لا أحد يستطيع التكهن بموعد انتهاء الحصار الاسرائيلي الشامل لمناطق السلطة الفلسطينية. لكن من المرجح ان هذا الحصار سيستمر الى ما بعد الانتخابات البرلمانية الاسرائيلية وربما لاحقاً الى موعد تشكيل الحكومة الاسرائيلية الجديدة. وهذا يعني ان الحصار سيمتد الى منتصف الصيف المقبل على أقرب تقدير، فهل تحتمل عملية السلام الفلسطيني الاسرائيلي ومعها السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في الداخل الضغط الناشئ من هذا الحصار؟ بدا واضحاً ان الضغط يتجاوز بعده الأمني والاقتصادي ليطال مستقبل عملية السلام وبالذات مرحلة المفاوضات النهائية التي باتت اسرائيل تعد العدة لخلق مزيد من الاشتراطات والضغوطات خلالها من اجل دفع الطرف الفلسطيني الى قبول التصور الاسرائيلي لنتائج هذه المفاوضات. والواقع ان اسرائيل وبحصارها مناطق السلطة الفلسطينية ولاحقاً للسلطة نفسها بدأت عملياً الجلسة الاولى من مفاوضات الحل النهائي مستندة الى مجموعة من العوامل والمعطيات التي هيئتها لها العمليات الانتحارية الاخيرة، ولاحقاً الحصار السياسي والأمني الوفير الذي جنته من مؤتمر شرم الشيخ على أكثر من مستوى وبالذات على صعيد التأييد الاميركي الشامل لمواصلة سياساتها التعسفية واجراءات خنق الجانب الفلسطيني على مستوى السلطة والشعب. وليس سراً ان التصرفات تتعالى من اثار الحصار الاسرائيلي الذي شل كل نواحي حياة الشعب الفلسطيني ومس قضاياه الحيوية. احراج السلطة وتشهد اسرائيل هذه الأيام حالة من شد العضل السياسي الحاد بين مختلف القوى والاحزاب ولاسيما بين حزب العمل وتكتل ليكود. وبؤرة الطرد المركزية لمختلف القوى الاسرائيلية في صراعاتها ومنازعاتها هي السلام مع الفلسطينيين والمفاوضات مع سورية. والمفهوم العام سواء لدى الليكود أو العمل للسلام الاسرائيلي الفلسطيني يرتكز على مفهومين رئيسيين: الأول كيف تحدد اسرائيل بشكل مسبق نتائج المفاوضات النهائية مع السلطة الفلسطينية أما المفهوم الثاني فهو كيف تحجم اسرائيل السلطة الفلسطينية وتصفها في المواقف الاضعف امام استحقاقات تلك المرحلة. وعملياً تقوم الحكومة الاسرائيلية الحالية بهذه المهمة ولا يخالفها الليكود في ذلك. فهي تعمل على اخضاع السلطة الفلسطينية لمتطلبات باشتراطات أمنية قاسية، كانت اسرائيل نفسها عاجزة عن انجازها كعملية تفكيك البنية التحتية لحركات اسلامية واعتقال قياداتها وكوادرها تدفع السلطة الفلسطينية نحو موقف حساس ودقيق. واظهرت السلطة نوعاً من السيطرة على الوضع الامني. واستطاعت تحقيق انجازات ملموسة على صعيد تفكيك اجزاء من الجهاز العسكري لحركة "حماس" والكشف عن كميات كبيرة نسبياً من الاسلحة والمتفجرات، واعتقال وتوقيف حوالى ألف من قيادات وكوادر وعناصر حركتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي". لكن ذلك لا يعني ان السلطة الوطنية وصلت الى حدود السيطرة النهائية على الوضع فاحتمالات الاختراقات مازالت قائمة، خصوصاً مع احتمال نزول تلك الحركات أو اجزاء منها تحت الأرض. وتزداد المخاوف من اعمال عنيفة ضد السلطة ومؤسساتها ما يعني ادخال المجتمع الفلسطيني في مناطق السلطة الفلسطينية في دوامة العنف والعنف المضاد كما يحدث في بعض الدول العربية. ويعزز هذا الاتجاه ما أعلنه النائب العام الفلسطيني السيد خالد القدرة عن وجود مخططات لدى حركة "حماس" لاغتيال بعض الشخصيات السياسية والأمنية في السلطة. الرأي العام - عمليات الاعتقال التي قامت بها السلطة وأعمال التفتيش التي شملت العديد من المساجد حدثت دون ضجيج شعبي أو احتجاج سياسي مسموع. ولعل ذلك ان مجموعة عوامل سهلة على السلطة القيام بتلك الحملة الشاملة من الاعتقالات والتوقيفات واجراءات التفتيش ومن ابرزها: أولاً: ان المزاج الشعبي داخل مناطق السلطة الفلسطينية يظهر في غالبيته ترحيباً بالعمليات العسكرية التي نفذتها حركتا "حماس" و"الجهاد". وبات الشارع الفلسطيني يطرح اسئلة مشروعة حول هذه العمليات يتجاوز بعضها مدى ضرورة تلك العمليات وجدواها وخدمتها للمصالح الوطنية وصولاً الى هوامش التشكيك في أبعادها وأهدافها النهائية وباتت تفترض تلك الجماهير احتمال ان يكون وراء الاكمة ما وراءها. ثانياً: تركز اهتمام الشارع الفلسطيني بشكل رئيسي على الأزمة الاقتصادية والحصار الخانق الذي بدأ يدق عنق المواطن وادخل الاقتصاد الفلسطيني في حالة شلل واسعة تظهر آثارها السلبية يوماً بعد يوم. ويركز المواطن الفلسطيني اليوم على رغيف الخبز وكيس الدقيق ويكفي للمتابع ان يرى الازدحام الشديد على حافلات الدقيق التي بدأت الشرطة الفلسطينية بوقفها امام مراكزها لتشرف بنفسها على توزيع الدقيق على المواطنين. ويشعر المواطن الفلسطيني بالخوف على لقمته في حال استمرار الحصار. لذلك بادرت السلطة الفلسطينية الى اعداد برنامج اسعافي لتشغيل نحو خمسة آلاف عامل في القضايا الخدماتية وبحيث يستطيع العامل ان يحصل يومياً على ما يقارب خمس ما كان يوفره له العمل في اسرائيل. كما قامت الهيئات والمنظمات وبينها "الاونروا" باعداد مشروع لمواجهة البطالة. وهذا كله يعكس التقدير القائل ان الحصار قد يطول الى أمد غير منظور نسبياً. تصدعات واختلالات ثالثاً: التصدعات التي أصابت القوى الاسلامية نفسها، والاختلالات التي ظهرت في أوساطها بفعل العمليات الاخيرة. حدث أهم تصدع في حركة "حماس" وتمثل بان ولادة "حزب الخلاص الوطني الاسلامي" الذي ضم جناحاً مهماً من اجنحة حركة "حماس"، وقد تم اعلان هذا الحزب بمباركة الرئيس عرفات نفسه. ويختلف "حزب الخلاص" الاسلامي الجديد عن المجموعات الاسلامية التي ظهرت اخيراً في مناطق السلطة الفلسطينية فهو يضم قيادات رئيسية مؤسسة في "حماس" وابرزها المهندس اسماعيل أبو شنب الذي عين رئيساً للحزب رغم كونه لا يزال معتقلاً في السجون الاسرائيلية وهو يعتبر الرجل الثاني بعد أحمد ياسين وينظر الى أبو شنب على انه من الشخصيات الاسلامية التي تحظى باحترام كل القوى السياسية على اختلافها. ويعتبر من المقربين جداً للشيخ أحمد ياسين الذي تقدر بعض الاطراف الفلسطينية انه يدعم ويؤيد اعلان ولادة "حزب الخلاص الاسلامي"، كما يضم الحزب في قيادته الدكتور النحال وفكري عبداللطيف وأحمد الساعاتي. "حماس" والحزب و"الخلاص" وتختلف الاوساط الفلسطينية في تقديرها نتائج اعلان هذا الحزب وأثره على حركة "حماس". فالبعض يقول ان اعلان الحزب جاء بمثابة اعلان وفاء لحركة "حماس" وبالذات جهازها العسكري الذي خرج عن السيطرة وبدأ يضرب المصالح العليا لحركة "الاخوان المسلمين" في الأراضي الفلسطينية. وترى أوساط فلسطينية ان حركة "حماس" استنفدت دورها كضرورة موضوعية في مرحلة الانتفاضة وان حقائق الواقع باتت تؤكد ضرورة ان ينتهي هذا الشكل وتلك الادوات لصالح استبدالها بشكل يتلاءم مع الواقع الجديد. ومن دون التطابق مع هذا الواقع. أما التقدير الثاني فيرى ان انشاء هذا الحزب لا يتعدى كونه حركة التفافية حاولت "حماس" القيام بها لتجاوز الأزمة الراهنة والانحناء امام العاصفة بعدما أدركت انها صارت "مطلوبة" محلياً واقليمياً ودولياً وان الضغوط تنذر لا بتفكيك مؤسساتها في الداخل والخارج فقط بل بنسف مرتكزات هذا الوجود وترى "حماس" وقف برنامجها الاستراتيجي المنبثق من برنامج حركة "الاخوان المسلمين" ان المؤسسة سواء كانت ثقافية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية لها الاولوية على التكتيكات المحددة، وبالتالي من غير المسموح به ان تعصف مجموعة تكتيكات سياسية انجازات حركة "الاخوان المسلمين" على مدار عشرات السنين. هنا جاء اعلان حزب الخلاص الاسلامي عله يستطيع انقاذ تلك المؤسسات والمحافظة على جسم حركة "الاخوان المسلمين" بعيداً عن الضربات الحادة والحصار السياسي والاقليمي والدولي. في هذا الوقت تنظر اسرائيل بنوع من الرضى الى خطوات السلطة واجراءاتها الامنية لكن عينها الاخرى لاتزال تشكك بالانجازات الامنية التي قامت بها السلطة الفلسطينية وهي تطالب بالمزيد من تلك الاجراءات من دون ان تقوم بأي بادرة في اتجاه رفع الحصار أو التخفيف من حدته. والواقع انها تبدو غير مضطرة الى ذلك فالولايات المتحدة تدعم كل اجراءاتها وتضمن لها غطاءً دولياً وربما اقليمياً وهي بالمقابل تستثمر غضب الطرف الاميركي هذا لتنجز خطة الفصل بين الفلسطينيين والاسرائيليين التي لا يتعدى جوهرها، مفهوم الحصار الراهن. فاسرائيل تريد الانفصال عن الفلسطينيين وفي الوقت نفسه تريد ان يتزامن هذا الانفصال مع بقاء سيطرتها الامنية المطلقة على مناطق السلطة الفلسطينية باتجاه اسرائيل من جهة والعالم العربي من جهة ثانية وهي بذلك تمهد لتصورها للمرحلة النهائية لابقاء الفلسطينيين في كانتونات معزولة تحت السيطرة. والسؤال الذي يطرحه البعض هو هل يستطيع الرئيس عرفات الصمود طويلاً في ظل هذه التعقيدات والحصار. المسألة مفتوحة على أكثر من احتمال ولعل اكثرها خطورة ان تنفجر طنجرة الضغط التي وضع الشعب الفلسطيني فيها وأطلق عليها اسم عملية السلام.