لا يزال المعنيون بعملية السلام ينتظرون ريثما يعيد رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو العملية إلى مسارها. ورغم انهم ادركوا حجم التغيير الذي احدثته انتخابات ايار مايو الماضي في اسرائيل، وأثره في مستقبل التسوية السلمية وفي مصالحهم، فإنهم يرون ان المنقذ الوحيد هو نتانياهو نفسه، طالما ان الاميركيين مشغولون بانتخاباتهم، والروس بحروبهم وبعجزهم عن لعب دور فاعل كالاوروبيين واليابانيين. ويعتبر وصف مسؤول فلسطيني لعملية السلام بأنها كانت "تسير كالسلحفاة التي جاء نتانياهو وقلبها على ظهرها" اكثر قرباً للحقيقة، خصوصاً بالنسبة إلى المسار السوري. لكن ذاك البطء الذي كانت تسير فيه المفاوضات على هذه المسارات، كان يحول دائماً دون وصول التوتر السياسي السوري - الاسرائيلي إلى حال صدام في جنوبلبنان، بل ان الحديث عن الصدام خلال فترة المفاوضات السابقة كان صعباً لوجود مفاوضات بصرف النظر عن طبيعتها، ولوجود راع اميركي يراقب سيرها ويمنع التوتر. وان توقف المفاوضات السورية - الاسرائيلية منذ شباط فبراير الماضي لتمسك دمشق بمواقفها ولمحاولة نتانياهو الانقلاب على الأسس، اعاد إلى واجهة الاحداث احتمال الحرب. وتوقع مسؤول سوري كبير قيام الاسرائيليين بعملية عسكرية في جنوبلبنان، مشيراً إلى مضمون التصريحات الاسرائيلية ومواقف حكومة اليمين الاسرائيلي التي تضم "اكثر العناصر تطرفاً" والتسريبات الاخيرة لمسؤولين عن وجود اسلحة سورية وقيام دمشق بصنع صواريخ "سكود سي" التي لا تزال ترتبط في ذاكرة الاسرائيليين بصواريخ سكود التي استخدمها العراق في حرب الخليج. ورأى المسؤول في تصريحات ل "الوسط" ان الهدف من عملية كهذه "التغطية على عدم اقتناع الدول العربية والدول المعنية عالمياً بعملية السلام، بمواقف حكومة نتانياهو بدءاً من عدم التزامها اسس مدريد والاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، وانتهاء باقتراح "لبنان أولاً". اضافة إلى رغبة الاسرائيليين الضغط على اللبنانيين لابعادهم عن ربط المسارين السوري واللبناني وتسويق اقتراح "لبنان أولاً". وبعدما تساءلت مصادر ديبلوماسية عن مدى سماح المعنيين دولياً بعملية كهذه تعيد المفاوضات إلى الوراء، اشارت إلى ان حكومة نتانياهو "تحاول الافادة من ضعف الدور الاميركي في المرحلة الانتخابية وعدم قدرة اي من الحزبين الديموقراطي والجمهوري اتخاذ موقف مخالف للحكومة الاسرائيلية". وأضافت ان هناك هدفين اساسيين ترمي اسرائيل إلى تحقيقهما من وراء ذلك وهما: التركيز على "لبنان أولاً"، ووضع اسس جديدة للمفاوضات السورية - الاسرائيلية. الجنوب والجولان جبهة واحدة وبالنسبة إلى "لبنان أولاً"، اكدت المصادر الديبلوماسية ل "الوسط" عدم وجود "صيغة واضحة" تحت هذه التسمية، وانها مجرد افكار ونقاط يتكرر ذكرها في الاعلام، تقوم على النقاط الآتية: "التفاوض مع سورية بشكل اولي لانسحاب اسرائيل من جنوبلبنان وصولاً إلى توقيع معاهدة سلام لبنانية - اسرائيلية، اقامة ترتيبات امنية في الجنوب تضمن امن اسرائيل، نزع سلاح المقاومة و "حزب الله"، ضم "جيش لبنانالجنوبي" في الجيش اللبناني ليكون في المقدمة باتجاه الحدود الشمالية لاسرائيل، وضمان سورية لاتفاق السلام بعد التوصل اليه". وقالت المصادر ان رفض هذه الافكار لم يقتصر على الجانب السوري، بل ان الاميركيين رفضوه بشدة، على اساس انه "غير مقبول وغير قابل للتطبيق". وأشارت إلى ان سورية لم ترفضه وحسب، بل ان الرئيس حافظ الاسد قال ان الانسحاب الاسرائيلي يجب ان يكون "من جنوبلبنان والجولان في وقت واحد" او ان الجنوب والجولان "جبهة واحدة". واتى الموقف السوري على اساس ان البدء في مفاوضات كهذه يعني "نسيان القرار 242 الذي يدعو إلى الانسحاب الفوري وغير المشروط، في وقت تُصر فيه سورية على تسجيل سابقة في التعامل مع اسرائيل، وهي انصياعها لقرار دولي. كما ان دمشق رأت ان هذه الصيغة تعني الانسحاب من الجنوب بدلاً من الجولان اذ ان التوصل إلى اتفاق اسرائيلي - لبناني يعني اغلاق آخر الجبهات المفتوحة مع الدولة العبرية. هذه الجبهة التي ادت إلى مقتل جنود اسرائيليين في كل شهر بشكل لا يتناقض مع تفاهم نيسان ابريل الماضي". وأشار مسؤولون سوريون إلى ان اسرائيل استهدفت ايضاً "فك ارتباط السوريين واللبنانيين واعادة لبنان إلى الحرب الاهلية والقضاء على ما تحقق من انجازات إلى الآن والى تحويل الصراع إلى صراع داخلي للاستفراد بلبنان وارغامه على الرضوخ لمطالب اسرائيل الامنية في انهاء المقاومة ومصادرة السيادة الوطنية للبنان". وبالنسبة إلى الهدف الثاني وهو نسف المرجعية التقليدية للتفاوض، رأى الجانب السوري ان دعوة الاسرائيليين إلى ربط فتح قناة التفاوض لتنفيذ "لبنان أولاً" سيتزامن مع "فتح قنوات اخرى" تشمل اعادة مفاوضات منتجع "واي بلانتيشين"، لا يمكن ان تؤخذ "على محمل الجد" في ضوء المواقف الاسرائيلية المعلنة حتى الآن، اذ ان نتانياهو لم يتردد في الاعلان بعد تسلمه مهامه بعدم اقتناعه بالاسس التي كانت تقوم عليها المفاوضات السابقة، وهي المبادئ التي قام عليها مؤتمر مدريد: مبادرة الرئيس الاميركي السابق جورج بوش "الارض مقابل السلام"، ومرجعية القرارين 242 و338، اي مفاوضات ثنائية مباشرة وعلنية بوجود الجانب الاميركي ورعايته. وقالت المصادر الديبلوماسية المطلعة على ملف المفاوضات السورية - الاسرائيلية "ان نتانياهو اشد المسؤولين الاسرائيليين كرهاً لقرارات الاممالمتحدة، باعتبار ان هذه المنظمة الدولية تراعي العرب كثيراً ومن الصعوبة اختراق مواقف اعضاء مجلس الامن". وزادت ان اسرائيليين يشيرون إلى مواقف الاممالمتحدة في مناسبات عدة كان آخرها الموقف من مجزرة قانا والتقرير الذي اتهم الاسرائيليين بقصف المدنيين عمداً "لذلك فانهم لا يفوتون اي فرصة لإلغاء مرجعية هذه القرارات". من هنا يبدو الاصرار السوري على التمسك بمرجعية مدريد، اي قرارات مجلس الامن. وتستغرب دمشق هذا الموقف من الاممالمتحدة "اذ ان اسرائيل وجدت اساساً بموجب قرار من المنظمة الدولية". وتصر دمشق على جر الاسرائيليين لتطبيق قرار دولي سواء بالنسبة لجنوبلبنان او بالنسبة للقرار 242 الذي "لا يجيز اكتساب الارض بالقوة". وقال مسؤولون سوريون انه "لا يمكن التعامل مع الاقتراحات الاسرائيلية بجدية طالما انهم يرفضون التزام اسس العملية السلمية ويصرون على التمسك بها مستندين إلى ان موافقتهم على الدخول في مؤتمر مدريد اتت في ضوء تلك الاسس". وعليه فان "عض الاصابع" بين سورية واسرائيل وبين الانطلاق من قرارات الاممالمتحدة باعتبارها مرجعية للتفاوض حسب الموقف السوري، ونسيان هذه القرارات والانطلاق من اسس جديدة محورها الاساسي "لا شروط مسبقة" حسب الرأي الاسرائيلي، هو الذي يرجح احتمال المواجهة، خصوصاً اذا اخذ في الاعتبار غياب واشنطن السلبي عن دور الراعي، او التغيب الايجابي لصالح اسرائيل حتى نهاية السنة. كما ان اعلان الاميركيين التمسك بأسس عملية السلام لن يوقف ذلك اذا لم يواكبه جهد ديبلوماسي واضح ومستمر بين الاطراف المعنية يلزمها بتلك المبادئ. لذلك فان المصادر الديبلوماسية تنطلق من ذلك للقول "ان جمود المفاوضات مدمر، وان الجمود لا يترك المفاوضات حيث انتهت" في شباط فبراير الماضي. لكن ما هو الخيار الذي يحول دون ذلك؟ الواقع ان كل طرف يحمل حلاً خاصاً به ومفصلاً على مقاسه. وبينما يتمسك الاسرائيليون برؤيتهم العلنية للامور التي لا تعني بالنسبة للجانب العربي سوى نسيان اعادة الاراضي المحتلة والجولان وقبول توسيع المستوطنات وكون القدس اسرائيلية وحصر التفاوض فقط بضمان امن اسرائيل واغلاق جبهة جنوبلبنان وحل "حزب الله"، فان السوريين يرون انه يتمثل في استمرار المفاوضات كما كانت ابان حكومة حزب العمل، والتزام حكومة ليكود ما تم التوصل اليه سابقاً في كل المسارات، وذلك لقناعة المسؤولين السوريين بأن مجرد تغيير صيغة التفاوض يعني تسجيل سابقة مفادها عدم التزام اي حكومة اسرائيلية بما وقعته الحكومة السابقة، وهو أمر لا يمكن التعامل به بين الدول. أهمية الحوار غير العلني كان المسؤولون الاسرائيليون يدعون دائماً ان المشكلة مع العرب ان اسرائيل تتعامل مع اشخاص وليس مع مؤسسات ودول، وهو أمر غير صحيح وأثبتته الوقائع. بل ان العرب والدول العربية أبدوا التزاماً بما تم التوقيع عليه اكثر من الحكومة الاسرائيلية الحالية. ويرى السوريون انه اذا لم يضغط الاميركيون على حكومة نتانياهو فلا مجال للتقدم، وان هذا هو الاسلوب الوحيد للتقدم. لكن الاميركيين ومعهم الاوروبيون واليابانيون بدرجة اقل، يعتقدون ان الحل يتمثل في "فتح قنوات جديدة للتفاوض والتحلي بالصبر". وقالت مصادر ديبلوماسية ان الادارة الاميركية ابلغت هذا الاقتراح للجانب السوري على اساس ان طاقم نتانياهو الحكومي لا يعرف شيئاً عن الشرق الاوسط، وانه يعرف عن اميركا اكثر مما يعرف عن هذه المنطقة، لذلك فإن الحوار معه سيبدل قناعاته ويجعله اكثر واقعية. وأشارت واشنطن إلى اهمية "الحوار غير العلني" في هذا الاطار. كما ان مسؤولاً يابانياً ابلغ "الوسط" بأن وزير الخارجية الياباني يوكيهويتو ايكيدا طلب خلال لقائه الرئيس الاسد الاسبوع الماضي "ابقاء قناة الحوار مفتوحة على اساس ان الاتصالات المباشرة ضرورية لعملية السلام". وأضاف ان ايكيدا دعا إلى "الصبر رغم ان الموقف صعب". وكان الرد السوري على الامرين رفض اي مفاوضات سرية، باعتبار انه "لا يوجد لدينا ما نخفيه في المفاوضات"، والتحذير بأن "صبرنا نفد" وان ضعف او تلاشي الدور الاميركي يفسح المجال للجانبين الاوروبي والياباني للعب دور اكبر". ماذا تفعل الديبلوماسية السورية اذن؟ ان الثقل الديبلوماسي السوري يتركز حالياً على اظهار تعدد الخيارات الموجودة لدى دمشق، اي "اننا متمسكون بعملية السلام واسس مدريد، لكن لدينا خيارات اخرى في الوقت ذاته". وان الزيارة المهمة التي قام بها رئيس الوزراء السوري المهندس محمود الزعبي إلى طهران وتوقيع اتفاقات اقتصادية في وقت تحارب واشنطنطهران بقانون داماتو، فهمتها الادارة الاميركية باعتبارها "اظهاراً لعدم الرضا عن الدور الاميركي في المفاوضات". كما ان دمشق حرصت على تجاوز الخلافات مع الاردن والقيادة الفلسطينية في اطار تطوير نتائج قمة القاهرة العربية، والتعامل مع الموقف الاسرائيلي بجدية عالية تضغط عليه للتعامل بواقعية مع عملية السلام. وفي اطار تركيز الثقل على ما يحصل في اسرائيل، فان المسؤولين السوريين اعطوا اشارات عدة إلى الجار التركي للحيلولة دون اقترابه من اسرائيل بعد تشكيل حزب الرفاه الاسلامي حكومة ائتلافية برئاسة نجم الدين اربكان، الامر الذي يعني عدم اعادة الانسجام التركي - الاسرائيلي إلى شكل ضاغط على سورية. كما ان دمشق تحرص على تفويت اي فرصة على الاميركيين او الاسرائيليين لاستخدام ملف "الارهاب" ضد سورية في هذه الفترة بهدف تحميلها مسؤولية الانقلاب الكبير في عملية السلام. وهذا ما برز في تعامل المنظمات الفلسطينية مع ملف التغيير في اسرائيل حتى صارت اي كلمة يقولها قيادي فلسطيني محسوبة بدقة بشكل لا يسيء من حيث ناحية التوقيت او المضمون إلى التعامل السوري مع التطورات الاخيرة.