لا يوفر المسؤولون الأميركيون أو المتحدثون باسم البيت الأبيض مناسبة صدور تقرير لمنظمة العفو الدولية حول انتهاكات حقوق الانسان في أي بلد من بلدان العالم الثالث إلا ويبادرون إلى انتقاده وتوجيه النصائح إلى المنظمة حول الوسائل التي يجب اتباعها لسلوك النهج الديموقراطي. لكن صدور تقرير منظمة العفو عن انتهاكات حقوق الانسان وسوء معاملة السجناء في ولاية نيويورك ووفاة بعضهم في الزنزانات واطلاق النار على بعضهم الآخر من قبل عناصر الشرطة، يجعل انتظار رد الفعل الأميركي على التقرير مشوقاً، خصوصاً أن التقرير يتحدث عن وسائل تعذيب واستعمال القوة الزائدة غير المبررة في ولاية نيويورك ضد رجال ونساء من أعراق متنوعة، وبشكل خاص من الافارقة الأميركيين أو من أميركا اللاتينية أو من أصول آسيوية. ويقر تقرير المنظمة الدولية بأن حجم الفساد في سلك الشرطة في ولاية نيويورك انحسر في العامين الماضيين، لكن اطلاق النار على المساجين وحالات الوفاة ارتفعت بين 1993 و1994. وتطالب المنظمة الدولية السلطات المعنية في نيويورك بتعيين لجان تحقيق مستقلة تكون لديها الصلاحيات لحث رجال الشرطة على الادلاء بمعلومات عن المسؤولين عن الانتهاكات. ويقول التقرير إن عدد الشكاوى ضد شرطة نيويورك ارتفع من 977 شكوى في العام 1987 إلى أكثر من 2000 في العام 1994، ووصل حجم الأموال التي تدفعها شرطة نيويورك كتعويضات للمتضررين من سوء معاملتها إلى 24 مليون دولار أميركي في العام 1994 بعدما كان 5،13 مليون دولار قبل ذلك بعامين، كما تضاعفت الوفيات في الزنزانات أو بسبب اطلاق النار. ويشكل 38 ألف شرطي وضابط كل مجموع عناصر الأمن في ولاية نيويورك، لكن اللافت أن 2،43 في المئة من سكان المدينة هم من البيض، في حين تبلغ نسبة السود 7،28 في المئة و4،22 في المئة من اميركا اللاتينية و7،7 في المئة من الآسيويين وأقليات أخرى، الأمر الذي يدفع الضحايا إلى الاعتقاد بأنهم يدفعون ثمن اصولهم الاثنية على يد نسبة مرتفعة من البيض في سلك الشرطة تتجاوز 2،72 في المئة، في حين لا تتجاوز نسبة ذوي الاصول الأميركية اللاتينية 2،15 في المئة والاصول الافريقية 5،11 في المئة. ومن العوامل التي لحظها تقرير منظمة العفو أن معظم ضباط شرطة نيويورك يسكن ضواحي المدينة، وأن طريقة تعاملهم مع سكان الاحياء الشعبية وسط نيويورك هي التي تؤدي إلى التوتر والنتائج التي انتهى إليها التقرير. وفي تاريخ شرطة نيويورك التي تأسست في القرن الماضي ما يشير إلى ضلوع أفراد فيها في عمليات فساد وسوء إدارة وارتباط بشبكات الجريمة المنظمة والمافيا، وقد تشكلت أكثر من لجنة تحقيق، كانت آخرها لجنة "مولون" التي حققت في العام 1992 مع 6 ضباط اتهموا بالاتجار بالمخدرات. ونشرت اللجنة تقريرها في العام 1994، حيث ذكرت أن الكثيرين من الذين يشاركون في دوريات مكافحة الجريمة وسط نيويورك يتلقون رشاوى ويتساهلون مع منفذي الجريمة أو تجار المخدرات وفي بعض الحالات يتولون حمايتهم. واتهم التقرير عدداً من كبار ضباط الشرطة بغض النظر عن خرق رجالهم للقوانين. وعرض تقرير منظمة العفو 15 حالة لأشخاص توفوا من جراء تأثرهم بالضرب المبرح على أيدي رجال الشرطة. ولاحظ ان الشرطة غالباً ما تلجأ إلى تلفيق تهم كبيرة ضد ضحاياها للتغطية على عمليات ضرب المعتقلين واتهامهم بمقاومة الشرطة أثناء محاولة اعتقالهم. كما سجل خلال عامين حوالى 30 حالة اطلاق رصاص قتل خلالها المشتبه بهم أو جرح من دون أن يكون هناك مبرر للجوء إلى السلاح. وتبين احصاءات تنشرها لجنة محايدة أن شكاوى سكان نيويورك ضد تصرفات رجال الشرطة وسلوكهم كانت في معظمها من الأميركيين الافارقة، ومن أشخاص ذوي اصول أميركية لاتينية. وفي لندن، التقت "الوسط" السيدة اينيتا ثيسين رئيسة دائرة الاعلام في منظمة العفو الدولية وسألتها عن هذا التقرير وظروف إعداده وتوقعاتها بالنسبة إلى رد الفعل الأميركي. ما هي الخطوات التي تتوقعين أن تتخذها السلطات الأميركية لتخفيف الانتهاكات التي أوردها التقرير؟ - إن ملاحظاتنا موجهة إلى السلطات المسؤولة في ولاية نيويورك، كما أننا نسعى لعقد لقاءات مع مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية. إن الاجراءات التي اتخذها المسؤولون الأميركيون حتى الآن جيدة، لكنها غير كافية. وبتقديري فإنه من المهم توكيل لجان تحقيق مستقلة في نشاط الشرطة لأن إحاطة التحقيقات في الانتهاكات بالسرية والغموض، بدلاً من اعلان النتائج ومحاسبة المقصرين والمخالفين للقوانين، أمر يسيء كثيراً إلى سمعة الولاياتالمتحدة، اننا لم نسمع بمحاكمات لأفراد الشرطة الذين تولوا تعذيب مواطنين أو تعرضوا لهم بالضرب أو باطلاق النار عليهم من دون وجه حق. ما هي التبريرات التي يقدمها المسؤولون الأميركيون للانتهاكات التي تقوم بها عناصر الشرطة؟ - من الصعب علينا معرفة الأسباب الكامنة وراء هذه الانتهاكات. ولسنا في موقع يتيح لنا القول إن التمييز العنصري منتشر في سلك الشرطة، لكن بالتأكيد أن الضحايا هم الذين يدفعون ثمن تصرفات عنصرية، أو أن هذه الفئة من الناس عرضة لدفع ثمن طبيعة وثقافة متأصلة في نفوس معظم رجال الشرطة. وهذا لا يعني بالضرورة أن هناك مواثيق مكتوبة تحث على ارتكاب هذه الممارسات، وما دمنا لا نرى تحقيقات في سوء معاملة المساجين وغيرهم ومعاقبة المقصرين والمسؤولين، فإنني لست متفائلة بتحسن الوضع، إذ أن أفراد الشرطة لا يقومون عادة باعطاء افادات ضد زملائهم، ومثل هذا الصمت مخيف، الأمر الذي يجعل معظم هذه الحوادث من دون اهتمام كبير. يبدو من الاحصاءات حول نسبة العناصر التي تشكل شرطة نيويورك أن 73 في المئة منهم من البيض، في حين لا يشكل السود والآسيويون أو الملونون سوى نسبة قليلة، هل يعني ذلك ان هناك أنظمة تحول دون انضمام أبناء الأقليات لهذا السلك؟ - بشكل عام القوانين الأميركية لا تسمح بالتمييز والتفرقة العنصرية، لكن بغض النظر عن هذه السياسة، فإن البيض يسيطرون على سلك الشرطة، وضحايا بطش الشرطة هم على الأغلب من أبناء هذه الأقليات. وعندما تأخذ أمثلة تجد أن ابناء هذه الاقلية هم في مواجهة مع الشرطة. هل يمكن عقد مقارنة بين ما يحصل في الولاياتالمتحدة من انتهاك لحقوق الانسان وما يجري في عدد كبير من بلدان العالم الثالث؟ - نحن لا نقارن بين الدول. لكن في بلد مثل الولاياتالمتحدة لا اعتقد بأن الشعب سيكون راضياً عن تصرفات الشرطة، ان الاميركيين يتوقعون كثيراً من شرطتهم، لقد أجرينا مقارنات كثيرة في السابق حول تصرفات رجال الشرطة في عدد من بلدان أوروبا الغربية. وقد أثارت تقاريرنا جدلاً في أوساط الرأي العام وفي بعض البلدان دهش المواطنون مما نشرناه، إذ لم يكونوا يتوقعون من رجال الأمن أن يقوموا بتصرفات مخالفة للقوانين، خصوصاً ان الضحايا في هذه البلدان أيضاً إما من أبناء الاقليات الذين يحملون جنسية هذه البلدان أو طالبي اللجوء السياسي أو من الذين يعيشون على هامش هذه المجتمعات. ما هو رد الفعل الأميركي المتوقع على نشر التقرير الأخير لمنظمتكم، خصوصاً أن البيت الأبيض كثيراً ما يوجه الانتقادات إلى دول العالم الثالث في كل مرة تصدر فيه منظمة العفو تقريراً يفند الانتهاكات التي حصلت فيه؟ - إن ما نتطلع إليه عادة في أعقاب نشر كل تقرير، أن تعيد الشرطة النظر في اجراءاتها، وتتخذ الحكومات المعنية كل ما من شأنه الحؤول دون حصول ممارسات من هذا النوع. لقد أوجزنا تقريرنا استناداً إلى أبحاث أجرتها منظمة العفو الدولية، وهناك حالات كثيرة تحدثت عنها وسائل الاعلام الأميركية، لكن رد فعل اتحاد رجال الشرطة كان عدوانياً، وأتوقع ان يقولوا إن الأمثلة التي عرضناها لا تشكل نموذجاً لما يجري، ولا تعكس سلوك الشرطة بشكل عام. إن سلطات ولاية نيويورك قد تأخذ موقفاً مدروساً أكثر من موقف الشرطة. بماذا تختلف أساليب التعذيب في نيويورك عن الأساليب المتبعة في دول أخرى؟ - من خلال 90 حالة حصلت في فترة لا تتجاوز 18 شهراً، اعتبر ان هذا الرقم كبير، لم أكن اتوقع ان يكون بهذا الحجم، إذ أن من الصعب التحري عن حوادث أو حالات معينة في الكثير من الدول. في التقرير عن ولاية نيويورك نتحدث عن شرطة مدربة تدريباً حديثاً، في حين أن هناك أجهزة أمنية مختلفة تابعة للجيش والشرطة والاستخبارات في دول أخرى. وفي بلدان كثيرة هناك خطوط لما هو متوقع وغير متوقع. والشرطة في هذه الدول تنفذ تعليمات معروفة. أما وجوه الشبه فتكاد تأخذ أشكالاً ولو بعيدة، ففي الولاياتالمتحدة يتردد أن الضحايا من أبناء الاقليات في حين ان الضحايا في الدول الأخرى هم من أحزاب المعارضة وأصحاب الرأي الآخر. أما من حيث المستوى والحجم، فما حصل في ولاية نيويورك من انتهاكات هو أكثر بكثير مما حصل من انتهاكات في الدنمارك وأقل مما وقع في الصين. ربما إذا وسعنا تحقيقاتنا لتشمل كل الولايات الأميركية فقد تكون نسبة الانتهاكات مماثلة لما يحصل في الصين أو أكبر. ولماذا التركيز على جهاز الشرطة في نيويورك، وليس على نشاطات الأجهزة الأمنية كما يحصل مع بلدان أخرى؟ - في نيويورك الشرطة هي المسؤولة عن الأمن، ففي اندونيسيا مثلاً الأمر نفسه حيث تتولى الشرطة الأمن، ولهذا كان خيارنا دائماً تحري سلوك الجهاز أو الأجهزة المعنية بالتعامل مع المواطنين.