مهرجان الرباط في المغرب قرر هذا العام ان يكرم السينما المصرية عبر تقديم العديد من أعمال اثنين من أهم مبدعي موجتها الجديدة، الراحل عاطف الطيب والفنان رأفت الميهي. ولئن كانت وفاة عاطف الطيب المأسوية والمبكرة في العام الفائت، حركت الأقلام للكتابة عنه وعن سينماه، فإن سينما رأفت الميهي ظلت، في مجموعها، غير معروفة تماماً للجمهور العريض، الذي قد يعرف أفلام الميهي فيلماً فيلماً، ولكن لم تتح له من قبل أية فرصة لتأمل هذه الأفلام في وحدتها الأسلوبية والموضوعية، وأسبوع تكريم الميهي في الرباط بين 14 و21 حزيران يونيو الجاري سيكون مناسبة طبيعية لمثل هذا التأمل. اذا كان من الطبيعي لمخرج سينمائي ان ينتقل خلال مراحل متتالية من حياته الفنية من أسلوب الى آخر، كأن يكون في مرحلة ما واقعياً ثم يطغى عليه، في مرحلة تالية، أسلوب ذاتي أو غرائبي، قبل ان ينتقل في مرحلة ثالثة، الى أسلوب ثالث، فإن ما يميز المخرج المصري رأفت الميهي هو تنقله الدائم، كالمكوك، بين أسلوبين اتسم بهما، معاً، عمله السينمائي، كمخرج ولكن قبل ذلك ككاتب للسيناريو. فعلى الرغم من قلة عدد الأفلام التي حققها خلال عقد ونصف العقد من السنين، هما عمره كمخرج، عرف الميهي دائماً كيف ينوع في أسلوبه وكيف يوازن بدقة بين توجهين طبعاه، كان بالنسبة الى الأول وريثاً شرعياً له، وبالنسبة الى الثاني أحد كبار مؤسسيه في السينما المصرية. التوجه الأول، هو التوجه الواقعي الذي طغى على بعض أجمل أفلامه سواء أكانت تراجيدية مثل "عيون لا تنام" و"للحب قصة أخيرة" أو هزلية مثل "الأفوكاتو". أما التوجه الثاني فكان توجهه الغرائبي الفانتازي الذي طغى على أفلام مثل "السادة الرجال" و"سيداتي آنساتي" وخاصة "سمك لبن تمر هندي"، وأخيراً "قليل من الحب، كثير من العنف" الذي حققه قبل ان يعود الى المزج بين "الواقعية" و"الفانتازية" في فيلمه الأخير "ميت فل". هذا التنوع والترحال الدائم بين التوجهين، لم يتح لجمهور متفرجي أفلام رأفت الميهي، ان ينظر اليه نظرة شمولية قبل الآن. ومن هنا تأتي أهمية التظاهرة المغربية، في الرباط، حيث ستقدم أفلام الميهي، في مجموعها، للمرة الأولى ضمن اطار تسلسلها التاريخي، مما سيضع المتفرج في مواجهة عمل لن يفوته ان يلاحظ وحدته الموضوعية، على رغم تنوع الأساليب. ولعلنا، في هذا المجال، لن نكون بعيدين عن الصواب ان نحن رأينا في رأفت الميهي واحداً من قلة نادرة من مخرجين عرب، أو مصريين، تمتع عملهم بمثل هذه الوحدة. فسواء أكان الأسلوب، في فيلم معين، واقعياً، أو كان فانتازياً، هناك دائماً المشاكل والقضايا نفسها التي يحاول الميهي ان يتطرق اليها، بمأسوية حيناً، بخفة دم حيناً آخر، وبنظرة ثاقبة في معظم الأحيان. واذا كان لنا ان نبحث بين أفلام رأفت الميهي عن فيلم يمكنه ان يلخص كل مواضيعه وكل أساليبه، على تنوعها، سنجد أمامنا "قليل من الحب وكثير من العنف" 1994، الذي قسمه المخرج بالتساوي بين الواقعية والفانتازية وأقام واحدة من أكثر التوليفات غرابة في السينما المصرية. وتبدو غرابة الأمر أكثر الحاحاً ان نحن تذكرنا ان الميهي قد اقتبس موضوع "قليل من الحب…" عن قصة لفتحي غانم. ولكن الميهي، كمؤلف لفيلمه، أي فيلم من أفلامه، انطلاقاً من كونه كاتباً للسيناريو، ومنتجاً ومخرجاً ومشرفاً على كل كبيرة وصغيرة في الفيلم يعرف دائماً كيف يستحوذ كلياً على الموضوع الذي يقتبس منه، على قلة ما يقتبس، بحيث لا يعود ذا علاقة بمؤلفه الأصلي. صراع الأخوة تحت الجسر حدث هذا، منذ الفيلم الأول الذي أخرجه رأفت الميهي بعنوان "عيون لا تنام" 1980، حيث من المعروف انه اقتبس الفيلم عن مسرحية يوجين أونيل "رغبة تحت شجرة الدردار" ولكن مقارنة بسيطة بين الفيلم المصري والمسرحية الأميركية تكفي لتقول لنا ان الميهي أدخل من التبديلات الجذرية في العمل ما جعل "عيون لا تنام" فيلماً ينتمي كلياً الى البيئة المصرية. فالحكاية التي تدور في كاراج لتصليح السيارات يقع تحت جسر "6 اكتوبر" وسط القاهرة ووسط ضجيجها، الحكاية التي تصور الصراع الدامي بين ابراهيم فريد شوقي واسماعيل احمد زكي من حول ملكية الكاراج، وكذلك من حول المرأة: محاسن مديحة كامل التي يتزوجها ابراهيم فتصارع اسماعيل قبل ان تقع صريعة هواه وتنجب منه الطفل الذي سيرث الكاراج تحت رعاية الخاطبة القوادة، بعد ان يقتل من يقتل ويجن من يجن من الأخوة، اضافة الى موت محاسن وهي تضع وليدها. هذه الحكاية وشخصياتها تبدو في الفيلم شديدة الانتماء الى الواقع المصري. حيث تمكن الميهي من ان يرصد زمن الانفتاح، والصراع على المادة، والاحباط العام، ويغلف كل ذلك بصخب المدينة وضجيجها ليقدم في النهاية واحداً من تلك الأفلام التي أسست لما سيسمى في ما بعد بپ"تيار الواقعية الجديدة" في السينما المصرية وكان من أبرز علاماته علي بدرخان والراحل عاطف الطيب وخيري بشارة ومحمد خان. ولقد تميز رأفت الميهي بين هؤلاء جميعاً، وكلهم يقاربونه في السن، بعمق تجربته السينمائية السابقة، اذ انه الوحيد من بينهم الذي أتى من كتابة السيناريو حيث اعتبر طوال فترة السبعينات واحداً من ابرز كتاب السيناريو في مصر، وحسبنا ان نورد أسماء بعض أهم الأفلام التي كتب لها السيناريو، حتى ندرك عمق التأسيس الذي كان من نصيب الميهي قبل ان يتحول الى الاخراج. فمن سيناريو "غروب وشروق" اخراج كمال الشيخ، 1969 عن قصة لجمال الغيطاني، الى "الحب الذي كان" اخراج علي بدرخان، 1971، الى "شيء في صدري" اخراج كمال الشيخ، 1972 ثم ""أين عقلي" اخراج عاطف سالم و"غرباء" اخراج سعد عرفة، 1973 وصولاً الى "على من نطلق الرصاص" اخراج كمال الشيخ في العام 1975، عرف رأفت الميهي كيف يقف وراء بعض أفلام تلك المرحلة، وكيف يقارب السينما من الواقع، وكيف يجعل منها صوتاً ينطق ضد الفساد والطغيان وفقدان الذاكرة. وكان يمكن لرأفت الميهي ان يواصل كتابة السيناريوهات لأفلام غيره، غير ان "سوسة" الاخراج سرعان ما ركبته هو الآخر، فكان "عيون لا تنام" الذي حقق من النجاح والسمعة والطيبة ما جعل مخرجنا يتخذ قراره بمواصلة طريقه كمخرج/ مؤلف هذه المرة. أفوكاتو في الزنزانة غير ان نجاح الفيلم الأول لم يعنِ، بأي حال من الأحوال ان المشاريع التالية كانت تنتظره على قارعة الطريق، اذ نراه بعد ذلك وقد اضطر للانتظار أكثر من خمس سنوات قبل ان يخوض تجربته الاخراجية الثانية في الفيلم الذي سيظل حتى فترة طويلة تالية واحداً من انجح أفلامه وأكثرها اثارة للسجال. في فيلمه التالي "الافوكاتو" اختار الميهي ان ينتقل من الواقعية المأسوية، الى الواقعية الساخرة، وراح يبث في زوايا ذلك الفيلم ارهاصات أسلوبه الغرائبي المقبل في الوقت الذي واصل - من حيث الموضوع - رصده للمجتمع ولفساده. وذلك من خلال قصة المحامي حسن سبانخ الذي يسأم من مستوى عيشه دون المتوسط فيقرر ان يخبط خبطته الكبرى فيدخل السجن حيث يجاور رمزين من رموز أزمان الفساد، مسؤول سابق كبير، ومهرب أكبر منه. وفي السجن، وانطلاقاً منه، يرتب حسن سبانخ خبطاته المتتالية التي تنجح حيناً وتفشل حيناً، حتى النهاية التي يتركها المخرج مفتوحة وقد وعدنا بمواصلة حسن سبانخ لرحلته. لقد أثار هذا الفيلم اعجاب المتفرجين وتعاطف النقاد المحليين والأجانب، لكنه أثار في الوقت نفسه حفيظة المحامين وأهل النظام، فيما وفر لبطله عادل امام في دور حسن سبانخ واحداً من أهم الأدوار السينمائية التي لعبها في حياته الفنية المديدة، وأعطى للفنانة يسرا واحداً من أول أدوارها الكبيرة. في "الأفوكاتو" بين الضحك والجد، بين السخرية المريرة والرصد الواعي لأحوال المجتمع، عرف الميهي كيف يقدم فيلماً مسلياً مريراً يكشف الفساد، معتبراً انه المسؤول كقيمة اجتماعية جديدة تفرزها الأوضاع المادية الجديدة، عن البؤس الذي بات من نصيب المجتمع وعن فساد الأخلاق العام. لقد كان بإمكان رأفت الميهي ان يخوض بعد "الافوكاتو" تجاربه الجديدة في مجال ابتكاراته اللغوية، غير انه آثر ان يؤجل ذلك ليقدم فيلماً "واقعياً" في منتهى الحزن والسوداوية هو، "للحب قصة أخيرة". فالفيلم هو في نهاية الأمر فيلم عن الموت، عن موت الذين نحبهم، ويقول الميهي انه قرر تحقيقه بعدما كان شاهد أمه تموت أمام عينيه طوال 12 يوماً دون ان يكون قادراً على رد غائلة الموت عنها. فنحن أمام الموت نغوص في عجزنا اللانهائي. وموضوع "للحب قصة أخيرة" هو ذلك العجز الذي يعيشه أخوة "عيون لا تنام" أيضاً ويودي بهم الى الهلاك. أتى "للحب قصة أخيرة" فيلماً شفافاً هادئاً في حزنه سوريالياً في ثورة بطلته ضد الأقدار. فهل نقول انه كان أكثر أفلام رأفت الميهي ذاتية، وانه الأكثر ارتباطاً بشخصيته؟ رغبة حاسمة في الصراخ على الأقل بجانب من شخصياته المتعددة، اذ منذ "الافوكاتو" بات واضحاً ان رأفت الميهي يصنع أفلامه كما يعيش، في مزيج من الرقة والفوضى، من الحنان والاستسلام، من اليأس والأمل، ودائماً من الرغبة في الصراخ: الصراخ ضد الظلم والرقابة والفساد. وهو لكي تكون صرخته أكثر حرية ولكي يكون احتجاجه ضد سوداوية العالم أكثر شبهاً بشخصيته المرحة - الفوضوية - العابثة، التي يكذبها دائماً ذلك الحزن الماثل في العينين، اختار في أفلامه الثلاثة التالية ان يلجأ الى أسلوب غرائبي، كانت ارهاصاته تبدت في "الأفوكاتو"، ولكن أيضاً في سيناريو كتبه لصلاح أبو سيف، وحققه هذا الأخير في فيلم حمل عنوان "البداية" ولسوف يكون من المفيد هنا ان نلاحظ ان "البداية" بمقدار ما يقترب من عوالم رأفت الميهي التالية، يبتعد عن عوالم صلاح أبو سيف وأساليبه المعتادة بحيث بدا الأمر وكأن رأفت الميهي، الذي كان آلى على نفسه ان ينتقل مرة واحدة الى أسلوب الفانتازيا، جبن في اللحظة الأخيرة فآثر ان يجرب الوصفة في فيلم يكتبه هو ويخرجه غيره أبو سيف. ولكن بقدر ما فشل أبو سيف في الفيلم، نجح رأفت الميهي في اختيار الأسلوب مما هيأه لقفزته التالية. وقفزته التالية حملت اسم "السادة الرجال" 1987 في فيلم يقوم على فكرة خيالية تحول بطلة الفيلم الانثى بامتياز، فوزية، الى رجل بعد ان تنتهز فرصة سفر زوجها الصحافي في مهمة الى الخارج. كل الفيلم، عبر أسلوبه الخيالي، يسير في الحقيقة على مستوى الرمز والمجاز، حيث ان تبدل فوزية ليس أكثر من عملية ذهنية هدفها الاحتجاج على وضع المرأة في المجتمع، وضد الفساد المستشري في ذلك المجتمع. ولعل اللفتة الذكية في "السادة الرجال" تكمن في ما يقترحه علينا المخرج من ان فوزية حين تتحول الى رجل وتقع في غرام سميرة، زميلتها في البنك، لا تحرر المرأة، بل تحرر نفسها فقط، لأنها انما تمارس مع سميرة القمع نفسه الذي كان زوجها أحمد يمارسه معها. غير هذا الموضوع، وكما فعل في "الأفوكاتو" يقدم رأفت الميهي صورة لأحوال المجتمع ولفساده ولقدرته على تدمير الأفراد، وهو نفس ما سيفعله في فيلمه التالي "سمك لبن تمر هندي"، حيث يوصل الخيال هنا الى أقصى ما تسمح به الامكانات التقنية، ولكن أيضاً الامكانات الاستيعابية لجمهور الفيلم المصري، يرسم مرة اخرى صورة لمجتمع الفساد. فاذا كان "السادة الرجال" عن العلاقة التي ينظمها المجتمع بين ذكوره واناثه، فإن "سمك لبن تمر هندي" يرسم صورة أشد قسوة لعلاقة الفرد بالسلطة في مجتمعات العالم الثالث عموماً. والموضوع هنا هو في نهاية الأمر موضوع الديكتاتورية والعلم والفرد والمجتمع. ولئن بدأ المخرج فيلمه بداية شبه واقعية من خلال حكاية طبيب مثالي يريد ان يصلح مجتمعه - على غرار بطل مسرحية "الطعام لكل فم" لتوفيق الحكيم - ويحاول والده ان يساعده في مسيرته، غير ان الفيلم سرعان ما ينحرف في النصف الثاني منه نحو سوريالية - فانتازية في منتهى الغرابة والصعوبة تذكر الى حد بعيد بالهواجس التي تملأ أفلام السوريالي الاسباني لويس بوينال، حيث يمتزج الاطباء بالمرضى، والموتى بالأحياء ويختلط الكلام بشكل سيذكر به، لاحقاً، واحد من اجمل وأقسى مشاهد فيلم "قليل من الحب، كثير من العنف" الذي سيحققه بعد ذلك بسبعة أعوام. صحيح ان نظرة نلقيها اليوم على "سمك لبن تمر هندي" ستكشف لنا الكثير من الهنات، وتضعنا أمام استخدام، سيبدو مجانياً، لأسلوب الفانتازيا، وأمام صعوبات متعمدة جعلت الجمهور ينصرف عن الفيلم، غير ان فانتازية الفيلم، التي أسست لأساليب سوف تجد لها لاحقاً تلامذة نجباء مثل شريف عرفة. وسعيد حامد، ستكون أساساً لمزيد من الاستخدام الأمثل لأسلوب الفانتازيا في فيلمين على الأقل من أفلام رأفت الميهي الثلاثة التالية. ففي "سيداتي آنساتي" 1989 الذي سيتوقف رأفت الميهي بعده عن العمل طويلاً، حاول المخرج ان يمزج بين شتى الأساليب التي كان توصل الى العمل عليها حتى ذلك الحين، ليقدم فيلماً تمتزج فيه المرارة بالكوميديا، والسخرية الاجتماعية، بالنقد الواعي لمجتمع يتحرك… ولكن الى الوراء. هنا في هذا الفيلم نجد انفسنا أمام كل الأزمات: الدكتور الذي يضطر للعمل ساعياً، تعطيل المجتمع لرغبة الأفراد في عيش حياتهم المستقلة، أزمة السكن، الأزمة المعيشية، وذلك من خلال حكاية أربع نساء يقررن الزواج من رجل واحد لمجرد الحصول على مكان يؤويهن، رغم كونهن يمثلن نخبة النخبة في المجتمع العامل. في هذا الفيلم وصلت سخرية رأفت الميهي المرة ازاء المجتمع الى ذروتها بحيث يبدو فيلمه وكأنه إرهاص بالصراع الذي سينشب بين المجتمع الواعي والمتشددين الدينيين بعد ذلك، ولا سيما حول مسائل مثل وضعية المرأة، والزواج… الخ. نحو مزج للأساليب أما في الفيلم التالي "قليل من الحب، كثير من العنف" 1994 فقد أوصل الميهي لغته السينمائية الى تألق استثنائي وبدا متمكناً من فنه، ومن احكام ربطه لموضوعه على رغم ما يبدو على الموضوع من تشدد يجعله، ظاهراً، يبدو وكأنه فقد وحدته. فهنا في هذا في الفيلم حاول رأفت الميهي، الذي كان عائداً للسينما بعد غيبة تواصلت أكثر من نصف عقد، حاول - كما يبدو - ليس ان يمزج أساليبه ويلخصها، بل ان يضعها متجاورة بشكل خلاق، بشكل خلق للفيلم وأسلوبه صعوبات عرف الميهي كيف يحلها عبر سيناريو هو أقوى ما في الفيلم. اذ هنا جاور الميهي أسلوباً واقعياً مع مسار فانتازي ليعبر عن قصة واحدة تبدو حيناً منطقية وحيناً فانتازية، حيث أمامنا الشخصيات نفسها تلعب دورها في الواقع ودورها في ما وراء الواقع. في النهاية يبدو الفيلم وكأنه يترك المجال واسعاً لعيش الشخصيات حياتها المزدوجة من حول قصة حب الشخصيات الذكورية الثلاث في الفيلم لفاطمة: زوجها الثري طلعت، وصديقه المهندس يونس وسيد العتر ابن الميكانيكي الفقير. من حول علاقة هذه الشخصيات الرمزية الثلاث بفاطمة، وهواجسها من حولها، صاغ رأفت الميهي فيلماً قوياً ونادراً ليس أقل ما يقال فيه ان مخرجه - كاتب السيناريو كان في نهاية الأمر بطله الوحيد. هذا الفيلم حرك سينمائية رأفت الميهي من جديد، وجعله يقدم، و"قليل من الحب كثير من العنف" لم يعرض بعد، على خوض تجربة جديدة، تقوم بدورها على فكرة خيالية، ولكن من جديد لخدمة نظرة صارمة وناقدة الى الواقع، هذا الفيلم الجديد هو "ميت فل" الذي يبدو مخادعاً في بساطته، حين يتبدى ظاهرياً أشبه بفودفيلات دوريس داي - روك هدسون، في الخمسينات. لكن نظرة اليه أكثر تعمقاً يمكنها ان تكشف لنا فيه أبعاداً مجازية وربما ميتافيزيقية. فهنا أمامنا زوجان هشام سليم في واحد من أفضل أدواره، وشيريهان، في أفضل ما قامت به من أدوار منذ دورها الرائع في "الطوق والأسورة" من اخراج خيري بشارة يقرران أمام آمالهما المالية المحبطة ان يقنعا ثرياً بأن يتخذهما ابنين له، ويعثران على الثري في نهاية الأمر في شخص حسن حسني الرائع الذي يتبناهما. الى هنا يبدو الفيلم أشبه بمسرحيات جورج فيدر التي تقوم على المفارقات، خصوصاً وان الزوجين قد تحولا هنا، عبر عملية التبني، الى شقيق وشقيقة مما يحرم عليهما ممارسة حياتهما الطبيعية. ولكن، ما ان نخرج في نظرتنا الى الفيلم من تحري هذه العلاقة الثلاثية المربكة، حتى نجدنا أمام عمل يطرح أسئلة شائكة، الحقيقة ان رأفت الميهي لم يكف عن طرحها منذ "عيون لا تنام" و"للحب قصة أخيرة"، أسئلة تتعلق بمشروعية الوجود، وحرية الاختيار، والمسؤولية الواعية عن الاختيار الانساني. كل هذه الأسئلة قد لا تبدو واضحة تماماً - وهذا أفضل لكي لا يسقط الفيلم في أفخاخ قد لا يود أي مبدع ان يسقط فيها الآن بالذات - لكنها تقف في خلفية فيلم متقن، بارع اللغة، جيد التركيب، قدم لنا شيريهان مفاجئة ومختلفة، خفيفة كالريح الربيعية، ولا سيما في مشهد الرقصة الهندية الذي قد يكون البعض رأى فيه اطالة، لكننا نعتقد ان الاطالة فيه أتت مسلية، ناهيك عن كونها تبدت جزءاً من النسيج الدرامي للفيلم، حيث عرفت شيريهان أمام كاميرا رأفت الميهي الفضولية كيف توازن بين حركات جسدها، ونظرات عينيها الوجلة المليئة بالخوف من ان ينتهي الأمر بالأب المختار الى ان يطردها هي وشقيقها من جنته المريحة ان لم تعجبه الرقصة. في "قليل من الحب، كثير من العنف" كما في "ميت فل" أوصل رأفت الميهي اسلوبه الفني الى أقصى درجاته، بحيث يحق لنا الآن ان نتساءل عما ستكون عليه مرحلته المقبلة؟ لقد وفر نجاح الفيلمين، وكذلك ردود الفعل الايجابية على فيلم انتجه رأفت الميهي من دون ان تكون له علاقة مباشرة به، وهو "يا دنيا يا غرامي" لمجدي محمد علي، وفر كل هذا لرأفت الميهي امكانية مواصلة العمل داخلاً عالمه السينمائي الجديد من الباب العريض. وهو اليوم، في السادسة والخمسين من عمره دائم الشباب، دائم التألق، دائم الغضب والصراخ، ودائم الرغبة في الابتكار. أفلامه تقسم النقاد والجمهور من حولها، قد نحبها وقد لا نحبها، ولكن لا يمكنك أبداً ان تكون حيادياً تجاهها. أفلام تضع صاحبها في مكانة على حدة، مكانة من الواضح ان التكريم الذي سيكون من نصيب رأفت الميهي في الرباط سيعطيها كل زخمها ويبقى السؤال: ماذا بعد؟