"الهارب" في رأيي هو ذلك الشخص الذي يريد تفادي الواقع والانهماك في نشاطات تسلية تساعده على النسيان. ولكن ألا نحاول جميعاً الهرب من واقعنا المثقل بالضغوط والاعباء؟ ثم من منا لم يحلم بالحياة على جزيرة معزولة تظللها اشجار النخيل الباسقة وجوز الهند لينعم بدفئها ورمالها الذهبية ونسيمها العليل؟ هذه "الجنّة" التي يمكنك الهرب اليها هي عبارة عن جزيرتين صغيرتين هما هورهن وتشام الواقعتان في جنوب غربي شبه جزيرة تايلنده على بقعة تكاد تكون مجهولة للغرباء ومطلة على خليج سيام. وما يزيد من سحر هاتين القريتين التي تتاخم إحداها الاخرى جوهما الحالم. فهما تعتمدان على صيد الاسماك وفيهما معبدان صغيران لكنهما يجسّدان الفن البوذي في اسمى معانيه. وخلف هاتين القريتين تلوح منحدرات الادغال المظلمة التي تغطي جبال جنوب تايلنده. فمعظم زوار العاصمة بانكوك يقضون ايامهم في متابعة اعمالهم وسط ازدحام المكان بالسيارات وناطحات السحاب ولا يتاح لهم الا قسطاً ضئيلاً من وقت الفراغ. والحياة الليلية في المدينة مشهورة في شتى ارجاء العالم وتقدم للزائر كل ما يشاء في شكل عاد عليها بسمعة شائنة بسبب النوادي المشبوهة المتناثرة على شواطئ البلاد وفي عاصمتها. الركن الحالم اما هوهن وتشام فهما ركن هادئ يحلم به الراغبون بالاخلاد الى الراحة بعيداً عن الواقع. لكن هذا لا يعني انك لن تجد شيئاً تفعله فيهما، اذ بوسعك ان تزاول هوايات رياضية شتى على ملاعبهما، كما توفر لك الفنادق مزيداً من البهجة والتسلية في الليل والنهار. وعلاوة على هذا يمكنك التمتع باستكشاف القريتين وزيارة الكهوف والبحيرات والمعالم الطبيعية الاخرى. ولا تنسى ان ارقى ثلاثة فنادق في المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا والشرق الاقصى موجودة في هاتين القريتين. وهناك صلات ثقافية قوية بين هذه المنطقة وبين اندونيسيا. ولعل اهم سماتها هو الجمال الذي حباه الله لها، فهي منطقة تجمع ما بين الجبال الداخلية، بأدغالها الغنية بالحياة الطبيعية والشواطئ الخلابة والجزر الصغيرة المبعثرة قرب تلك الشواطئ. ولهذا كان من الطبيعي ان تختار الأسرة المالكة في تايلنده تلك البقعة الساحرة لقضاء العطلة الصيفية. ومنذ عشرينات هذا القرن اصبحت المنتجع المفضل الذي يقصده الأثرياء للاستجمام. وبفضل جمال المنطقة الخلابة قرّر الملك راما السابع ان يجعل بلدة هوهن مقرّه الصيفي وبنى قصراً باذخا على مقربة منها. لكن الذي يثير الاستغراب هو ان القرية ظلت على حالها ولم تمسها يد بسوء على رغم توافد اعداد كبيرة من المصطافين والمتنزهين عليها بصورة منتظمة. ولا يزال ملك البلاد يقضي شطراً من العام في هذه المنطقة، كما ان العائلات الثرية في بانكوك تحتفظ ببيوت انيقة على الشاطئ حيث يمضي افرادها اجازاتهم الصيفية. واذا ما مشيت على الشاطئ وشاهدت اسطح تلك البيوت الريفية المؤلفة في معظمها من طابق واحد ستدرك اي موهبة يتمتع بها المصممون التايلنديون ومبتكرو النمط المعماري المحلي الذي تتجلى خصائصه في مباني البلاد سواء كانت ريفية بسيطة أو قصوراً منيفة. ففي المعابد والهياكل الأنيقة الباذخة وقاعات الفنادق وغرف النوم تجد تماثيل ورسوم الطيور المختلفة وهي تمد اعناقها لكي تعانق السماء. وحتى الاسقف التي اقيمت فوق مواقف الباصات تتجه نحو السماء على عادة هذه البلاد حيث كل شيء يتطلع الى الأعلى في أمل وخشوع. القرية "المهجورة" والسير على الشاطئ متعة لا يمكنك ان تنساها، بيد ان الدخول الى القرية نفسها له نكهة مختلفة، فهو اشبه بولوج استوديو سينمائي مليء بالأزياء التي تعود الى عهد غابر، لأن مباني القرية ونشاط سكانها وملابسهم ظلت على حالها منذ قرون. وتجد فيها النساء منهمكات في مزاولة الحرف اليدوية التقليدية وأفراد العائلة يتناولون طعامهم في الظل على قارعة الطريق، والدروب تكاد تكون مهجورة لا تعكر هدوءها اي حركة فيما تتناثر أواني الطهي وأدوات صيد الاسماك والشباك هنا وهناك، وكأن القرية تحكي تاريخ تايلنده. وليس فيها متاجر سياحية مع ان الحصول على قطع تذكارية مثل الصدف واللؤلؤ غير متعذر. وفي "هوهن" لا ترى الحرير التايلندي الشهير وإنما القطن المحلي القوي الذي يتحول الى نسيج موشى بالرسوم التقليدية في مصنع صغير يقوم وسط القرية. اما زيارة الفندق فهي اشبه برحلة الى العهد الفيكتوري الانكليزي. والواقع ان منتجي فيلم "حقول القتل" صوروا الكثير من المشاهد في هذه القرية. وغرف فنادق المنطقة تتميز بسقوفها العالية التي تتدلى منها مراوح تلطف الجو، فيما تطل النوافذ على حدائق استوائية تطيب الهواء برائحة الورود العطرة. ومعظم الفنادق يزخر بوسائل الراحة وكل ما يلزم الزائر من اجل الاسترخاء والتمتع بطبيعة انيقة وخدمات ممتازة. والواقع لم تخضع تايلنده الى اي استعمار في تاريخها ما يفسر اسم البلاد الذي يعني "بلاد الأحرار". ومنذ القدم استقطب تراث تايلنده الثقافي اهتمام الزوار ونال اعجابهم بثرائه وأصالته. وفنادق جنوب شرقي آسيا معروفة بصورة عامة بجمالها وخدمتها الممتازة ووسائل الراحة الفريدة التي تمزج بين القديم والحديث ببراعة. والكثيرون من "الهاربين من الواقع" الذين يصلون هنا يقضون معظم ايامهم على الشاطئ. واذا حالف السائح الحظ فسيختار احد الفنادق الجيدة التي يستطيع فيها المرء ان يخلد الى السكينة ومع ان هناك نادياً ليلياً فنحن فضلنا ان نراقب غروب الشمس وصحونا في وقت مبكر لنرى طلوع الفجر، فهاتان تجربتان فريدتان لا مثيل لهما. واذا كان "الهروب" لا يعني لديك الكسل التام ففي وسعك ان تزور المجمع الرياضي في كل فندق أو ان تزور ملعب الغولف في هوهن وهو اقدم ملعب من نوعه في تايلنده. واذا ما شئت يمكنك استئجار احد الخيول والتجول في المنطقة او ركوب القوارب او ممارسة الرياضات المائية الأخرى. طعام المنتجع ورياضاته ونظراً الى عدم وجود مطار محلي في المنطقة فان معظم الزوار يتوجهون الى هوهن بالقطار من محطة "هوا لاميونغ" في العاصمة بانكوك. اما اذا كنت تفضل السفر بالحافلة فتستطيع ان تستقل احد الباصات المكيفة من معظم فنادق العاصمة. وتستغرق الرحلة بالحافلة ثلاث ساعات تصل بعدها الى قرية تشام حيث يمكنك المكوث في احد الفنادق. واذا كنت من الذين يضجرون من كلمة "فندق" ما عليك الا ان تستأجر "كوخا" مكيّفاً مؤلفاً من غرفتي نوم وبأسعار زهيدة. وبفضل موقع تشام وهوهن المتاخمتين للبحر فان القريتين تتخصصان في المأكولات والأطباق البحرية من مختلف انواع الاسماك. واذا كنت تظن انك وجدت مهرباً من وجبات الطعام السريعة التي تزدهر في الغرب بل وتنتشر الآن في شتى انحاء العالم فأنت مخطئ، اذ ان أبناء البلاد يأكلون الوجبات السريعة المحلية منذ قرون. وحين توجهنا ليلاً الى قرية هوهن وجدنا الشارع الرئيسي فيها مغلقاً في وجه حركة المرور. وسرعان ما اكتشفنا هذا يحصل كل ليلة قصد افساح المجال امام عربات بيع الطعام التايلندي السريع كي تصطف على جانبيه. وهناك عدد من المقاهي التي يمكنك الجلوس فيها والاستمتاع بالطعام ومراقبة الناس في الشارع وهم يتناولون وجباتهم. ولعل افضل وجبة يمكن للزائر ان يتناولها في مطعم تايلندي هي السمك، وأفضل اطباق السمك يمكنك العثور عليها في مطاعم الفنادق. واذا ما أردت ففي وسعك ان تركب حافلة الفندق الى معبد "كوشانغ كراشوك" البوذي الذي يمر الطريق اليه عبر حقول قصب السكر ومزارع الأناناس في المنطقة. وخلال هذه الرحلة تستطيع ايضاً ان تزور المدن الساحلية وقرى صيد الاسماك. وهناك رحلة ثانية تحملك الى احدى اجمل البحيرات التي تحفّ بها الجبال من كل جانب ما يعيد الى ذهنك اياماً قضيتها في مناطق مترفة ساحرة كسويسرا مثلاً. وفي رحلة ثالثة بوسعك ان تزور "متنزه الثلاثة آلاف جبل" والكهف الذي يحتوي على معبد في منتهى الروعة والجمال. وهذه المنطقة مثالية لمن يرغب في الابتعاد عن الصخب والضجة والضوضاء، وهي تقع بين خليج تايلنده من جهة وبحر اندامان من جهة ثانية ما يسمح لك بزيارة كهوف المنطقة التي يزيد عددها على ألفين تنتشر على طول الساحل حتى الحدود الماليزية، أو أي من مئات الجزر المتناثرة قرب الشاطئ. وبعدما تكتشف ما تنعم به هذه المنطقة من سحر وجمال أخّاذ ومناظر خلاّبة وأجواء حالمة، فانك لن تستغرب تسمية الملك راما السابع قصره فيها "كلاي كانغون" - أي "بعيداً عن الهموم".