هل كان انفجار الطائرة الاميركية، ناتجاً عن عملية ارهابية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل لهذه العملية الارهابية أي علاقة بالشرق الأوسط أو بالصراع العربي - الاسرائيلي وبالسياسة الاميركية حياله؟ واذا أثبتت التحقيقات ان مثل هذه العلاقة موجودة، فهل تكون هذه العملية الشرارة التي تفجر "الحرب ضد الارهاب" التي كثر الحديث عنها اخيراً، بل هل تصبح الفصل الأول في المواجهة الخطيرة التي قد تكون منطقة الشرق الأوسط مسرحاً لها في المرحلة المقبلة، والتي كانت "الوسط" تناولت احتمالات وقوعها وكشفت عن المعلومات الدولية التي تحدثت عن السيناريوات المطروحة لها في أعدادها الماضية؟ قد يكون لا يزال سابقاً لأوانه التوصل الى اجابات دقيقة عن هذه التساؤلات الجوهرية، أقله في انتظار اتضاح نتائج التحقيقات السياسية والأمنية والتقنية التي بدأت فور وقوع الكارثة في أكثر من عاصمة عالمية. لكن مجالات الافتراض والتكهن متاحة بشدة، والآراء التي تعرب عنها المصادر المختصة في هذه العواصم تنقسم بدورها بين جازمة بأن "الحادث نجم فعلاً عن تفجير ارهابي" واخرى تميل الى "اعطاء الشك فرصة" والاكتفاء بالقول ان "كل الفرضيات واردة واحتمالات سقوط الطائرة نتيجة حادث قضاء وقدر لا تقل عن احتمالات تعرضها لعملية ارهابية مدمرة". ولنبدأ أولاً بالوقائع عن الحادث: في تمام الساعة الثامنة مساء بالتوقيت المحلي الثانية عشرة منتصف الليل بتوقيت غرينيتش، أقلعت الطائرة التابعة لشركة "الخطوط الجوية العالمية" تي.دبيلو.أ الاميركية، وهي من طراز "بوينغ - 747" جمبوجت، متأخرة عن موعدها حوالي ساعة واحدة في رحلتها العادية المقررة رقم 800 من مطار "جون.ف. كينيدي" الدولي في نيويورك متجهة الى مطار "شارل ديغول" رواسي الدولي في باريس، وعلى متنها 229 شخصاً بينهم 212 راكباً و17 من أفراد الطاقم. لم يكن أحد من هؤلاء يدرك ماذا يخبئ له القدر خلال الدقائق التالية من عمر هذه الرحلة اليومية المعتادة. فقد كانت عملية اقلاع الطائرة طبيعية، واتخذ قبطانها اتجاه تحليق جنوبي - شرقي حسب خط مسارها المقرر، فيما كانت الطائرة تتسلق تدريجياً وصولاً الى ارتفاعها العملي البالغ 33 ألف قدم 10 آلاف متر فوق سطح البحر، وهو الارتفاع المعتاد الذي تحلق عليه الطائرات التجارية التي تقطع المحيط الأطلسي في رحلاتها بين القارتين الاميركية والأوروبية. لكن كل ذلك توقف فجأة عندما انفجرت الطائرة المشؤومة في الجو. واختفت عن شاشات رادار مراكز الملاحة الجوية الاميركية التي كانت تتابعها منذ لحظة اقلاعها. حدث ذلك عند الساعة 8.48 بالتوقيت المحلي 12.48 فجراً بتوقيت غرينيتش حين كانت الطائرة لا تزال على ارتفاع حوالي 10 آلاف قدم 3 آلاف متر. وفي ما بعد، أفاد شهود عيان صادف وجودهم قرب مكان سقوط الطائرة أنهم سمعوا دوي انفجار قوي في الجو وبعضهم تحدث عن سماعه دوي انفجارين متلاحقين، ليشاهدوها بعد ذلك للتو وهي تنشطر الى كتلتي لهب مشتعلتين قبل ان تهوي الى البحر على مسافة 70 ميلاً 120 كلم تقريباً قرابة سواحل لونغ ايلاند الى الجنوب الشرقي من مدينة نيويورك. وبدأت على الفور عملية انقاذ ضخمة هرعت الى المشاركة فيها سفن سلاح خفر السواحل الاميركي وطائراته، وعشرات من الزوارق والمراكب التابعة لبلدية نيويورك وشركات خاصة عدة. لكنّ احداً لم يكن يتوقع العثور على ناجين من بين ركاب الطائرة وأفراد طاقمها نظراً الى طبيعة الحادث وظروف الانفجار والطريقة التي سقط فيها الحطام وتناثر على مساحة كبيرة. ولم يتمكن رجال البحث والانقاذ والاسعاف بعد مضي اكثر من 12 ساعة على وقوع الحادث من العثور على اكثر من 50 جثة طافية على سطح الماء، في الوقت الذي تناثرت فيه اشلاء الطائرة وبقايا الامتعة قطعاً صغيرة. اما الاجزاء الاكبر حجماً فيعتقد انها رست في قعر المحيط الاطلسي في منطقة يقدّر عمق المياه فيها بحوالى 100 قدم 30 متراً. ومع عملية البحث والانقاذ، بدأت ايضاً على الفور ما ستتحول حتما الى اضخم عملية تحقيق امني وتقني في تاريخ الطيران المدني الاميركي لمحاولة تحديد اسباب انفجار الطائرة وتحطمها بهذا الشكل. والى جانب خبراء شركة "الخطوط الجوية العالمية" المالكة للطائرة، وشركة "بوينغ" التي انتجتها، سارع الى مكان الحادث افراد "شعبة امن النقل الجوي" في مكتب التحقيقات الفيديرالي اف. بي. آي، وعناصر من "وكالة الاستخبارات المركزية" سي. آي. أ، و"قوة عمليات مكافحة الارهاب" ATTF في وزارة الدفاع، بالاضافة الى عناصر "ادارة الطيران المدني الفيديرالية"، و"مجلس سلامة النقل الوطني". اما الجامع المشترك الذي سيلقي بظلاله الثقيلة على هذه التحقيقات فسيكون شبح الرحلة 103 التابعة لشركة "بان اميركان"، والتي أدّت فيها عملية تفجير تخريبية الى تحطم طائرة اميركية مماثلة من طراز "بوينغ - 747" وسقوطها فوق قرية لوكربي في اسكتلندا اواخر عام 1988 مسفرة عن مقتل جميع ركابها وأفراد طاقمها البالغ عددهم 270 شخصاً. الفرضيات هنا تخرج المسألة من حيّز الوقائع لتدخل في اطار الاحتمالات والتكهنات والفرضيات. فإذا كانت "عملية لوكربي"، كما صارت تعرف منذ ذلك الحين، لم تنته فصولها بعد، بل انها لا تزال موضع اخذ ورد بين اجهزة امنية ودوائر ديبلوماسية عالمية عدة حول هوية المسؤولين عنها، وفيما لا تزال ليبيا عرضة لعقوبات دولية فرضت عليها نتيجة الاشتباه بتورطها بها، فإن الخوف الكبير الآن هو ان يكون سقوط رحلة "تي. دبليو. أ - 800" قبالة نيويورك "لوكربي ثانية" مع كل ما قد يحمله ذلك في طيّاته من انعكاسات بالغة الخطورة، لا سيما اذا ما اثبتت التحقيقات، او حتى رجّحت فقط، ان هذا الحادث كان فعلاً نتيجة عمل تخريبي مماثل له علاقة بتطورات الوضع في منطقة الشرق الأوسط، او بالحركات الاصولية المتطرفة الناشطة فيها. فحتى قبل حدوث هذه المأساة كان الوضع في المنطقة قابعاً على كفّ عفريت، حسب ما وصفته لپ"الوسط" اخيراً مصادر ديبلوماسية عربية وغربية. وحتى من دونها، كانت المؤشرات تتزايد باستمرار حول اتجاه المنطقة نحو الدخول في مرحلة من الغموض وعدم الاستقرار يكون العنف فيها سيد الموقف، سواء بأشكاله "الارهابية" التي قد تستهدف اسرائيل والولاياتالمتحدة والغرب عموماً داخل المنطقة وخارجها، او بأشكاله "المضادة للارهاب" التي كان يفترض ان تردّ هذه الاطراف بواسطتها على ما تعتبرها "جماعات الارهاب والقوى التي تدعمها". وستتركّز التحقيقات، في شقيها الأمني والتقني، على رسم صورة كاملة لتاريخ الطائرة منذ انتاجها وتسليمها الى شركة "الخطوط الجوية العالمية"، ولخطّ سيرها قبل تحطّمها، ولهويات الركاب الذين كانوا على متنها، والامتعة والبضائع التي كانت مشحونة عليها، وصولاً الى محاولة معرفة أدق التفاصيل المتعلقة بتشغيلها وأي اعطال او اعمال صيانة نفّذت عليها وعلى محركاتها وأجهزتها. لكنّ الخطوة الأولى في هذه العملية ستنطلق من تحديد ما اذا كان الانفجار الذي تعرضت له الطائرة في الجو ناجماً عن "خلل تقني" او عن "تفجير متعمّد". والمقصود بتعبير "الخلل التقني" انفجار ناتج عن حمولة الطائرة من الوقود او اي مواد اخرى قابلة للانفجار او الاشتعال كانت على متنها، أو انفجار في أحد محركاتها الأربعة، او انفجار ناتج عن تعرض هيكلها لضغوط ايروديناميكية هائلة ما أدّى الى انشطاره وتناثره. وهذا قد يحدث مثلاً في حال كانت الطائرة تعاني شقوقاً او مواضع ضعف معدنية في الهيكل او الأجنحة ما قد يؤدي الى "انفراطها" بفعل الانخفاض المفاجئ في الضغط الجويّ داخلها. وفي المقابل، فإن "التفجير المتعمد" هو ذلك الذي قد ينتج عن مواد ناسفة كانت على متن الطائرة، وتمّ بالتالي تفجيرها اما بواسطة جهاز توقيت، او صاعق الكتروني يعمل تلقائياً بالضغط الجويّ تماما كما حدث بالنسبة الى طائرة "بان أميركان" فوق لوكربي حيث كان صاعق التفجير معّداً للانفجار بمجرد وصول الطائرة الى ارتفاع يزيد عن 20 ألف قدم. وفي مقدور التحقيق الكشف عن ذلك من خلال فحص أجزاء الطائرة وجثث الضحايا وبقايا الأمتعة والمشحونات عليها، وتحديد التركيب الكيماوي لأي آثار ناسفة او حارقة على تلك الأجزاء والبقايا. وطبيعي ان يحرص المسؤولون الأميركيون والمعنيون بالتحقيق والخبراء في شؤون الطيران والارهاب على تجنب تقديم أي طروحات محدّدة حول أسباب الحادث والاكتفاء بتأكيد ضرورة "انتظار نتائج التحقيقات وعدم استبعاد أي شيء". ولهذا الموقف ما يبرّره. فحوادث الطيران معروفة بتعدد أسبابها واختلاف كلّ واحد منها عن الآخر حسب الظروف المحيطة بكلّ منها. وتشير مصادر "ادارة الطيران المدني الفيديرالية" الى ان الطائرة التي تحطمت كانت من طراز "بوينغ - 747/100"، أي أول طراز انتج من هذه الطائرة الشهيرة التي يعمل منها حالياً أكثر من ألف طائرة تشكّل عماد رحلات النقل الجوي البعيدة المدى لدى شركات الطيران العالمية. وقد تمّ انتاج هذه الطائرة بالذات عام 1971، الأمر الذي يجعلها واحدة من أقدم طائرات "بوينغ - 747". وهو بدوره ما يبقي على احتمال ان تكون الطائرة تعرّضت لخلل ميكانيكي او ضعف معدني في هيكلها. مجرد "مصادفات"؟ لكن في مقابل ذلك، يشير الخبراء الى عدد من الاعتبارات التي وصفها أحدهم بأنها "تشكل سلسلة من المصادفات والتشابهات التي يصعب تصوّر التقائها جميعاً في وقت واحد وحادث واحد". وقد تحدد الاجابة عن هذه "الاعتبارات" المثيرة للشك مسار التحقيقات، كما ان من شأن توضيح ملابساتها ان يساهم في الكشف عمّا حدث حقيقة للرحلة 800، التي يذكر انها كانت بدأت أصلاً انطلاقاً من مطار اثينا تحت الرقم 881، قبل ان تصل الى مطار كينيدي في نيويورك لتمكث فيه ثلاث ساعات، ثم تنطلق في رحلتها المشؤومة التي لم يكتب لها اكمالها الى مطار "شارل ديغول" في باريس. وقد يكون من باب "المصادفات" ايضاً ان الرحلة 800 كانت على امتداد سنوات تأخذ خط نيويورك - باريس - تل أبيب. إلا ان ذلك تغيّر في كانون الثاني يناير الماضي عندما قرّرت "الخطوط الجوية العالمية" الغاء الجزء المتعلق بتل أبيب من هذه الرحلة وتحويلها الى خط نيويورك - باريس فحسب. ويورد خبراء الصناعة الجوية عدداً من هذه الاعتبارات، وأهمها: 1 - الاتجاه الى استبعاد فرضية ان تكون الطائرة سقطت بفعل "خلل تقني عادي". وهم يستندون في ذلك الى حقيقة ان طائرة من هذا النوع والحجم لا يمكن ان "تسقط هكذا فجأة من السماء" على حدّ تعبير خبير بريطاني في شؤون سلامة الطيران المدني، وأضاف قائلاً: "عندما تتعرض طائرة مثل البوينغ - 747 الى خلل، فإنها عادة ما تعطي ربّانها فرصة كافية لاعلان حال الطوارئ داخل مقصورة الركاب، واطلاق نداءات الاستغاثة عبر جهاز الاتصال، وذلك قبل ان تسقط وتتحطم. وفي هذه الحالة، فإن أياً من ركاب الطائرة الذين تم انتشال جثثهم من البحر لم يكن يرتدي سترة الانقاذ او كمامة الأوكسجين او غير ذلك من الدلالات على ان الطاقم كانت لديه الفرصة او الوقت لاتخاذ مثل هذه الاحتياطات البديهية. وهذا يعني ان ما حدث كان فورياً وكارثياً، وهو لا بدّ ان يكون ناتجاً بالتالي عن انفجار ضخم أدى إلى تدمير الطائرة وتلاشيها في الجو. ومثل هذا الانفجار لا يمكن ان ينتج إلا عن قنبلة أو عن انهيار معدني أساسي في هيكل الطائرة". 2- التشابه اللافت بشدة بين سقوط الرحلة 800، وبين الظروف التي أحاطت بتفجير طائرة "بان آم" في الرحلة 103 فوق لوكربي، وكذلك حادثة انفجار الطائرة "دي سي - 10" التابعة لشركة "اتحاد النقل الجوي" يوتا الفرنسية فوق صحراء النيجر عام 1986. كما ان التشابه ينطبق أيضاً على عملية التفجير التي تعرضت لها عام 1986 طائرة أخرى تابعة لشركة "تي. دبليو. أ" انطلقت بدورها من مطار روما في رحلة إلى القاهرة عبر أثينا. ويومها كان الحظ والقدر إلى جانب ركاب الطائرة وملاحيها، إذ أسفر الانفجار عن فتح فجوة في هيكل الطائرة التي كانت من طراز "بوينغ - 727"، إلا أنه لم يؤد إلى اسقاطها بل تمكنت من متابعة رحلتها والهبوط بسلام بعد مقتل راكب واحد واصابة عدد آخر بجروح. وفي كل هذه الحوادث وقعت الانفجارات على ارتفاعات ومسافات متقاربة جداً وبعد فترات زمنية متشابهة من اقلاع الطائرات المذكورة في رحلاتها المقررة. 3- الغموض الذي يحيط بعلاقة مطار أثينا بهذه الحوادث، وبالذات في ما يخص شركة "تي. دبليو. أ" ففي عام 1985 خُطفت إحدى طائرات الشركة وكانت أيضاً من طراز "بوينغ - 727"، عقب انطلاقها من أثينا وحطّ بها الخاطفون في مطار بيروت، وبعد ذلك تعرضت طائرة أخرى لعملية التفجير المشار إليها أعلاه في رحلتها التي انطلقت من روما مروراً بأثينا في طريقها إلى القاهرة. والآن انتهت الرحلة 800 إلى كارثة بعدما كانت أقلعت من أثينا في طريقها إلى نيويورك ثم من هذه الأخيرة متوجهة إلى باريس. في انتظار التحقيقات مجرد صدف قد تكون كل هذه التشابهات. لكن تزامن كارثة الرحلة 800 مع مرحلة على هذا القدر من الحرج والخطورة في الشرق الأوسط يثير بدوره تساؤلات عدة. فمنذ الانفجار الذي استهدف مجمع سكن العسكريين الأميركيين وعائلاتهم في مدينة الخبر في المملكة العربية السعودية وأوساط أجهزة الأمن الدولية تتحدث عن معلومات مفادها ان "تحذيرات وردت عن احتمال تعرض أهداف أميركية متنوعة إلى عمليات ارهابية مماثلة"، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الولاياتالمتحدة تستعد لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية في مدينة اتلانتا. وفي المجال نفسه أيضاً، الاستعدادات لعقد أول اجتماع للجان متابعة مقررات مؤتمر قمة الدول الصناعية السبع في شأن مكافحة الارهاب في باريس هذا الاسبوع. وتزايد التهديدات حول الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط والسياسة الأميركية المتبعة حيال قضايا المنطقة لا يعني أن هذه العمليات لها علاقة بالضرورة بالحركات والمجموعات العاملة فيها. وتكفي هنا الاشارة إلى انفجار "اوكلاهوما" الذي أثار في حينه ضجة هوجاء في صفوف الاعلام الأميركي والعالمي الذي ركّز أصابع الاتهام على المجموعات العربية والإسلامية باعتبارها مسؤولة عنه قبل أن يتضح بسرعة ان وراءه ارهابيين أميركيين متطرفين لا علاقة للشرق الأوسط بهم لا من قريب ولا من بعيد. فالاحتمالات ستظل جميعها واردة في انتظار اتضاح نتائج التحقيق، لكنّ فترة الانتظار هذه ستضع المنطقة، والعالم أجمع، على حافة الغليان. وعندها، لن يكون السؤال هل ترد واشنطن، بل كيف ترد ومتى وأين؟