردية لم يألفها الناس من قبل... هكذا عاش الشاب المتعطش إلى المعرفة تحقق الحلم الذي طالما راوده في بلاده، فانغمس كلياً في الحياة الثقافية الباريسية. بل انه احياناً كان يترك مدارج الجامعة، والدروس "الثقيلة المضجرة" ويفر إلى المقاهي والصالونات الأدبية منصتاً، باحثاً، متقصياً، متابعاً بانتباه الجدل الدائر بين التيارات الادبية والفكرية، مدققاً النظر في معارض الفن الحديث، متشرباً بنهم كل ما هو جديد وغير مألوف بالنسبة اليه. والذين عرفوه في تلك الفترة، يقولون انه كان يعيش حياته بالطول وبالعرض، وان اعجابه لم يعد مقتصراً على الكلاسيكيين الفرنسيين، بل اتسع ليشمل المواهب الصاعدة من امثال مالرو وسيلين. كما تعمقت معرفته بأبرز الوجوه الفكرية والادبية القديمة من امثال بول فاليري واندريه جيد وبرنانوس وجان بولان ومونترلان. ثم لم يلبث المسعدي ان تجاوز حدود الأدب الفرنسي، لينهل من ثقافات وآداب أمم اخرى. وها هو يلتهم آثار الاغريق القدماء أسخيلوس - سوفوكل - هوميروس والفلاسفة الألمان خصوصاً شوبنهاور ونيتشه والانكليزي شكسبير والنروجي ابسن والهندي طاغور والباكستاني محمد اقبال. عن هذا الاخير كتب لاحقاً: "حاول محمد اقبال ان يمحص بصفة أدق خصوصية الذات الفردية، وامكاناتها وقدرتها وطاقتها. فالذات الانسانية هذه ذات خاصة فردية متميزة عن سائر الذوات من حيث استقلال الارادة والمسؤولية". ولعل قراءة محمد إقبال وهو لا يزال طالباً في السوربون، هي التي دفعت المسعدي إلى اعادة اكتشاف الشرق. لا الشرق العربي فحسب، بل ذلك الشرق الشاسع الممتد حتى تخوم الصين بآدابه ومعتقداته ولغاته وأديانه وأساطيره ومذاهبه وفلسفاته. في "المسافر" يرى ان سر بقاء الشرق هو "هذا النفي لكل حركة واضطراب، وهذا الخلاص من كل زمان. تنفيها وتخلص منها اهرام الفراعنة، واطمئنان بوذا وايمان الانبياء... وهل أعلى وأسمى من هذا التماسك والتمالك من حيرة النفس، وهذه الثقة بالحكمة، وهذا الثبات للتحول والتقلب؟ وهل اعظم من هذه الحكمة تنحو الاحداث الزائلة وتثبت، وتبقى، وحدها قائمة الذات؟". تحت اشراف المستشرق الفرنسي بلاشير، اعد محمود المسعدي اطروحة حول أبي نواس وشعره. وعند تخرجه سنة 1936، عاد إلى تونس ليعمل استاذاً للغة العربية في المعاهد الثانوية. وفي هذه الفترة اقترب من الحركة الوطنية والنقابية، واضطلع فيهما بمسؤوليات عدة، فكان نصيبه من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي الاضطهاد والإبعاد. اما نشاطه الأدبي والثقافي فكان غزيراً ومتنوعاً. اذ اشرف بين عامي 1944 و1947 على رئاسة تحرير مجلة "المباحث" الأدبية. وفيها كتب العديد من المقالات والدراسات التي تتناول "مشكلة المعرفة في حكمة القدماء وفلسفة المحدثين"، و "مشكلة المعرفة عند الغزالي"... الغزالي بين قحط وماء "هوذا الغزالي - يكتب المسعدي - قصة مأساة رائعة في مشكلة ومعضلة: مشكلة قدرة الانسان على العلم والمعرفة. هوذا الغزالي يفني العمر في طلب الحقيقة، ويتيه السنين الطويلة في اصقاع الفكر وخلاء النفس، ويجد المرارة والحيرة والظمأ، ويتردد بين القحط والماء، والثقة والشك، كالصدى بين الجبلين في الوادي، وتقع نفسه على جميع علوم عصره وجميع المعارف ومذاهب الفكر، فهي عليها كالنار على الحديد: تهب فتذيب وتفني، وتذيب الباطل ذوباً شعاعاً، ولا تثبت لها إلا نواة الحق الصلبة التي لا تصيبها نار فكر ولا يأخذها شك او ريبة. وقد كادت النفس ان تذيب كل شيء عند الغزالي. وجاءه الظمأ المميت، وأدركه اليأس الذي لا ينجو منه إلا ذوو القوة والبأس". كما كتب المسعدي في المجلة نفسها دراسة عن ابي العتاهية كما يراه صاحب "الاغاني" ابو فرج الاصفهاني. وفيها حاول ان يثبت كيف ان "تزهد ابي العتاهية لم يكن يعكس معاني الجمود النفساني والوعظ القروي والحكم العامين"، بل كان متصلاً اتصالاً وثيقاً ب "معنى مأساة النفس الطموح الطموع، والتطلع الذي لا يني ولا يقف، والجوع الذي لا يسكن، والظمأ الذي لا يشفى، إلى وجه من وجوه المأساة البشرية العامة... إلى الأدب. والأدب مأساة او لا يكون!". وتعتبر هذه الفترة، فترة الاربعينات، اخصب فترة في حياته الادبية، اذ انه كتب فيها جل مؤلفاته التي اشتهر بها في ما بعد: "السد"، "حدّث ابو هريرة قال"، "مولد النسيان"، "المسافر" و "السندباد والطهارة"... وبعد حصول تونس على استقلالها سنة 1956، انقطع محمود المسعدي عن الكتابة انقطاعاً نهائياً، وتقلد العديد من المناصب الرفيعة. لكنه يبقى في الذاكرة الجماعية مبدعاً ليس له نظير في الأدب العربي المعاصر. فهو متفرد في لغته وأسلوبه وموضوعه، وجميع ما كتبه لا يمت بأي صلة للأصناف الادبية السائدة في عصره. واذا شئنا العثور على اصداء لأدبه، علينا ان نعود إلى آثار القدماء كالتوحيدي والأصفهاني وابن المقفع وابن عربي. كما يمكننا ان نتبين تشابهاً جلياً احياناً وخفياً احياناً اخرى، بين اشكال ما يكتبه وبين اشكال القصص الذهنية كما هي الحال عند ابن طفيل والسهروردي وبعض المتصوفة الآخرين. ولعل ما يثير انتباهنا عند المسعدي هو لغته. لغة يصفها هو بأنها "كلها رمز لطيف". ذلك انه يرى ان العربية "تكره التكرار والتحليل والالحاح والتفهيم الثقيل، وهي لا تليق إلا بذوي الافهام الخاطفة وذوي الوجدان الحساس المتيقظ". وهي "ترسل الكلام وثبات كوثب الطير العتيد وتقفز بالقارئ قفزاً وتطفر به طفراً طاوية من اللفظ كل ما يستغنى عنه في تأدبة ثنايا المعاني المفهومة". اما عن علاقة هذه اللغة بالمواضيع التي يطرحها، فيقول: "حاولت في كل ما اكتب ألا يكون "معنى" الشخص - او الشخصية الوجودية - معنى فردياً محدود المعنى. بل كانت دائماً رغبتي ان يكون الشخص خلاصة اشخاص والجملة حبلى بمعان عدة". تحضر اللغة في كتابات المسعدي حضوراً طاغياً، فتكاد تغطي على الشخصيات المحورية. فلا غيلان بطل "السد"، ولا أبو هريرة بطل "حدث ابو هريرة قال..."، ولا مدين بطل "مولد النسيان"، يمتلكون القدرة على كبح جموح اللغة والسيطرة عليها. فهل قصد من خلال ذلك إبراز امتلاكه لناصية العربية فحسب، واثبات قدرته الفائقة على اللعب بالألفاظ والكلمات؟ ام ان الكاتب التونسي سعى إلى تحقيق رغبة استبدت به باكراً، وهي اعادة الاعتبار إلى اللغة العربية التي كانت تعاني في زمنه من التهميش والتزمت واللامبالاة؟ الاستعمار الفرنسي كان يحارب لغة الضاد، وشيوخ الجامعة الزيتونية راحوا يعتقلونها في قمقم. اما المسعدي فانصب جهده منذ البداية على مسألتين: دحض النظرية الفرنكوفونية التي تقول ان اللغة العربية في حالة احتضار لأنها لم تعد تمتلك المكونات التي تؤهلها لمواكبة العصر. وإزاحة الغبار المتراكم عليها منذ مئات السنين. لذا جاءت اللغة التي كتب بها جارفة ومفعمة بالتحدي. ماذا عن مفهوم الأدب لديه؟ يجيب محمود المسعدي ان جميع الأمم في مختلف العصور فهمت الادب مأساة. "مأساة الانسان المتردد بين المثل السامية والنزعة الحيوانية. المعذب بسبب آلام العجز والشعور بالعجز، امام القضاء. امام الموت. امام الحياة. امام الغيب. امام الآلهة. امام النفس". ويحيلنا صاحب "السد" إلى ابن المقفع الذي "ترجم كليلة ودمنة بما فيه من روعة المأساة الانسانية، وما يملأ جوانبه من صرخات الحيرة البشرية". يتحدث عن ابي نواس الذي "قضى كامل حياته في مرارة الغياب، واستبق الموت منشداً في شعره مأساة الانسان الذي تلعب به الاقدار". وهناك ايضاً ابو العتاهية وموته، والجاحظ وفكره، وابن الرومي وطبيعته والمتنبي وطموحه، والغزالي وآلام المعرفة، والمعري وعواصف الهول، وابن خلدون ومقدمته. "السد" ملحمة جيل انشغل المسعدي بهذا المفهوم في كل ما كتب. في "السد" يتناول حالة وجودية عاشها رجل اسمه غيلان في مرحلة معينة من حياته، "عندما سلك مسلكاً واتخذ منهجاً للاضطلاع بمسؤوليته في الوجود". واختار غيلان ان يكون رجل عمل وفعل، وان يكون متمرداً على كل ما يدعو إلى الاستسلام والاذعان، او إلى الرضى بما هو "موجود كما هو موجود". وغيلان يشبه سيزيف في بعض النواحي، ويختلف عنه في نواح اخرى. حين يشرع في بناء السد، تعارضه ميمونة التي لا ترى في مثل هذا العمل غير العناد والمكابرة، بل هي تذهب إلى أبعد من ذلك زاعمة ان سعي الانسان بهدف الارتفاع عن منزلته البشرية نوع من الكفر! ويتواصل الصراع عنيفاً بين الاثنين إلى ان ينهار "السد"، وتهشم صخور الجبل "الأجرد الغليظ" أحلام غيلان الطامح إلى "تحقيق رسالته في الوجود على أكمل صورة". ونذكر الكاتب بما أورده بعض النقاد من ان "السد" يعكس تأثراً بالفلسفة الوجودية، وقراءة وافية لجان بول سارتر وألبير كامو وربما هايدغر. يجيب المسعدي ان نصه نابع بالأساس من تجربة جيله. ذلك الجيل الذي "بذل من الاجتهاد في الرأي والسعي إلى استجلاء حقيقة منزلة الانسان ورسالته في الكون، كما يتصورها الاسلام... هكذا اكتشفت ان التراث الاسلامي في مجمله يدعو الانسان إلى ان يكون مسؤولاً... إلى ان يكون مبدعاً، وإلا كان ناقص الايمان". ويضيف المسعدي موضحاً المعنى الاساسي الذي قصده من خلال "السد": "لا يكون الانسان خليفة الله على الارض الا اذا اظهر قدرته على الابداع من خلال "العمل الصالح" الذي يشمل اصلاح المنزلة البشرية، وخلق ما لا يرفع منزلة الانسان على الدوام، درجة بعد اخرى، بحيث يسمو عن المقومات المادية والاقتصادية، ويبلغ الابعاد المعنوية والاخلاقية والفكرية والروحية". بين نيتشه وأبو هريرة اما "حدث أبو هريرة قال..."، فلا ينكر المسعدي اليوم انه كتبه تحت تأثير "هكذا تكلم زردشت" لنيتشه، مواصلاً الحفر في الموضوع نفسه. والكتاب كما يُعرف به صاحبه "قصة شخص خيالي غير الصحابي المعروف، في شكل سلسلة احاديث بأسانيدها - الخيالية ايضاً - على غرار أحاديث الأدب القديم". يخوض أبو هريرة تجربته الوجودية، لا لصالح الآخرين كما غيلان، بل داخل ذاته. وها هو يمضي من تجربة إلى تجربة، ويسافر من مكان إلى مكان، ويتنقل من وضع إلى وضع، متقلباً بين النور والظلمات، بين الحيرة والاطمئنان، بين البؤس والنعيم، بين الشقاء والسعادة، بين الحقارة والعظمة، ليدرك اخيراً ان الكيان البشري "صيرورة مطلقة لا تبتدئ ولا تنتهي، ممتدة طوراً فطوراً حتى الممات". في البداية يعيش أبو هريرة حياة خاملة جامدة، محروماً من فتنة الوجود، ومن روعة الطبيعة. ثم يطلع عليه الفجر ذات يوم، فاذا بصاحب له يدعى ابو المدائن يأخذه إلى الصحراء، ليكتشف جمالاً لم يألفه من قبل على الاطلاق: جمال فتى وفتاة في زي آدم وحواء يرقصان على كثب من الرمل. هنا تبدأ مغامرة بطلنا الوجودية، فيمر أولاً بطور التهاب الشهوة الجسدية، ثم بطور الحب، ثم بطور الحيرة والشك ليبلغ اخيراً طور الهول والموت. لماذا صمت؟ تعاني مؤلفات محمود المسعدي من أمرين. الاول هو النقد المدرسي الاكاديمي الذي أطفأ وهج النص بسبب هالة "التقديس" التي احاطه بها. وهكذا تحول هذا النص إلى صنم جامد، يكفي ان يحاول دارس قراءته انطلاقاً من زاوية نقدية مخالفة للرؤية السائدة، حتى يُهاجم ويكون نصيبه التشنيع. وعندما يعلن كاتب من الجيل الجديد انه يفضل "السد" على "أبي هريرة..."، او العكس، فإنه لا يستطيع ان يفلت من حملات تشهير يشنها اولئك الذين افرطوا في حبهم المصلحي، الانتفاعي، للمسعدي ومؤلفاته. اما الأمر الثاني، فهو سعي بعض الكتاب التونسيين من الجيل الجديد، لمحاكاة المسعدي وتقليده، خصوصاً على صعيد اللغة. واذا ما كانت لغة المسعدي في معظم مؤلفاته، متينة، متوهجة، متوثبة، متلائمة مع روح النص، فإن لغة "الاحفاد" جاءت انشائية، باهتة، مفتعلة. ويبقى سؤال اخير: لماذا صمت المسعدي؟ البعض يقول ان انشغاله بالسياسة هو الذي ابعده عن الأدب، وحال بينه وبين مواصلة الكتابة. غير ان هذا التفسير ليس مقنعاً تماماً. فالعديد من الأدباء والشعراء، عبر مختلف العصور، جمعوا بين مناصبهم السياسية ومسيرتهم الفكرية او الابداعية. اما المسعدي، فأجاب عن السؤال بشكل مبطن، حين اورد في مقدمة "السد" مقولة للناقد الفرنسي الشهير سانت بوف: "ليس الشعر في أن تقول كل شيء، بل في ان تدع النفس تحلم بكل شيء". ربما امكن القول، اذاً، ان كتابات المسعدي حلم مفتوح على الأثر الادبي الخالد، اكثر مما هي مشروع ابداعي مكتمل... وإن هذا الحلم المفتوح وضع فيه صاحبه كل حصاد فكره، وتجربته، وجهده...