في احدى الجلسات العاصفة للكنيست الاسرائيلي في العام الماضي، أعلن حاييم رامون أحد النجوم الصاعدة في حزب العمل ووزير الداخلية الحالي ان الذين وعدوا بانهاء الارهاب كانوا كاذبين أو اغبياء. ويعود كلام رامون الى الاذهان في هذه الأيام التي تواجه فيها حكومة شمعون بيريز أزمة عقب الهجمات الانتحارية الأربع التي أودت بحياة خمسين اسرائيلياً في الآونة الاخيرة. وفي مواجهة هذه الازمة قررت الحكومة تنفيذ خطة للتحكم في دخول الفلسطينيين الى اسرائيل، اذ وافق مجلس الوزرارء بالاجماع في الثالث من آذار مارس الماضي على اقامة منطقة أمنية بعرض يتراوح ما بين كيلومترين وثلاثة كيلومترات على طول حدود عام 1967 البالغة 150 كيلومتراً. وأعلنت الحكومة انها قررت اقامة شبكة شاملة من وسائل التحكم والسيطرة على تحرك العمال الفلسطينيين والسلع الفلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة الى اسرائيل. وقالت ايضاً ان هذه الخطوة ضرورية "من أجل اقامة واقع حقيقي من التعاون في ظل السلام والأمن بين اسرائيل والفلسطينيين". وشرح موشيه شاحال وزير الأمن الداخلي وهو أشد المنادين بالفصل بين اسرائيل والفلسطينيين ذلك فقال: "اننا لا نستطيع اقامة جدار منيع لا يمكن لأحد ان يتسلل منه، لكن الاجراءات التي سنتخذها ستقلل الى درجة كبيرة من امكان دخول الارهابيين الى اسرائيل". ومن المفارقات ان الناس والبضائع كانت تنتقل بحرية كاملة تقريباً بين الطرفين خلال معظم فترة الاحتلال الاسرائيلي. لكن الذي حدث هو ان زيادة استثنائية في القيود على دخول الفلسطينيين الى اسرائيل رافقت عملية سلام أوسلو. وهذه القيود مفروضة على الفلسطينيين وحدهم. ومن المرجح ان اسرائيل قررت بتبني سياسة الفصل هذه اغلاق الحدود في وجه الفلسطينيين، لكنها لا تطبق تلك السياسة على الاسرائيليين انفسهم. والواقع ان الجيش الاسرائيلي اخذ يوسع نطاق عملياته في الضفة الغربية كما بدأ يعود الى استخدام تكتيكاته المضادة للمقاومة التي كان يلجأ اليها قبل عملية أوسلو. ولم تتخل اسرائيل حتى الآن عن اصرارها على بقاء قواتها العسكرية مسيطرة في المناطق الاستراتيجية الواقعة الى الغرب من نهر الأردن والى الشمال من مدينة العريش. وعلاوة على ذلك فان سياسة الفصل هذه لا تعني ان اسرائيل تخلت عن المستوطنين اليهود الذين يزيد عددهم على 150 ألفاً، في قطاع غزة والضفة. وتعود فكرة الفصل الى الأيام الاولى من الاحتلال الاسرائيلي. لكنها عادت الآن الى الصدارة وهي تنال تأييداً متزايداً منذ الهجوم الذي وقع في بيت ليد في كانون الثاني يناير 1995. وجاءت الهجمات الانتحارية الاخيرة التي شنتها حركة "حماس" لتعطي الفكرة قوة دفع كبيرة. وايغال ألون هو الأب الايديولوجي للفكرة. اذ انه وضع خطته في تموز يوليو 1967 لتقسيم الأراضي المحتلة بين اسرائيل والأردن. وكان موشيه دايان يحبذ تقسيم المهام والمسؤوليات بين اسرائيل والأردن والفلسطينيين، وهو حل لم يكن يؤدي في الواقع الى الفصل وانما الى الاندماج من خلال الاستيطان اليهودي وحرية التجارة. أي ان فكرة دايان كانت ستؤدي الى دمج الأراضي المحتلة مع اسرائيل من دون دمج سكانها الفلسطينيين. الحدود أهم من الاقتصاد وكان دايان راعي بيريز على الساحة السياسية. ولهذا يمكن الآن فهم السبب الاساسي لتأييد بيريز فكرة "الشرق الاوسط الجديد" حيث تصبح الحدود أقل أهمية من قوى السوق والعوامل الاقتصادية. بمعنى آخر ما يريده بيريز هو ايجاد حل عملي للأراضي التي احتلتها اسرائيل قبل ثلاثين سنة. ويتضح التباين في وجهتي نظر بيريز ورابين في اتفاقات أوسلو التي تتضمن عناصر من الحلول التي طرحها كل منهما: عملية وجغرافية. لكن خطة الفصل، التي فرضت نفسها على الساحة السياسية الاسرائيلية عقب الهجوم الانتحاري الذي وقع في 22 كانون الثاني يناير 1995 في بيت ليد وأدى الى مقتل 19 شخصاً كان بينهم 18 جندياً، هي التي توضح الصراع بين نهجي التفكير، فقد قال رابين بعيد الهجوم: "اننا نريد المحافظة على الفصل بيننا وبين الفلسطينيين. فنحن لا نريد ان تتعرض غالبية الشعب اليهودي للارهاب". ففي هذا الوقت، أي قبل أشهر من اعادة انتشار القوات الاسرائيلية في الضفة الغربية كان رابين بحاجة الى عرض حل على الاسرائيليين يؤدي الى وقف الهجمات، لكن شرط ألا يغير هذا الحل العملية الديبلوماسية والسلمية. وكان يعتبر الهجمات الانتحارية خطراً استراتيجياً على اسرائيل لانها تقوض التأييد الشعبي لعملية أوسلو. وكان يرى انه لا يستطيع اعادة انتشار القوات ما دام الاسرائيلي العادي يعتقد بأن عملية السلام لم تحسن وضعه الأمني وسلامته الشخصية. ومن هنا اعتبر رابين ان وقف الهجمات هو أهم مسؤولية على عاتق ياسر عرفات. لكن رابين وجد نفسه مضطراً بعد أيام قليلة من هجوم بيت ليد الى ان يوضح ان فكرته للفصل ليست الفكرة نفسها التي يقبلها معظم الاسرائيليين، وهي الاغلاق المحكم وسد اسرائيل في وجه جميع الفلسطينيين. اذ قال: "انني لم أقصد اقامة سياج، لكنني قصدت الفصل، أي انهاء اعتمادنا على الأيدي العاملة الفلسطينية، وليس المزج أو الاختلاط الذي ينادي به ليكود من خلال اقامة مستوطنات في المناطق الفلسطينية المأهولة بالسكان". ولكن على رغم هذا التصور المحدود الذي تحدث عنه رابين فقد تم وضع برنامج أكبر كثيراً برعاية شاحال. وهو يشتمل على اقامة الحواجز ونقاط التفتيش على الطرق واستخدام اجهزة المراقبة الالكترونية وما الى ذلك على طول الخط الأخضر. ولم تذكر الخطة التي كشف النقاب عنها في شهر نيسان ابريل من العام الماضي أي حدود جديدة، لأنها كانت تهدف الى تنفيذ الوعد الذي قطعه رابين للناخبين في مستهل عملية أوسلو، ألا وهو زيادة احساس الاسرائيلي العادي بالأمن والسلامة. خطة أمنية مكلفة وأدرك شاحال ان الاغلاق التام الذي يريده الرأي العام الاسرائيلي خطوة لها عواقبها السياسية والاقتصادية. ولهذا حددت خطته التي عرضها في نيسان ابريل 1995 اقامة منطقة عازلة بكلفة 300 مليون دولار الى الشرق من الخط الأخضر على ان تراقبها القوات الاسرائيلية بصورة دائمة. وبموجب هذه الخطة سيتحدد دخول الفلسطينيين الى اسرائيل من ثماني نقاط عبور فقط، ولن يسمح بعبورها الا لمن يحملون تصاريح خاصة. كذلك ستقوم اجهزة المراقبة الالكترونية والدوريات العسكرية بمراقبة الحدود البالغة 340 كيلومتراً بدلاً من اقامة سياج عليها. كما سيخضع الدخول الى مدينة القدس للقيود نفسها. لكن الخطة لا تسمح بأي انتقال من قطاع غزة الى الضفة الغربية أو العكس، وهو ما وعدت به اتفاقات أوسلو والقاهرة. وبعد اعلان تفصيلات الخطة سارع الجميع الى انتقادها لأنها باهظة التكاليف لا تحل مشكلة الهجمات الانتحارية. ورأى خبراء الأمن انها نابعة من أسباب سياسية ولن تنجح في وقف الارهاب. وقال المعلق المعروف زئيف شيف: "من الوهم الاعتقاد بأن الاسيجة والجدران هي الجواب الناجع للوضع الراهن لأنها لا يمكن ان تحل مشكلة الفصل". لذلك كتب المعلق ياؤول ماركوس: "لم يسبق ان رأينا في تاريخ الصراع بيننا وبين الفلسطينيين مثل هذه الفكرة الغبية، ألا وهي فكرة الفصل. هي فكرة خطرة سياسياً ولا جدوى منها عسكرياً كما انها عبء ثقيل على كاهل وزارة المال". كذلك ندد ليكود بالخطة وقال انها تمهيد لانسحاب اسرائيل من كامل الضفة الغربية. وقال ارييل شارون في معرض وصفها بصحيفة جيروسالم بوست: "من الصعب على المرء ان يتخيل خطة على مثل هذه الدرجة من السخف". أما بيريز الذي كان آنذاك وزيراً للخارجية فكان يحبذ الاجراءات الصارمة التي طالبت بها المخابرات الداخلية شبك وهي الاجراءات التي رفضها رابين بعد هجوم بيت ليد. وبدأ بيريز يعمل بهدوء لاحباط خطة الفصل لأنها مخالفة في رأيه لفكرة التعاون في المهمات والمسؤوليات، وهي الفكرة الاساسية في عملية أوسلو وفي تصوره للشرق الأوسط الجديد. وتساءل بيريز: "هل تعني الخطة فصلنا عن غزة أم السماح لغزة بالانفصال عنا مع استمرارنا في البقاء هناك وفي السيطرة عليها؟". وكانت معارضة بيريز من أهم الأسباب التي دفعت رابين الى عدم تطبيق الخطة في أيار مايو 1995. كذلك عارضها خبراء الأمن مثلما عارضتها وسائل الاعلام. وكانت تكاليف تنفيذ الخطة المالية عاملاً مهماً في عدم تطبيقها أيضاً. كما ان رابين حاجج بأن عرفات لم يكن قد تولى السيطرة بعد على الضفة الغربية ما يعني انه لم تتح له الفرصة لكي يثبت قدرته على منع الهجمات الانتحارية. ولو طبقت اسرائيل الخطة قبل اتاحة تلك الفرصة لعرفات لكانت أظهرت بكل وضوح عدم ثقتها في قدرته على الوفاء بالتزاماته الامنية تجاه اسرائيل، الامر الذي كان سيلحق الضرر بعرفات ورابين نفسه أيضاً. وهكذا وبعد انعدام الهجمات عقب بيت ليد ساعدت مؤهلات رابين بصفته "رجل الأمن" في أعين الاسرائيليين، رئيس الوزراء على وضع خطة الفصل على الرف في ايار مايو 1995 دون ان يتعرض لأي ضرر سياسي. أما اليوم فليس لدى بيريز تلك المزايا التي ساعدت رابين على تأجيل خطة الفصل. فهو لا يتمتع بذلك الرصيد من التأييد الشعبي لمواقفه الامنية، كما ان الناخبين يرتابون في حماسة لعملية أوسلو عقب اغتيال رابين وعقب الهجمات الانتحارية الاخيرة. وكان الانفجار الاخير في تل أبيب أكثر الانفجارات أثراً في الرأي العام. اذ ان مدينة تل أبيب هي المركز الثقافي والاقتصادي والفعلي لاسرائيل. وهي على عكس مدينة القدس، لا تعي ما يعيشه سكان مناطق الخط الامامي في المواجهة مع الفلسطينيين. ولهذا جاء الانفجار في قلب الحي التجاري في تل أبيب ليضيف الى سكان المدينة احساساً جديداً بالضعف وبوجود "عيب سياسي" لا يمكن لبيريز ان يتجاهله. علاوة على ذلك اكمل الجيش الاسرائيلي اعادة انتشاره في الضفة الغربية ما عدا مدينة الخليل وأصبح الآن لعرفات وجود وسلطة في الضفة. ولذا بات على بيريز، خلافاً لرابين في العام الماضي، ان يواجه ما يعتقده الاسرائيليون بشكل عام، وهو ان عرفات أخفق في تعزيز احساس الاسرائيلي العادي بالأمن والسلامة. اهتزاز المصالحة وهكذا أدت المطالبة المتصاعدة من الاسرائيليين باتخاذ الاجراءات اللازمة لوقف الهجمات الى تبني بيريز خطة فصل كان قد عارضها في السابق، وهو موقف مناقض لمفهوم المصالحة مع عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية ومناقض لتصور بيريز للشرق الأوسط الجديد. اذ قال في الثاني من آذار مارس 1996: "الفصل هو جوابنا على الارهاب". لكن تكاليف الخطة الحالية ليست سوى 100 مليون دولار، مقارنة بخطة شاحال. وهي كسابقتها تهدف الى تنظيم وتقييد دخول الفلسطينيين الى اسرائيل وتنطوي على اقامة منطقة بعرض 2 - 3 كيلومترات بنقاط عبور محددة الى الشرق من الخط الاخضر الذي يبلغ طوله 350 كيلومتراً. واليوم، خلافاً لما كان عليه الحال في العام الماضي، لا يوجد أي انتقاد تقريباً للخطة، لا لتكاليفها أو لنجاعتها أو أثرها في العلاقات مع الفلسطينيين. وحتى ليكود الذي كان يعارض الخطة لانها تعني الانسحاب من كامل الضفة الغربية يقبل الآن الرغبة الشعبية الجامحة لاغلاق اسرائيل في وجه الفلسطينيين. وقد أصبح زعماء ليكود اكثر ثقة الآن مما كانوا عليه قبل عام، بأن بيريز لا ينوي الانسحاب الكامل. بل وانتقد زعيم ليكود بنيامين نتانياهو الخطة لأنها لا تذهب الى الحد الكافي في الاغلاق! أما المعارضة لخطة الفصل فصدرت عن الولاياتالمتحدة اذ ان رئيس دائرة مكافحة الارهاب الاميركية فيليب ويلكوكس أبلغ شاحال الذي ارتفعت شعبيته بسبب الخطة ان "الفصل الكامل أمر مستحيل وهو ليس مرغوباً لدى الاسرائيليين والفلسطينيين". كما ان وزارة الخارجية الاميركية أبلغت اسرائيل انها "لا تعتزم تمويل أي نوع من الفصل الدائم" مع ان اسرائيل تعتبر المساعدات الاميركية لها لمواجهة الارهاب جزءاً من تكاليف خطة الفصل. وسواء أكان بيريز يعتزم تطبيق خطة الفصل أم لا فمن الواضح ان اسرائيل ستواصل الابقاء على اجراءات الأمن الصارمة على تحركات الفلسطينيين حتى يحين موعد الانتخابات الاسرائيلية في 29 أيار مايو المقبل - فهناك عناصر في حزب العمل تريد عرض خطة الفصل على أساس انها جزء أساسي من سياسة الحزب الانتخابية. لكن المشكلة هي ان بيريز سيجد صعوبة في عرض نفسه على أساس انه صاحب خطة الفصل والشرق الأوسط الجديد ايضاً.