مهرجان القاهرة السينمائي الدولي صار في العشرين من عمره. والكائنات، في العادة، تبلغ رشدها في مثل هذا السن في الوقت الذي تظل فتية في غاية النشاط. ونحن، اذ حكمنا على مهرجان هذا العام القاهري من خلال اختيار أفلام مسابقتيه كما أعلن عنه سعد الدين وهبه، الكاتب المعروف ورئيس المهرجان، سيتبين لنا بسرعة ان الدورة تتميز، بالفعل، ببلوغ سن الرشد وبكونها فتية في غاية النشاط. ولعل الأمر يتخذ كامل دلالته ان نحن تذكرنا ان هذه الدورة تصادف الاحتفال بمئوية السينما المصرية. ولعل الملاحظة الأولى التي يمكن التوقف عندها هي ان اختيارات الافلام تبدو هذه المرة أكثر تلاؤماً مع صيغة تسم مهرجان القاهرة بنوع من التوجه الفني والنوعي، بعدما كان معظم الدورات السابقة يتسم بتوجه كمي. هذه المرة من الواضح ان لا خيارات، سواء كان ذلك في المسابقة الرسمية، أم في "مسابقة نجيب محفوظ" التي لا تقل اهمية عنها، توجهت نحو أفلام فتية الطابع، ذات مواضيع وأشكال جديدة، معظمها يعبر عن سينما المؤلف أكثر مما يعبر عن سينما متوجهة الى الجمهور العريض وحده، وهذا ما يكاد يجعل الدورة الراهنة لمهرجان القاهرة اشبه بدورات مهرجان البندقية في عصرها الذهبي، أكثر منها بدورات مهرجان كان. ينحصر النشاط الرئيسي للمهرجان في عروض المسابقتين الرئيسيتين، وهما تضمان 32 فيلماً، أكثر من ربعها أفلام عربية. وهنا، في الحقيقة تكمن أولى المفاجآت. اذ، في الوقت الذي يلاحظ بصورة عامة تضاؤل الانتاج السينمائي العربي، في مصر وخارج مصر، ها هو مهرجان القاهرة يختار تسعة أفلام عربية لتشارك في المسابقتين، وهي أفلام سبق لبعضها ان عرض في مناسبات اخرى وأثبت جدارته المهرجانية، بل ان منها ما فاز بالعديد من الجوائز بحيث يصل الى المهرجان القاهري وقد سبقته سمعة لا بأس بها. وهذا الكلام ينطبق بالطبع على فيلم "سلاماً يا ابن العم!" للجزائري مرزاق علواش. هذا الفيلم الذي حققه علواش في فرنسا بعد خروجه الموقت من الجزائر، ويدور موضوعه حول لقاء بين ابني عم جزائريين، يعيش احدهما في فرنسا منتمياً الى ذلك الجيل الذي يطلق عليه اسم "جيل البور"، ويأتي الثاني الى فرنسا بحثاً عن بضائع يشتريها ليعود ويبيعها في الجزائر. من السينما العربية، ايضاً، فيلمان مصريان، أولهما "المرأة والساطور" لسعيد مرزوق الذي يأمل محبو أفلامه بأن يعود في هذا الفيلم الى سابق عهده حيث كان في السبعينات يحقق أفلاماً اسس بعضها لتيار الواقعية الجديدة في السينما المصرية. سعيد مرزوق غائب منذ فترة عن السينما الجادة والجيدة، فهل يكون فيلمه هذا تعبيراً عن عودته لتبوء مكانة لا بأس بها في خارطة السينما المصرية؟ في المقابل، يدخل رأفت الميهي مسابقة مهرجان القاهرة الرئيسية، للعام الثالث على التوالي، بفيلمه الجديد "تفاحة" من بطولة ليلى علوي وماجد المصري بين آخرين. في فيلميه السابقين "قليل من الحب، كثير من العنف" و"ميت فل" لفت الميهي الانظار وحقق نجاحات مهرجانية عديدة، فهل يعيد الكرة هذه المرة؟ اسئلة عربية حائزة من السينما العربية، ايضاً، فيلم "حيفا" للفلسطيني رشيد مشهراوي. وهذا الفيلم يشابه فيلم مرزاق علواش في مواصلته للتجوال على كافة المهرجانات العربية، وحصد الجوائز والاهتمام. ورشيد مشهراوي نفسه كان سبق له، قبل سنوات، ان حقق أول ظهور عالمي كبير له، من خلال فيلمه الروائي الطويل الأول "حتى اشعار آخر" في دورة سابقة لمهرجان القاهرة نفسه، ومن هنا من الواضح انه لا يأتي هذه المرة كمبدع مبتدئ يبحث عن تعريف نفسه، بل كمخرج له مكانته وجمهوره. ومن المغرب يأتي فيلم "سارق الأحلام" لحكيم نوري، وهو بدوره فيلم سبق أن عرض في العديد من المناسبات والمهرجانات ويتوقع له أن ينجح، لدى الجمهور القاهري، في تمثيل سينما مغربية متنوعة ونحاول، عاما بعد عام، العثور على طريقها. اذن خمسة أفلام عربية من أصل عشرين فيلما في المسابقة الرسمية... وهو ما يحسب نقطة لصالح سعدالدين وهبة، الذي من الواضح انه المسؤول عن هذا الاهتمام المتزايد بالامعان في تعريب مهرجان كان يؤخذ على بعض دوراته قلة ما فيها من أفلام عربية. غير أن الحضور العربي المتزايد ليس النقطة الايجابية الوحيدة في المسابقة الرسمية، النقطة الثانية تتمثل في الاختيارات الاجنبية نفسها، فهنا لدينا تنوع لافت، ولكن أيضاً لدينا سينما تعكس في بعض أفلامها ذلك التوجه الذي بدأت السين العالمية تتخذه منذ سنوات بالبحث عن مواضيعها في عالم الواقع، وفي عالم الامتزاج بين فن السينما والتاريخ والأدب والفكر. وهذا التوجه تمثله هنا خمسة أسماء على الأقل: سيمون دي بوفوار، المهاتما غاندي، راسبوتين، دوستويفسكي و... مارلين مونرو. وذلك في خمسة من أفلام المسابقة الرسمية، تأتي من خمسة بلدان. سيمون دي بوفوار، رفيقة جان بول سارتر، تحضر من خلال فيلم هولندي يمكن ترجمة عنوانه ب "كل من عليها فان" من اخراج آت دي يونغ، وتمثيل ايرين جاكوب ممثلة الراحل كريستوف كيشلوفسكي المفضلة. فالفيلم مقتبس عن رواية سيمون دي بوفوار المعروفة بالاسم نفسه، وهو يتحدث من خلال لقاء غامض بين امرأة ورجل، عن الخلود والفن والحب، وبعض تلك الأمور الوجودية الأخرى التي لم تكف عن اثارة اهتمام سيمون دي بوفوار، ودفعها باتجاه اسئلتها العويصة من خلال شخصيات تسائل نفسها عن جدوى وجودها. مقابل هذا يحضر المهاتما غاندي من خلال فيلم لافت حققه عنه المخرج الكبير شيام بنغال، الذي يعتبر اليوم، بعد رحيل ساتياجيت راي، اكبر سينمائي فنان في السينما الهندية. راسبوتين، هو وجه آخر من وجوه القرن العشرين، سيتيح لنا مهرجان القاهرة ان نكتشف كيف يمكن للسينما ان تقدمه، ولكن من خلال فيلم أميركي حققه ايلي إيدل. وهذه ليست، كما نعرف، المرة الأولى التي تهتم فيها السينما الأميركية بتقديم صورة جديدة عن ذلك الراهب المريع الذي قض اضجاع روسيا كلها في آخر أيام القيصرية، وبات يعتبر مثلاً صارخاً على الكيفية التي يستحوذ بها مشعوذ ذو عقل خارق على أسرة حاكمة بأسرها. من روسيا، ايضا، ولكن عبر السينما الروسية نفسها، يأتي فيلم مقتبس عن رواية دوستويفسكي "مذلون مهانون" من اخراج اندريه ايتشيلي. ولعل ما يلفت في مثل هذا الفيلم هو انه يقول لنا أن ثمة، في روسيا، امكانية لتحقيق فيلم جدي، وامكانية للعودة الى سيد الرواية العالمية، رغم ان المنطق التجاري بات يسود الآن كل ما تبقى من انتاجات فنية. سيكون عرض هذا الفيلم فرصة، بالطبع، لمعاينة ما وصل اليه واقع سينما روسية باتت أكثر وأكثر ندرة، وأقل جودة خلال الأعوام الأخيرة. ولئن كانت روسيا ترسل الينا عبر "مذلون مهانون" سيد كتابها، دوستويفسكي، فإن الولاياتالمتحدة ترسل عبر تيم تايويل "نورما جين ومارلين مونرو" صورة ما، لنجمة نجومها، ولسوف يكون طريفاً ان نعاين عبر هذا الفيلم، الكيفية التي تنظر بها السينما الهوليوودية الى جزء من تاريخها عبر رواية حياة تلك الفنانة التي، بانتحارها باكراً اوائل الستينات، خرجت من حيز الأسطورة السينمائية لتدخل حيز الأسطورة الحياتية. مقابل الولاياتالمتحدة التي ترسل الينا، عبر فيلميها صورة للتاريخ وصورة لجزء من تاريخ فن السينما، ترسل اليونان عبر فيلم "أكروبول" لبانتيلي فولغاريس، صورة لجزء من تاريخ الحركة المسرحية فيها من خلال فيلم ساحر من المؤكد أنه سيلفت النظر الى سينما يجهل الجمهور العريض كلياً على الرغم من أنها واحدة من أكثر سينمات بلدان البحر الأبيض المتوسط حيوية وانتاجاً. وهذا القول نفسه ينطبق على السينما الاسبانية التي تشاطر السينما اليونانية حيويتها وتنوعها، وهذه السينما الاسبانية ترسل فيلماً يذكر بعوالم أمير كوستوريتزا في أفلامه الأولى، وعنوانه "روح غجرية" من اخراج شاز نجاتيري. اما فرنسا فترسل فيلما ضخما حققه في افريقيا المخرج - الممثل برنار جيرودو بعنوان "نزوات نهر"، وهو فيلم طموح من المؤسف انه لم يعرف كيف يقنع جمهوره في عروضه السابقة. هذا من فرنسا، أما أوروبا الأوروبية فترسل أفلاماً أكثر خصوصية وتعبيراً عن الواقع المحلي، فمن المانيا فيلمان "كنيسة القديس نيقولاس" لفرانك باير، و"خارج الزمن" لاندريا كينلت، ومن ايطاليا فيلمان ايضاً: "جيلي" لديك لايت، و"في منطقة الجزاء"، اما انكلترا فترسل فيلما واحداً هو "انكلترا بلدي" للساخر توني بالمير، ومثلها تفعل الصين بفيلم "البجعة الحمراء" لغورنغ، وبهذا الفيلم تكتمل الحلقة ويصبح للمسابقة الرسمية مجموعة أفلام تمثل القارات الأربع والعديد من البلدان اضافة الى تمثيلها لشتى التيارات التي تسود الآن الانتاج السينمائي العالمي وتقول، بشكل أو بآخر، أن بعض السينما في خير، وأن البعض هو هذه السينما التي تسبر اغوار الحياة والذاكرة، وأيضاً قدرة السينما على ان تقول المختلف والواقعي في آن معاً. أفلام أولى وثانية إذاً، هذه الأفلام كلها تعرض ضمن اطار المسابقة الرسمية، ولكن المسابقة الرسمية لم تعد، ومنذ سنوات، المسابقة الرئيسية الوحيدة في مهرجان القاهرة، صارت الى جانبها مسابقة أخرى لا تقل عنها أهمية وهي مسابقة نجيب محفوظ، وتعد - عادة - باكتشافات لافتة كان من اهم اكتشافاتها في الدورة السابقة فيلم "عفاريت الاسفلت" لأسامة فوزي خصوصاً وأنها تقتصر على الأفلام الأولى أو الثانية لأصحابها. وهذا العام "ستكتشف" هذه المسابقة ثلاثة مخرجين عرب جدد، أولهم اللبنانية ليلى عساف التي لم يعد فيلمها الطويل الأول المعروض في المسابقة التي تتحدث عنها والتي تحمل اسم كاتبنا الكبير نجيب محفوظ وعنوانه "الشيخة" فيلماً مجهولاً، حيث سبق له ان عرض في عدد كبير من المهرجانات. المخرج الثاني الذي نكتشف هنا عمله الأول هو التونسي محمد زرين في فيلم "السيدة" وهو فيلم اجتماعي قاس، وسبق عرضه وفوزه بجائزة في مهرجان قرطاج الأخير. أما من مصر فإن مهرجان القاهرة يدعونا الى اكتشاف العمل الأول لمخرج هو في الأصل ناقد وباحث سينمائي معروف: السيد سعيد. الفيلم عنوانه "الحشري" وسوف يكون من الطريف للذين يعرفون السيد سعيد وأسلوبه في النقد السينمائي، ان يقارنوا بين السينما التي كان يعلن حبه لها ودفاعه عنها، وبين السينما التي يحققها. ... وتكريم صاخب للرواد 32 فيلماً، من 27 دولة تمثل العمود الفقري للدورة العشرين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، 32 فيلماً تبدأ منذ اليوم التنافس، على اجتذاب الجمهور، كما على الحصول على ما يتيسر من جوائز ستوزعها لجنتان تحكيميتان، يترأس أولاهما في المسابقة الرسمية الايطالي جيان - لويجي روندي، وثانيهما مسابقة نجيب محفوظ المخرج البوركينابي ادريسا أويدراغو، الذي سيلفت نظره حقاً، من دون أدنى شك انه لئن حضرت افريقيا الشمالية العربية في المسابقتين الرسميتين في عدد لا بأس به من الأفلام، فإن افريقيا السوداء تغيب كلياً عن هذا المهرجان الذي يعتبر أكبر مهرجان سينمائي افريقي من جهة عقده في أكبر عاصمة افريقية، علماً بأن افريقيا السوداء، فرنسية النطق كانت أم انكليزية، انتجت عدداً لا بأس به من الأفلام الجيدة هذين العامين الأخيرين! يبقى ان نشير اخيراً، ان تصادف الدورة العشرون لمهرجان القاهرة السينمائي، مع ذكرى مئوية السينما المصرية حسب ما هو سائد وليس حسب الواقع التاريخي… بالطبع هذا التصادف قد فرض على المهرجان ان تكون واحدة من تظاهراته الرئيسية تظاهرة تكريمية من نوع خاص واستثنائي. وهي تظاهرة سيطال التكريم فيها عدداً من أبرز العاملين في السينما المصرية على مدى تاريخها. وينبع هذا التكريم فيها من استفتاء جرى قبل فترة وكان محوره تعيين الفنانين والرواد الذين يرى أهل المهنة أنهم أبرز من ساهم في تاريخ السينما المصرية وفي كافة المجالات، فوقع الاختيار على الفنانين الاكبر سناً وتضم اللائحة 9 اسماء وهم: امينة رزق، تحية كاريوكا، محمد توفيق، يوسف جوهر، محمد عبد الجواد، أوهان، محمود نصر، حسن إمام عمر وجلال مصطفى