لا يزال تاريخ منطقة الخليج العربي يثير شهية الباحثين. فقد اهتم الرحالة الاوروبيون بهذا الجزء من العالم، واستخدمه قادة الاساطيل محطات عبور قبل حروب التوابل، منذ ازدهار طريق الحرير واكتشاف دي غاما طريقاً ملاحياً جديداً الى الهند ينقذ البرتغال من هيمنة الاسبان. ولعل ما كتبه أولئك الرحالة يكاد يشكل اليوم المصدر التوثيقي الوحيد لمعرفة ماضي هذه المنطقة، مع العلم ان ما كتبوه يبدو اليوم مثيراً للجدل، كونه جاء معبراً عن وجهة نظر طرف معين هو صاحب أطماع. ويبدي الخليجيون اليوم اهتماماً متزايداً بالوثائق الموجودة في الأرشيف الهولندي والاميركي والبرتغالي والالماني والروسي. وفي هذا السياق، تندرج مبادرة رجل الاعمال الاماراتي جمعة الماجد الذي أسس مركزاً للثقافة والتراث في دبي. والمركز يسعى منذ تأسيسه لاعادة الاعتبار الى البحث العلمي في تاريخ المنطقة، وآخر نشاطاته كان تنظيم ندوة تاريخية مهمة في لندن حول "كتابات الرحالة والمبعوثين عن الخليج عبر العصور"، حضرها حشد من العلماء والأكاديميين وأهل الاختصاص. الندوة أتاحت امام المهتمين فرصة التعرف الى أفكار وحقائق لم تعرف من قبل، كما بينت بعض مداخلاتها بطلان معلومات تاريخية يتم تداولها كحقائق راسخة. "غطت الندوة سبعة قرون من تاريخ منطقتنا - يقول جمعة الماجد - وآن الأوان لاعادة صياغة تاريخنا بشكل علمي وموضوعي. ولسنا وحدنا المهتمين فالشيخ حسن بن محمد بن علي آل ثاني أغنى الندوة بكشف كنوز مكتبته الخاصة في قطر، ومن ضمنها خرائط ومخطوطات لم تكن معروفة من قبل". ووجه الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة، الأمين العام ل "مراكز الدراسات والوثائق في الخليج العربي"، الى الندوة رسالة جاء فيها: "ملأ تراثنا وتاريخنا خزانات الكتب في العالم، والمراكز التي انشأناها تعمل جاهدة لتجميع ما يتعلق بنا ووضعه بين أيدي الدارسين. ومنذ عشرين عاماً اجتمعت هذه المراكز تحت مظلة واحدة هي الأمانة العامة لمراكز الدراسات والوثائق". اما الدكتور علي بن محمد التويجري المدير العام لمكتب التربية العربي لدول الخليج، ومقره الرياض، فتوجه الى المشاركين قائلاً: "ندوتكم هذه، على تخصصها ودقة موضوعاتها، تساهم في تقديم التاريخ الى الاجيال المقبلة بصورة علمية، وتفضح الدعاوى الزائفة التي عممها اصحاب المصالح والمطامح". واعتبر الدكتور مفيد شهاب رئيس جامعة القاهرة في مداخلته، ان "اهمية منطقة الخليج الجغرافية والاستراتيجية والاقتصادية دفعت بالمستعمرين والقوى الدولية للسيطرة عليها، بدءاً من الاسكندر الاكبر والفينقيين مروراً بالسلوقيين والبطالسة، ومن بعدهم الرومان الذين اهتموا بتجارة الشرق عبر البحر الأحمر، والفرس في عهد الأسرة الساسانية عندما لعبوا دور الوسطاء بين العرب والصينيين. ومنذ 1506 بدأ التدفق الاستعماري الاوروبي ممثلاً بالغزو البرتغالي والهولندي الى ان انفرد الانكليز بالمنطقة... وما أحوجنا اليوم الى اعادة كتابة تاريخنا من خلال رؤية عربية عادلة صادقة ومحايدة. فكتابات الرحالة المبعوثين الاجانب موضع شبهة، تعكس مصالح هؤلاء". وناقشت الندوة خمسة محاور خصص كل منها لمرحلة تاريخية، بدءاً بالعصور الاسلامية وحتى نهاية القرن الخامس عشر. عن "الكتابات الجغرافية للرحالة المسلمين في العصر الوسيط في الخليج"، أستاذ الفلسفة في اللغة العربية وآدابها في جامعة تورنتو، ورئيس تحرير مجلة "المساق" الدولية للدراسات الاسلامية والعربية في حوض المتوسط. يعتبر إيكيوس "ان الجغرافيا الخاصة بالمنطقة التي وضعها بطليموس، راجعها اربعة رواد من الجغرافيين المسلمين هم ابن خرداذبة والمسعودي وابن حوقل واليعقوبي. إذ طاف هؤلاء الديار الاسلامية كلها، ولم يكتفوا بالمعلومات الجغرافية بل قدموا تفاصيل مهمة عن احوال الشعوب الاقتصادية والاجتماعية". وتوقف الباحث مطولاً عند امكانية اختلاط الاسطورة والقصص الخرافية بالمعلومات التي كتبها ابن بطوطة عن رحلته الشهيرة الى الشرق. وانبرى الدكتور عبدالله يوسف الغنيم، استاذ الجغرافيا في جامعة الكويت، للرد على إيكيوس موضحاً ان المسعودي أجاد في تتبعه للمسالك التي اعتمدها المقدسي. و "تحفة النظار" لابن بطوطة دليل جغرافي جيد ايضاً، وصف الكثير من الحواضر العربية ولا يمكن اغفاله كمصدر. وتساءل الغنيم اين ذهبت الوثائق الخاصة بهذه الحواضر؟ هل حرقت وهل كانت هذه الحواضر مجرد موانئ للبحارة، أم مراكز تجارية؟ وماذا عن وصول الصينيين الى سيداف ومسقط: هل يعني هذا انها كانت مجرد موانئ، ام مراكز لتجارة الرقيق بين افريقيا وشيراز؟". وفي معرض الرد على إيكيوس اختتم الغنيم تعقيبه معتبراً انه لا يجوز القول إن الطابع الأدبي يغلب على كتابات الرحالة المسلمين، ودعاه الى اعادة قراءة القزويني. اما مشاهدات بنيامين التطيلي في مطقة الخليج العربي فأثارت زوبعة في الندوة. فالباحث الاماراتي الدكتور حمد بن صراي، المستشار الثقافي لولي عهد امارة رأس الخيمة، اعتبره "أعظم الرحالة اليهود في القرون الوسطى". والأكاديمي المذكور حقق اطروحة الدكتوراه عن هذه الشخصية المثيرة للجدل. زار التطيلي حواضر المنطقة كربان لإحدى السفن، وقدم كتاباً مفصلاً عن تجمعات اليهود في المشرق والمغرب العربي، وأوضح ابن صراي ان خلافاً لا يزال قائماً حتى الآن حوله. فالعرب يقولون في مصادرهم انه كان حاخاماً، لكن اليهود ينفون هذه الصفة ويطلقون عليه لقب الربان، ومن المحتمل انه كان تاجر احجار كريمة. بنيامين التطيلي يثير زوبعة حفلت مخطوطات بنيامين بوصف دقيق للأوضاع الاقتصادية في المناطق التي مر بها. كما قدم وصفاً دقيقاً للجانب العلمي والعلماء والمعابد واداء الطقوس اليهودية والجاليات اليهودية في المناطق التي زارها، وعرّف يهود أوروبا ويهود اسبانيا خصوصاً بأوضاع اخوانهم في بلاد الشرق. وخص بنيامين مدينة البصرة العراقية بوصف مسهب، خصوصاً ما يتعلق بالجالية اليهودية الكبيرة فيها. وانبرى الباحث الاماراتي الدكتور حسن النابودة للرد على الدكتور بن صراي. فكون الشخصية مثيرة للجدل يدفع برأيه للتشكيك بكل ما قالته عن الجاليات اليهودية على سواحل الخليج. ويبدو واضحاً من الغموض الذي يلف هذه الشخصية انها كتبت ما كتبت انطلاقاً من دوافع ومشاعر مسبقة. فيما آثر المؤرخ المغربي الدكتور عبدالهادي التازي، عقد مقارنة بين ما كتبه الرحالة المسلمون وما كتبه الآخرون. وأعطى كمثال الفارق الكبير بين ما كتبه ماركو بولو والرحالة المغربي ابن بطوطة، ملاحظاً ان ابن بطوطة ذكر ما يزيد عن 1500 اسم علَم عبر الشرق، وأكثر من 1000 مكان جغرافي، ما يجعل كتاباته مصدراً أغنى بالمعلومات من كتابات رحالة كانوا يؤدون مهمات محددة. وإذا أخذنا مثلاً البرتغاليين، نجد انهم جاؤوا تجاراً وادعوا نقل المدنية، وارتكبوا المذابح. يحتفظ الارشيف الوطني في توردو تومبو في لشبونة بمجموعات نادرة من المخطوطات، كتبها رهبان من أتابع القديس أوغسطين عند مرورهم بالمدن والقرى الخليجية. ركّز هؤلاء في كتاباتهم على السكان وعاداتهم وخصوصيات الارض والحكام. من هذه الذكريات ما كتبه الراهب سيباستيو دو ساوبدرو الذي ابحر من جاوة الى هرمز سنة 1592، ومكث مع رفاقه فترة في مدينة صور العمانية وليما قرب رأس مسندم. وتعتبر الدكتورة ماريا دياس فارينا، أستاذة التاريخ ومديرة مركز المحفوظات الوطني في لشبونة وصاحبة سلسلة من الكتب والبحوث في اللغة البرتغالية والتاريخ البرتغالي، ان اولئك الرهبان، حسب ما تشير اليه مذكراتهم، كانوا بصدد اقامة كنائس ونشر الدعوة النصرانية في المنطقة. اما الدكتور انطونيو فارينا الاستاذ في جامعة لشبونة وعضو الاكاديمية البرتغالية للتاريخ وهيئة تحرير دائرة المعارف الاسلامية في ليدن، فركز على مهمة بيرو دي كورفيلا الذي اوفده الملك البرتغالي جون الثاني، وكان مهتماً بجمع المعلومات عن تجارة التوابل في الشرق وكيفية الوصول الى مصادرها واقامة تحالفات واعتماد مندوبين. كما ركز على اهمية ما كتبه بيرو البوكيرك ابن قائد الاسطول وصاحب أبشع سجل في المذابح البرتغالية ضد شعوب المنطقة وحاكم هرمز بعد احتلالها. وتصدى الباحث المغربي الدكتور محمد رزوق، للآثار الاجتماعية والاقتصادية للوجود البرتغالي، انطلاقاً من ان احتلال البرتغاليين للخليج كان مرحلة في اطار حلم بتكوين امبراطورية تبدأ من المغرب وتنتهي في البرازيل، مروراً بافريقيا والخليج العربي. وعمد هؤلاء الى تقديم مغريات اقتصادية وسياسية لشيوخ القبائل، والى تجويع الاهالي اذ اقفلوا مصادر رزقهم الاساسية وأولها البحر، واحتكروا التجارة مع المنطقة لمنع ظهور قوى مناوئة لهم، وفرضوا ضرائب باهظة دفعت السكان الى اعلان الجهاد. وبعد سقوط السلطة البرتغالية في منتصف القرن السابع عشر، ظهرت في المنطقة بوادر منافسة دولية الهدف منها الوصول الى الاسواق الفارسية والعربية. وكان الهولنديون اول من اهتم بالميراث البرتغالي، ثم تبعهم الفرنسيون أمثال تافرنيه وشارادان ومارتن 1660. ولم يكن ينبور الدانمركي واضع اقدم الخرائط التفصيلية بالمقاييس المتداولة الآن، اقل اهتماماً. وتشير المصادر الهولندية، على سبيل المثال، الى تبادل الاهمية بين البصرةوالكويت، والى كون المنطقة بأسرها كانت تحت سيطرة الفرس لكن سكانها عرب، كما اشار الدكتور كالفن ألن الاستاذ بجامعة ممفيس الاميركية. خلال العقدين الاخيرين من القرن التاسع عشر، ووصولاً الى الحرب العالمية الاولى، بدأ الالمان تحركهم عبر رجال الاعمال والديبلوماسيين. لكن الحرص الشديد من الراصد البريطاني فوت عليهم الكثير من الفرص على حد تعبير الباحثة الالمانية الدكتورة فرواوكه هيردبي الاستاذة في جامعة برلين. تحدثت الاخيرة مطولاً عن رحلات الكونت ماكس فون أوبنهايم سنة 1893 الى الخليج واعتبرتها الخطوة الاهم والاولى لتقويض السلطة البريطانية في المنطقة. عمل أوبنهايم ملحقاً بالسفارة الالمانية في القاهرة 1896، ثم تحول الى الاهتمام بالآثار وحاول انشاء مكتب للمعلومات في مصر، فاتهمه البريطانيون بأنه جاسوس وكتب أوبنهايم الكثير عن قبائل البدو، وحمل صفة المستشرق. وطالب الدكتور إدموند غريب المقيم في اميركا، باعادة دراسة رحلة أوبنهايم جيداً من وجهة نظر عربية. اما الدكتور فهد سماري السعودية، فرأى ان الالمان سعوا الى فتح قنوات تجارية جديدة. وربما يكون خطأهم انهم اعتمدوا في ذلك على شركاتهم، لا على الحكومة نفسها، وهذا ما تثبته الوثائق السعودية في هذا الاطار. وقدمت الدكتورة فاطمة الصايغ، الاستاذة في كلية العلوم الانسانية في جامعة الامارات، بحثاً عن "الامارات في كتابات المبشرين" اثار لغطاً ملحوظاً. رأت الصايغ ان الامارات شهدت، مع بداية القرن الحالي، توافد عدد كبير من المبشرين الاميركيين الذين استقروا لفترة في عمان والبحرين بهدف انشاء مركز تبشيري في منطقة وسط الجزيرة العربية وسواحل الخليج. واستخدم هؤلاء اسم ساحل القراصنة في كتاباتهم، ولم يتركوا مدينة إلا وذهبوا اليها، واعتمدوا أساليب مختلفة في تبشيرهم مثل الطبابة ونشر التعليم. ودعت الصايغ الى عدم تجاهل الارشيف الخاص بالكنائس الاميركية التي تحتفظ بمدونات الارساليات الخاصة، لأن فيها وصفاً دقيقاً لواقع حال المنطقة الاجتماعي والاقتصادي في ذلك الوقت... وطالب المجتمعون بضرورة الحصول على كل ما يتعلق بالمنطقة من الارشيف الاميركي والهولندي والالماني والروسي والبرتغالي والفرنسي، للتحقيق فيها واعادة كتابتها وفق السياق الصحيح. ولم يستبعد المجتمعون امكانية حدوث مطالبة رسمية في المستقبل بفتح هذه الارشيفات، تطبيقاً لاتفاقية دولية تشبه اتفاقية لاهاي الخاصة بإعادة المسروقات الأثرية.