بعد أقل من أسبوعين على تدخل الرئيس حسني مبارك استجابة لطلب الصحافيين الاحتكام إليه، سويت أكبر أزمة تشهدها مهنة الصحافة في عهده، وقد استغرقت 56 أسبوعا، دار معظم جولاتها الساخنة على الهواء مباشرة. واشتبكت فيها ثلاثة أطراف تباينت أنصبتها في الحسابات الختامية للتسوية. ففي حين اعتبر الصحافيون انهم تمكنوا من الحفاظ على الكثير من ضمانات حرية الصحافة، رأت الحكومة انها حققت التوازن المناسب بين حرية الصحافة وحقوق المجتمع، اما جماعة الضغط التي فجرت الازمة فاعتبرت انها لم تخرج من التسوية صفر اليدين. وبغض النظر عن محاولات خلط الاوراق، فإنها أفصحت عن ان بعض جوانب الصراعات السياسية والاجتماعية يتم "تصحيفها" او "صحفنتها"، ولهذا نشبت الازمة وتفاعلت، وسويت في إطارين محددين سيظل لهما الاعتبار الاكبر في حسابات اي طرف عند إدارة مسار أي ازمة مماثلة في المستقبل. - الاطار الاول: صيغة "الديموقراطية المتوازنة" التي تعد إحدى الركائز التي يستند اليها حكم الرئيس مبارك، وهي الصيغة التي طرحت نفسها في موقع وسط بين تحكم الرأي الواحد والليبيرالية التقليدية بتعددها المفتوح او غير المنضبط. - الاطار الثاني: الوضع المتميز للصحافة المصرية قومية وحزبية. فلأسباب كثيرة، موضوعية وذاتية، تعاني جميع الأحزاب - بما فيها الحزب الحاكم - من انكماش جماهيري ادى الى تضخم وزن ودور الصحافة ليصبح الاداة الرئيسية في العمل السياسي وإدارة صراعاته المختلفة. والحاصل أن التغيرات العميقة التي أحدثها الانفتاح الاقتصادي بلا ضوابط في السبعينات، من جهة، وتلك التي رافقت عملية التحول الى الاقتصاد الحر بعد ذلك، من الجهة الأخرى، افرزت جماعات متعارضة للضغط، منها جماعة الثروة العشوائية التي تكونت نتيجة المضاربات عقارية وتجارية ومالية. وهذه الجماعة نفسها أفرزت امتدادات في مواقع مهنية مختلفة قانونية ومحاسبية وبنكية وطبية وصحافية، وليس سرا أن الصحافة المصرية تكابد في السنوات الأخيرة سلبيات تيار عشوائي اقتحم ابوابها دون اي تأهيل مهني يذكر. وبرغم محدودية هذا التيار حتى الآن فإنه تمكن من توظيف مساحته الصحافية لتصفية حسابات فئة ذات مصالح معينة ضد حسابات وصفقات جماعة او جماعات مصالح اخرى، وفي كل الاحوال يباشر الاسلوب الفضائحي للنشر والابتزاز عن طريق الاختلاق او الكذب. وليس سرا ايضا ان نقابة الصحافيين، تحتفظ بشكاوى ومذكرات مكدسة تلقتها في هذا الشأن، لكن بعض الحسابات الانتخابية في النقابة حالت - عبر مجالس متعددة - دون اتخاذ مواقف نقابية حازمة ازاء التحقيقات التي كان بعضها بدأ بالفعل. أسباب تغليط الأحكام وهكذا فإن جماعة الثروة العشوائية التي لم تعد تتحمل النبش الصحافي وراء ثروتها ودورها الافسادي، استثمرت اوضاعا شائكة، بعضها امني والآخر اقتصادي واجتماعي يشكل صداعاً للحكومة، مثلما استثمرت آثارا سلبية لأسلوب النشر الفضائحي ويشكل ازعاجاً للرأي العام، لذلك نشأت حملة مخلوطة الاوراق تزعم ان الصحافة اخلّت بصيغة الديموقراطية المتوازنة وضغطت لوقف ما سمته التجاوزات الصحافية وطالبت بحماية حرمة الحياة الخاصة للمواطنين، الامر الذي اسفر في آيار مايو العام الماضي عن صدور تشريع قانوني على نحو مفاجئ هو القانون 93 لسنة 1995، وهو عبارة عن تعديلات ادخلت على عدد من مواد قانون العقوبات لسنة 1937 الخاصة بجرائم النشر والسب والقذف. وقد ادت هذه التعديلات الى تغليظ العقوبات بطريقة قاسية، منها مثلا حبس الصحافي احتياطا للتحقيق معه، على عكس ما كان في السابق، ومنها تغليظ احكام الحبس والسجن التي كانت تراوح في السابق بين سنة وسنتين الى ما بين ثلاث و15 سنة، وتغليظ احكام الغرامات المالية التي كانت تراوح بين 20 و50 جنيها الى ما يراوح بين خمسة آلاف و20 الف جنيه، فضلا عن انه ألزم القضاء الحكم بالعقوبتين معا الحبس او السجن مع الغرامة على عكس السابق، اضافة الى حرمان الصحافي المتهم من إثبات حسن نيته في النشر التي كانت تجيز براءته امام المحكمة. لذلك استنفر الصحافيون صفوفهم بحضور غير مسبوق أكثر من ألفي صحافي في جمعية عمومية طارئة شكلت اسخن جولات الازمة. وتوحدت مواقف الصحافيين من مختلف الاتجاهات بإجماع في الرأي على عدة نقاط اساسية اهمها: ان القانون 93 اغتال حرية الصحافة، على حد تعبيرهم، وجرد الصحف من دورها الاساسي في الكشف عن الحقائق ونشر المعلومات، وانه يمثل تهديدا خطيرا لمهنتهم التي هي مصدر رزقهم، وان واجبهم العمل على "اسقاط" القانون 93. وفي سبيل تحقيق ذلك اتخذوا عددا من القرارات المهمة تفاعلت مع الاطار الثاني المشار اليه الوضعية المتميزة لوزن ودور الصحافة المصرية. وكان من اهم هذه القرارات اعتبار الجمعية العمومية في حال انعقاد دائم واضراب الصحف قومية وحزبية عن الصدور في يوم محدد، والترتيب للقيام باعتصامات سلمية داخل النقابة، تبدأ ببضع ساعات وتتصاعد الى اكثر من ذلك، والتزام عدم نشر صور او اسماء الذين شاركوا في صياغة القانون 93، وتأكيد الثقة في نقيب الصحافيين ومجلس النقابة وتفويضهم إدارة الحوارات والاتصالات مع المسؤولين ومختلف الجهات من اجل إلغاء القانون وعرض نتائج ذلك على الجمعية العمومية في غضون مهلة محددة. وبعد أيام بدأ يتوالى على النقابة سيل برقيات التضامن الذي اتخذ اشكالا متنوعة من جانب الاحزاب السياسية والنقابات المهنية ونوادي اساتذة الجامعات والنقابات العمالية، اضافة الى تضامن منظمات وهيئات عربية ودولية ذات صلة. تجميد بعض مواد القانون هكذا كان كل طرف في الازمة قيّد نفسه بسقف عال لا تسمح الظروف لأي منها بفرض النتائج التي يريدها. ورغم ان الازمة بدت وكأنها دخلت نفقا مظلما فقد لاح اول مؤشر لانفراجها بتدخل من الرئيس مبارك عندما استقبل نقيب الصحافيين واعضاء مجلس النقابة ووعدهم بتجميد العمل ببعض مواد القانون 93، وطلب تشكيل لجنة قومية برئاسة رئيس مجلس الشورى الذي تتبعه الصحف القومية ضمت اعضاء من المجلس الاعلى للصحافة ومجلس نقابة الصحافيين ونقباء سابقين لاعادة النظر في قانون تنظيم الصحافة الرقم 148 لسنة 1980 وتعديله مع القوانين الاخرى ذات الصلة، ووضع قانون جديد، وهو الامر الذي لاقى ارتياح الصحافيين، فجمدوا قرارهم الاضراب عن صدور الصحف وبدأوا الانخراط في لجان شكلتها النقابة لتقديم مشروعها للقانون الجديد، مثلما بدأت اللجنة القومية التي مثلت كل الاتجاهات الصحافية وغير الصحافية الإعداد لتقديم مشروعها. ووجدت الاطراف نفسها امام مهمة يفترض ان تراعي معادلة متشابكة من اربعة اركان: ضمانات حرية الصحافة، عقوبات لجرائم النشر اقل من سقف القانون 93 لسنة 1995، واعلى من سقف القانون الصادر العام 1937، وضبط عملية النقد، وتقليص الاسلوب الفضائحي في النشر، والحفاظ على هيبة الحكومة قياسا على سوابق عدم تراجعها عن اي قانون آخر له صلة بالنقابات. وكان واضحا ان كلا من القضيتين الاولى والثانية، ستتحول صراعاً غير سهل، ونزعت الجمعية العمومية للصحافيين بعقلانية فتيل القضية الثالثة عندما قررت ان تضع بنفسها "ميثاق الشرف الصحافي" الذي يحاسب بمقتضاه من يخرج من اعضائها عن تقاليد المهنة. اما القضية الرابعة فقد حاولت جماعة الضغط التي فجرت الازمة استثمارها. لكن التطورات اللاحقة لم تحقق - من وجهة نظر الصحافيين - ما كان مفترضا توقعه بعد تدخل الرئيس مبارك. وتوصلت اللجنة القومية الى مشروع قانون جديد اختلف معه ممثلو الصحافيين داخل اللجنة، بينما لقي موافقة من اطلق عليهم الصحافيون "تيار العقوبيين الضاغطين" داخل اللجنة. وكان من أكبر المفارقات ان الغالبية العددية لمجلس الشورى المنوط به دستوريا حماية حرية الصحافة ورعاية الصحافيين لم تتجاوب مع مطالبهم الجوهرية. بل رفضت كل محاولات الصحافيين من اعضاء مجلس الشورى إجراء تعديلات على مشروع القانون الجديد توازن بين جرائم النشر وعقوباتها التي بقيت على غلظتها، كما رفضت اي اشارة او اضافة تفيد بالغاء القانون 93. وفوجئ الصحافيون بأن مجلس الشورى اقر مشروع القانون الجديد، وبأن الحكومة أقرته من جانبها وأحالته لمجلس الشعب وهناك أقرته اللجنة التشريعية تمهيدا لاصداره نهائيا. وهو الامر الذي دفع ابراهيم نافع نقيب الصحافيين وعضو مجلس الشورى الى اعلان ان إقرار مشروع القانون على نحو ما هو عليه يتناقض مع اتجاه مؤسسة الرئاسة طالبا الاحتكام الى الرئيس مبارك بحكم صلاحياته الدستورية وباعتباره حكما بين السلطات. الاحتكام الى الرئيس مرة اخرى تفاقمت الازمة لأن مشروع القانون الجديد اخل كثيرا برأي المراقبين بمقتضيات الاطارين اللذين سبقت الاشارة اليهما الديموقراطية المتوازنة والوضع المتميز للصحافة المصرية فقدم نقيب الصحافيين واعضاء مجلس النقابة استقالتهم التي علّقت الجمعية العمومية قبولها، وجددت ثقتها في النقيب والمجلس، وطلبت اليهم الاستمرار في مباشرة جهودهم واتصالاتهم، ووافقت على ترتيب تجمع محدود امام مجلس الشعب في اليوم التالي لاجتماع الجمعية العمومية لتقديم مذكرة الى النواب اثناء مناقشتهم مشروع القانون الجديد، كما وافقت الجمعية العمومية على تعليق اقرار "ميثاق الشرف الصحافي" بناء على اقتراح النقيب. لكن اليوم التالي جاء بمفاجأة ارتاح اليها الصحافيون، إذ تجاوب الرئيس مبارك مع طلب الصحافيين الاحتكام اليه، وفي لقائه الموسع الذي حضره رئيس الوزراء ووزير الاعلام ونقيب الصحافيين والنقباء السابقون ومجلس النقابة واعضاء سابقون فيه، اكد مبارك حرصه على حرية الصحافة واعتبرها "النور الذي يكشف الفساد ويقلل كل صوره"، واصدر تعليماته بأن تكون التشريعات الصحافية بعيدة عن القيود العقابية، وان تعمل الصحافة بصورة حرة من اي قيود غير ضمير الصحافيين، وهو الأمر الذي دفع سريعا بالتطورات اللاحقة في اتجاه متوازن على ثلاثة مسارات. في المسار الاول، ادخل مجلس الشعب - بإجماع نواب الحكومة والمعارضة - تعديلات عدة على قانون العقوبات أزالت آثار القانون 93. وفي المسار الثاني، وافق مجلس الشعب بالغالبية على قانون الصحافة بعد إدخال خمسة تعديلات من مطالب الصحافيين. وامتنع نواب احزاب المعارضة عن التصويت، وطالبوا بمنع العقوبات المقيدة للحرية تماما، والاكتفاء بالغرامات المالية. وفي المسار الثالث اقرت الجمعية العمومية للصحافيين "ميثاق الشرف الصحافي" الذي يصل الى حد شطب الصحافي من قيد المشتغلين في حال خروجه عن آداب وقواعد النشر التي أرسى الميثاق مبادئها، ورفضت الجمعية العمومية قبول استقالة النقيب واعضاء مجلس النقابة وجددت ثقتها فيهم. هكذا سويت الازمة واعتبر الصحافيون انهم تمكنوا من الحفاظ على الكثير من ضمانات حرية الصحافة، ورأت الحكومة أيضاً انها حققت التوازن المناسب بين حرية الصحافة وحقوق المجتمع، وفي الوقت نفسه اعتبرت جماعة الضغط التي فجرت الأزمة انها لم تخرج من التسوية صفر اليدين!