في السابع من حزيران يونيو 1995، أي بعيد ذكرى النكسة التي غنّى خيباتها وجراحها، صمت الشيخ إمام نهائياً في عزلته القاهريّة. ماذا يبقى اليوم، في الذكرى الأولى لرحيله، من المغنّي الضرير الذي ألهب الجماهير، ورافقت أغنياته صحوة جيل كامل في العالم العربي، فأرّخ لأحلامه وهزائمه وتطلّعاته؟... "الوسط" طرحت السؤال على مجموعة من الفنّانين والمبدعين الذين عايشوا تجربته أو رافقوا دربه. عام يمرّ على رحيل الشيخ إمام، ولا توجد مؤسسة واحدة قادرة على صيانة تراثه، واعادة نشر أغنياته... عام كامل، وليس من ينصف الشيخ الضرير الذي تجاوز صوته الحدود، ووحّدت بحّته "الجماهير"، وليس من يعمل على اعطائه حقه في مسيرة الغناء المصري والعربي، خلال النصف الثاني من القرن المنتهي. وربما عاد هذا الظلم، في جزء كبير منه، إلى نفور هذا الفنّان "الملتزم" و"الثوري" - قبل أن يستهلك الزمن تلك المفردات! -من "المؤسسة الرسمية"، وإلى اختياره الحاسم منذ بداياته المبكّرة، أن يكون صوتاً للفقراء والمناضلين والصعاليك. ولعلّ التطوّرات السياسيّة والفكريّة التي عرفها العالم، وعرفتها المنطقة، انعكست على الجمهور احباطاً، واستنكافاً عن خطابه الساخر الناقم وأغنياته الواقعيّة الشعبيّة. وإذا بالفنّان الذي عرف السجن في عهدي عبد الناصر والسادات، يعرف تهميشاً متزايداً في عهد مبارك. هكذا انحسرت ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وانحصرت وسط دائرة ضيقة من المثقفين، خصوصاً بعد أن نشب، في النصف الثاني من الثمانينات، بين المغنّي والشاعر الذي كتب أجمل كلماته، خلاف لم ينجح المقرّبون أبداً في رأب صدعه. ولقاء إمام ونجم هو حصيلة لحظة تاريخية نادرة، تبلورت مع هزيمة الخامس من حزيران يونيو 1967، واقترنت بها. فإذا كان سيد درويش واكب ثورة 1919 وغنى لها، فباتت أغنياته رمزاً لمناهضة الاحتلال الأجنبي، فإن أغنيات إمام ونجم طلعت من جرح الهزيمة، وعبّرت عن غضب الناس، ووجّهت أصابع الاتهام إلى المسؤولين عنها. وامتزج النقد، بالسخرية اللاذعة والتعرية بلا رحمة، فاستمرا في موقفهما من النظام الحاكم، ولم تنفع الاعتقالات المتكرّرة في ثني عزيمتيهما. وفي السبعينات، خلال عهد الرئيس الراحل أنور السادات، أصبح إمام ونجم رمزاً للحركة الطلابية والعمالية وصوتاً لها، فكان نصيبهما التضييق والملاحقة. كما أن أجهزة الإعلام بقيت مقفلة في وجه أغنيات الشيخ إمام، حتى يومنا هذا. هل تزداد ظاهرة إمام ونجم أفولاً مع الأيام؟ هل ارتبطت أغنياتهما بمرحلة زمنيّة انقضت النكسة، والانفتاح الاقتصادي، السادات وشاه ايران ونيكسون وديستان، الكفاح الفلسطيني...، أم أن فيها، شكلاً ومضموناً، ما يتجاوز الآني والراهن إلى الشمولي الذي يجعل الفنّ يتجاوز زمانه ويصل إلى الأجيال المقبلة؟ ملْكٌ للناس أحمد فؤاد نجم يرى أن تراث الشيخ إمام خالد، وأنّه متجذر في الذاكرة المصريّة والعربية: "في التاسع من حزيران يونيو 1967 أعلن جمال عبدالناصر تنحّيه عن الحكم، وخرجت الجماهير إلى الشوارع تغنّّي "بلادي، بلادي، لك حبي وفؤادي". فوجئت بسيد درويش بعد كل هذه السنوات ينير للناس دربهم في الظلام، وسألت صديقاً إلى جانبي في التظاهرة: "عبد الناصر أعظم أم سيد درويش؟". "مصر أعظم من الاثنين" أجابني! هل تعرف الفلاحة المصرية التي تضع كيس النقود بجوار نهدها، أي في منطقة محرمة؟ مصر كذلك تخفي أولادها وتخرجهم وقت اللزوم". ويضيف نجم: "فن الشيخ إمام موجود وسوف يطلع وقت اللزوم. ولكنّه سيطلع من الناس، وليس من المؤسسة الرسمية التي بقينا معادين لها حتّى اللحظة الأخيرة، وعملنا من خارجها. أغنيات الشيخ إمام باتت اليوم مِلْكاً للناس، تعيش في وجدانها. ومن يملك أغنية في بيته، لن يسلمها للسلطات كما تسلّم الأسلحة". ويقارن الشاعر بين سيد درويش ورفيق دربه: "الشيخ إمام ليس سيد درويش، كي تقوم فرقة الموسيقى العربية بإحياء تراثه وتسجيل أغنياته على أسطوانات بعد اعادة توزيعها، وتقديمها في حفلات للجمهور. درويش كان يقاوم الاحتلال البريطاني ومصر كلها معه، ولكن مقاومة السلطة الحاكمة يختلف فيها الناس. فإمام كان معادياً للسلطة المصرية وليس لسلطة الاحتلال. لكن ثق أن الناس ستعيد له الاعتبار في الوقت المناسب. فالفنان محمد فوزي مثلاً كان محاصراً في عصره، ومعادياً لمافيا الأغاني التي كانت وقتها بزعامة محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، والآن يعاد له الاعتبار". إرتباط بالواقع المصري تجربة الشيخ إمام الفنيّة لم تخضع للتقويم حتى الآن، فهل هي مجرد موسيقى حماسية مصاحبة لكلمات أكثر حماساً؟ أم أننا أمام مبدع متميز، أتى باضافات أساسية إلى الموسيقى الشرقية؟ يلاحظ الموسيقار فاروق الشرنوبي أن ظاهرة إمام ونجم مرتبطة بالواقع المصري في فترة زمنية معينة، وان هذا الارتباط انعكس في تجربتهما على المستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي. "الشيخ إمام - يقول الشرنوبي - من مدرسة الشيخ درويش الحريري الشرقية الكلاسيكية، وهو من تلامذته مثل الشيخ زكريا أحمد والشيخ سيد مكاوي. ومنهج هذه المدرسة منهج شرقي مرتبط بالواقع المصري. من حيث الشكل ومن حيث المضمون، تمكن الشيخ إمام من التعبير عن العديد من القضايا، انطلاقاً من أشعار نجم ونجيب سرور وغيرهما، وقدّم كيانات فنية موسيقية توهج فيها الناس لفترة ليست بالقصيرة. وهناك أعمال لإمام ونجم غير مرتبطة بحدث أو مناسبة، وهي في رأيي ذات فنية عالية وستظل تراثاً خالداً يعبر عن منهج ومدرسة موسيقيّة. هذا بخلاف الأغاني التحريضية التي ربما انتهت بانتهاء الحدث". "تجربة إمام إذاً على درجة من الخصوصيّة، وذات مواصفات فنية عالية. قد لا يكون لها اليوم تفسير واضح في ظل الضوضاء الموسيقية التي نعيش، ولكن يمكن الالتفات إليها كمرحلة من تاريخ مصر. أما ادواته فلا بدّ من أن يتمّ تناولها لاحقاً، بعد أن تنفض الضوضاء الموسيقية إذا انفضت". ويذكّر الشرنوبي باللامبالاة التي أعقبت رحيل سيد درويش. "ولكن بعد ذلك جاء المنظرون والعلماء والمؤرخون وفسروا التجربة ودرسوها، واليوم نعتبرها خالدة، وهو ما لم يحدث في حياته او عقب وفاته مباشرة". أما عن "فك الحصار الاعلامي عن فن الشيخ إمام"، فيلاحظ فاروق الشرنوبي أن "الموقف الاعلامي معاد، ولكننا بدأنا نسمع أعمالاً للشاعر أحمد فؤاد نجم اعلاميا. الشيخ إمام كان الحصار عليه مزدوجاً: هو لا يريد وسائل الاعلام الرسمية، والاعلام يرفضه. لكن بعض أعماله ظهر في السينما، في "العصفور" و"عودة الابن الضال" ليوسف شاهين و"الهجامة" لمحمد النجار. وفي رأيي أن المخرج خيري بشارة كان يرمز إلى الشيخ إمام في فيلمه "أيس كريم في جليم" من خلال شخصية زرياب. وقريباً ستتحول السيرة الذاتية لأحمد فؤاد نجم "الفاجومي" إلى السينما، والبحث جار عمّن يقوم بدور المغنّي الراحل. بعد رحيل الشيخ إمام، سوف تختفي التحفظات بالتدريج، ويتم الكلام عنه باعتباره من رموز الحركة الوطنية في مصر، وكصاحب تجربة فنية وموسيقية فريدة. فالموسيقى الكلاسيكية الشرقية التي نشأ فيها الشيخ إمام، مكّنته من التعبير عن مضامين وأفكار عميقة". ولكن هل يمكن أن يعاد توزيع موسيقاه ويقوم مطربون بغنائها؟ يجيب الموسيقار فاروق الشرنوبي: "حدث ذلك قبل رحيل الشيخ إمام. فقبل عقد أخذ المطرب إيمان البحر درويش بعض الأغنيات واعاد توزيعها واداءها، محافظا في الوقت نفسه على خط اللحن الاساسي والمضمون الاساسي. لاقت التجربة نجاحاً وتعامل معها الجمهور باعتبارها أعمالا تراثية. وسوف أهتم شخصيّاً بتجميع أعماله وأعيد توزيع بعضها وأقدمه في تجربة كاملة اعتمد فيها على التكنيك الموسيقي المعاصر، مع التركيز على تراثه الحقيقي. أغنياته ليست تجاريّة! وعن تجربته مع أغاني الشيخ إمام، يقول المطرب إيمان البحر درويش - حفيد سيد درويش - إن بعض النقاد هاجمه لأنه لا يغنّي إلا لسيد درويش، "فغنيت للشيخ إمام، وكان الجمهور يعتقد ان ما اغنيه من تراث سيد درويش". ويعبر ايمان البحر، أن أغاني إمام "ليست تجارية إلى درجة تحقيق الربح، كما أن الرقابة ترفضها". ونسأله ما الذي يبقى من الشيخ أمام للأجيال المقبلة؟ فيجيب: "الناس لا تشعر بالفنان، إلا بعد موته وسآخذ على عاتقي تقديم أغانيه واعادة توزيعها". ويتذكر المطرب محمد منير عندما التحق بالجامعة، أن "الموضة لم تكن تسريحة شعر أو بنطلون الجينز، إنما كانت الموضة: من معه شريط إمام ونجم؟ كان الثنائي تياراً وطنياً، يعبّر عن حالة مصرية بحتة. غنيت لهما في الفيلم التلفزيوني "حكايات الغريب" وحاولنا، المخرجة انعام محمد علي وأنا، ابرام عقد بين التلفزيون المصري والشيخ امام لنأخذ منه اغنيتي "البحر بيضحك ليه" و"بحبك يا مصر". فقال لي الشيخ: "أرفض كتابة اسمي في عقود مع التلفزيون، وإذا كنت مصرّاً على هذه الاغاني فأنا متنازل عنها". وهذا ما تم بالفعل". ويضيف محمد منير: "كان الشيخ إمام مدرسة متكاملة، هي خلاصة كل المناهج الموسيقية الشرقية في مصر، من سيد درويش وزكريا أحمد وسيد مكاوي. تعامل مع الكلمة الاستفزازيّة، وكان صاحب مشروع وفكرة، لا مجرد فنان "يسلّي" الناس. ولا يمكن إن نتجاهل الدور الذي لعبته أغنياته في تنمية الحس الوطني في صفوف الطلاب والعمّال". كنّا نقدم شيئاً آخر أما المطربة عزة بلبع، فشكلت مع إمام ونجم مثلثا فنياً نادراً. عاشت وناضلت معهما وطافت مدن وقرى مصر واضعة حنجرتها الرقيقة في تصرّف الكلمات الثورية والألحان الشعبية. واذا كانت مسيرة نجم وإمام تأسست في منتصف الستينات، فإن عزّة انضمت إليهما في منتصف السبعينات. "بصرف النظر عن عدائهما للسلطة - تقول عزّة - شعرت أنني أوظف موهبتي في المكان الصحيح. إمام ونجم كانا يقولان الحق بشكل فني راق. عملت معهما، ثم تزوجنا أنا ونجم. بدأت معهما في حفلات الجامعة، ثم ذهبت إلى كل قرى ونجوع وكفور ومدن وأحياء مصر الشعبية. كان الجو السياسي ساخناً، محادثات فك الارتباط مع اسرائيل، انتخابات مجلس الشعب، والمنابر، والانفتاح الاقتصادي، والاقتراب من الغرب، شعرت أنني أؤدي رسالة سياسية. ومع هذه السخونة كنا نشيطين جداً، حفلات وأمسيات والاستجابة في أوساط الطلاب والعمال والفلاحين والمثقفين كانت رهيبة. واتذكر أنني غنيت ذات مرة في جامع بقرية المشاعلة التابعة لمحافظة الشرقية هروباً من بطش السلطات...". تتذكّر عزة بلبع أن غناء الشيخ أمام كان يصل إلى البسطاء وإلى دائرة واسعة من الناس، على الرغم من أنه كان ممنوعاً، ويتم تهريبه إليهم بشكل أو بآخر. كنا نقدم شيئاً مختلفاً، كأنه احتفال يجمع بين الشعر والغناء، وعشرات أجهزة التسجيل أمام أفواهنا تشهد على تحقّق حلمنا في الوصول إلى الناس البسطاء. لم تكن الشهرة تعنينا أبداً، كان الحلم وطنيا وثورياً. ولعلّ انتمائي إلى تلك التجربة أضرّ بي ولا يزال، على أكثر من صعيد، فأنا أعتبر أنّه كان لي حظ وشرف الخوض فيها". عزة بلبع : خائفة جدّاً! لكن لماذا ازدهرت الظاهرة في عهدي عبد الناصر والسادات، وأفلت في عهد مبارك؟ تجيب عزة: "أي مشروع معرّض للتغيرات. في الثمانينات، حدثت قطيعة بين المثقفين المصريين والشعب، وحصلت متغيرات في المجتمع أدت إلى هذا الخصام أو الطلاق. وساد نوع من الديموقراطية في عهد مبارك، وتم التحوّل عن أغنية إمام ونجم لأنها "أغنية رأي ممنوع". وانعكست الطفرة الديموقراطية في المسرح والسينما والصحف وتعدد الاحزاب، في حين أن أغنية إمام كانت الوحيدة التي تنتقد الاوضاع في المراحل السابقة، وكان دورها رياديّاً". هل يعني ذلك أن الستار أسدل اليوم نهائياً على تجربة الشيخ إمام؟ "أنا من الذين يحملون تلك التجربة في ذاتهم ووجدانهم. القيمة الفنية لتلك الأغنية عالية ومرتبطة بفترة من حياتنا، ولكنّها لم تأخذ حقّها مثل أغنية سيد درويش لأنها كانت دائماً مقموعة. السلطة كانت تتصور اغنية امام ونجم خطرا يتهددها. ولكن دور المثقفين، وأحمد فؤاد نجم تحديداً، الحفاظ على هذا التراث وتسجيله. بعض التسجيلات تم وهو موجود على شرائط كاسيت لدى الهواة ولكن هذا غير كاف. لابد من الاحتفاظ بأغاني الشيخ إمام كما هي، ولا بد من كتابتها وتدوينها موسيقياً وتوزيعها وتسجيلها بأصوات مطربين. أنا خائفة جداً من أن يندثر هذا التراث. وما أحفظه من اغانيهما المفروض أن أسجله، ولكن هذه مسألة صعبة، وحالياً أفكر في الأمر، وسأجد حلاً لأنني أشعر بالمسؤولية". أما الشيخ سيد مكاوي فقد كان رأيه سلبياً في الشيخ امام عيسى، إذ قال ل "الوسط" إنه لم يسمع سوى ثلاث من أغنياته: "الأولى تشتم عبد الناصر، والثانية تشتم السادات، والثالثة يغني فيها لغيفارا. وأي مقاتل مصري مات في خط بارليف أحسن في رأيي من غيفارا". واختتم مكاوي: "اذكروا محاسن موتاكم... لم أسمع له أكثر من ذلك! فن الصعاليك ويتذكّر الشاعر الغنائي الشاب ابراهيم عبد الفتاح: "مراهقاً كنت أتبادل أشرطته سراً مع أصدقائي، أخبئها تحت جلدي وأسمعها خلسة خلف ظهر أبي. هكذا أدركت قيمة الغناء، ضرورة الغناء، وانتبهت إلى أن السلطة تصادر الكلمة وتسجن الكلام. كان إمام بركاننا، وثورة لا تنتهي ولا تنام...". أما الكاتب الصحافي صلاح عيسى، وكان قريباً جداً من هذه الظاهرة، فيعتبر أنّها "ارتبطت بظرف سياسي واجتماعي معين، وجمعت بين شعر جديد في مفرداته وصوره وأخيلته ومواقفه... وألحان جديدة تتميز بدرجة عالية من التأثر بالموروث، شعراً ولحناً، والاستفادة منه. أعتبر أن تجربة إمام ونجم تنتمي إلى "فن الصعاليك" مع درجة من التجاوز. الكلمات والالحان مأخوذة مما هو متداول في الأحياء الشعبية، تمزج بين نداءات الباعة ومحاولات التجديد في الموسيقى العربية من سيد درويش إلى زكريا أحمد". ويتطرّق صلاح عيسى إلى الخلاف الذي نشب بين إمام ونجم: "لا أرى أنّه خلاف شخصي، وانما له أسباب نفسية عميقة. فالظاهرة التي عبّرت عن آخر انتفاضة شعبية عربية مع "كامب ديفيد"، كانت بدأت تلهث. وكان هناك شعور لا واعٍ ربّما، أو حدس، بأن مرحلة ما تنتهي وبأنّه آن أوان الانفضاض. كما انفرطت الحركة الطلابية، وحركة الصمود والتصدي، مع تفتت العوامل التي أدت إليها. لكنّ المدرسة الفنيّة التي تركها هذا الثنائي لم تزول، بل هي جزء من ذاكرتنا، ولا شك في أنها ستلهم فنّانين آخرين". ويضيف صلاح عيسى: "موسيقى سيد درويش ارتبطت بثورة 1919 وبالفترة الممتدّة بين 1918 و1923. ومع ذلك عاشت هذه الموسيقى وألهمت كثيرين وساهمت في تطوير الموسيقى العربية... مدرسة إمام ونجم كالقطط "بسبع أرواح"، كلما سمعت أغنياتهما وتأملت معانيها، تجد وراء بساطتها معاني عميقة ومشاعر جارفة تتجدد في كل مرة تستمع إليها. أحياناً تكتشف هنا وهناك دلالات وأبعاداً لم تنتبه إليها. وحتّى ما أسميه "البيانات السياسية" يشتمل على بعد شاعري وعاطفي، على تغزل بالطبيعة وتتغنّى بالشعب. وهذا سيبقى لزمن طويل". ويرى الناقد كمال النجمي أن صوت إمام "ليس صوت مطرب، إنما صوت قارئ يغني، يؤدّي قصائد وألحاناً جيّدة، قريبة من الناس. لم يعمل الشيخ الضرير أبداً على أساس التطريب، بل بقي أقرب إلى "الداعية". عاش بعيداً عن المؤسّسة ولم يفسح له التلفزيون فرصة الوصول إلى جمهور واسع. عاش كالصعاليك، ولا أجد له شبيهاً في عصره بين أهل الفنّ. ولا أظنّ أن أغنياته ستشيع، لأن أيّة رقابة لن تقبل بها. وهو المطرب والملحن الوحيد الذي دخل السجن بسبب أغانيه، ليس له مثيل في تاريخ الفن العربي المعاصر. لم يكسب من الغناء فلساً واحداً. ونحن اليوم مدينون له بالكثير... فهو يستحقّ التكريم، ولا بدّ من جمع تراثه ونشره على أوسع حلقة من الجمهور".