أخيراً تمكنت بريطانيا من كسر الاحتكار الفرنسي شبه الكامل الذي ميز جهود التسلح القطرية على امتداد سنوات عدة، ونجحت في الفوز بمجموعة من الصفقات العسكرية التي ستحصل الدوحة بموجبها على اسلحة ومعدات برية وجوية وبحرية وصاروخية بريطانية تبلغ قيمتها الاجمالية نحو 500 مليون جنيه استرليني 825 مليون دولار أميركي. وكان وزير الدفاع البريطاني مايكل بورتيللو أعلن التوصل الى هذه الصفقات مع قطر في ختام زيارة رسمية للدوحة الشهر الماضي، ووصف الاتفاق في شأنها بأنه "تطور جوهري في العلاقات البريطانية - القطرية"، فيما اعتبرته أوساط حكومية في لندن بمثابة "ثمرة مباشرة" لاتفاق التعاون الدفاعي الذي وقعه البلدان في وقت سابق من هذا العام. وامتنعت المصادر الرسمية البريطانية والقطرية عن اعطاء تفاصيل عن بنود الاتفاق باستثناء تلك التي أوردها بورتيللو، وجاء فيها ان الصفقات تتضمن طائرات تدريب نفاثة من طراز "هوك"، وعربات قتال مدرعة من طراز "بيرانيا"، وصواريخ مضادة للطائرات تطلق من الكتف من طراز "ستاربيرست"، وزوارق دورية هجومية، وان تنفيذ هذه الصفقات سيستمر خلال السنوات الخمس المقبلة التي ستقدم بريطانيا فيها لقطر ايضاً خدمات تدريب وصيانة ومساندة لتمكين قواتها من استيعاب المعدات الجديدة وتشغيلها. ومن ناحيتها، شددت المصادر البريطانية على "الطابع الحكومي" للاتفاق، حيث سيتم ابرام بنوده وتنفيذها من خلال عقود موقّعة بين الحكومتين مباشرة وليس مع الشركات التجارية المنتجة للمعدات وهي شركة "بريتيش إيروسبايس" التي تنتج طائرات "هوك"، وشركة "جي. ك. ن" المنتجة لعربات "بيرانيا"، وشركة "شورتس" المنتجة لصواريخ "ستاربيرست"، وشركة "فوسبر ثورنيكروفت" المتخصصة في انتاج السفن والزوارق. وأشارت المصادر الى ان التوصل الى الاتفاق "تم بعد مفاوضات طويلة استغرقت أشهراً عدة بين الجانبين"، مضيفة ان ما تم توقيعه في الدوحة كان بمثابة "مذكرة تفاهم أولية تمهيداً للتفاوض على تفاصيل العقود، والاتفاق على بنودها النهائية، والجداول الزمنية الخاصة بتنفيذها". وتوقعت ان يتم انجاز ذلك في الاسابيع المقبلة. وعلى رغم حرص الدوائر الرسمية على عدم الكشف عن اعداد الاسلحة والمعدات التي سيشتمل عليها الاتفاق القطري - البريطاني وقيمة كل منها، فان المعلومات التي حصلت عليها "الوسط" أفادت ان شركة "بريتيش ايروسبايس" ستحظى بالحصة الرئيسية فيها بفضل طائرات "هوك" التي سيتعاقد سلاح الجو القطري على شرائها منها. وقدرت المعلومات عدد هذه الطائرات بما يتراوح بين 12 و16 طائرة، مرجحة ان تشتمل على مزيج من الطرازين "هوك - 100" المزود مقعدين والمعد لمهمات التدريب والقتال والمساندة الهجومية، و"هوك - 200" المزود مقعداً واحداً والمخصص أساساً للمهمات القتالية المتعددة الأغراض، بما في ذلك القتال الجوي والهجوم الأرضي والقصف البحري. ويتوقع ان تصل قيمة هذه الصفقة وحدها الى حوالى 300 مليون جنيه استرليني 500 مليون دولار. اما بالنسبة الى المعدات الاخرى فتشتمل على 40 عربة قتال مدرعة من طراز "بيرانيا" مزودة مدافع من عيار 90 ملم في صفقة قدرت قيمتها بحوالى 50 مليون جنيه، وكمية من صواريخ "ستاربيرست" المضادة للطائرات بقيمة مماثلة. وستكون هذه المدرعات والصواريخ مخصصة لتزويد قوات الحرس الأميري القطرية، في حين ستقوم شركة "فوسبر ثورنيكرونت" ببناء زورقي دورية هجوميين من فئة "46 متراً" لحساب سلاح البحرية القطري بقيمة تبلغ حوالى 100 مليون جنيه. وكانت الشركة البريطانية نفسها فازت قبل أعوام بعقد بلغت قيمته 200 مليون جنيه استرليني لتزويد قطر 4 زوارق هجومية من فئة "فيتا" 56 متراً تم تسليحها بصواريخ سطح - سطح مضادة للسفن من طراز "اكزوسيت" وصواريخ سطح - جو مضادة للطائرات من طراز "سادرال" ميسترال. وتسلمت البحرية القطرية زورقين من اصل هذه الزوارق في وقت سابق من هذا العام، على ان تتسلم الزورقين الباقيين مطلع العام المقبل. ويبدو ان التعاقد على الزورقين الجديدين من فئة "46 متراً"، اللذين سيكون تسليحهما مشابهاً على الأرجح لتسليح الفئة "فيتا" التي أطلقت عليها قطر اسم "كنز برزان"، يهدف الى استكمال خطط اعادة تجهيز الاسطول القطري وتحديث وحداته القتالية التي كانت تعتمد على ثلاثة زوارق هجومية فرنسية الصنع من فئة "لاكومباتانت" تحمل في الخدمة اسم "تمساح". والأهمية المميزة التي يعلقها البريطانيون على هذا الاتفاق التسليحي هي في كونه يشكل "عودة" الى السوق القطرية بعد غياب طويل يرجع الى السبعينات عندما كانت قطر المستقلة حديثاً عن بريطانيا تعتمد الى حد كبير على هذه الاخيرة لتزويد قواتها المسلحة الناشئة والصغيرة حاجاتها. لكن الوضع اختلف جذرياً اعتباراً من أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، اذ اتجه القطريون الى فرنسا، ولا تزال الاسلحة والمعدات الفرنسية تشكل حتى الآن العماد الرئيسي للترسانة العسكرية القطرية التي تضم دبابات من طراز "أ. م. اكس - 30" وعربات قتال مدرعة من طراز "أ. م. أكس 10" و"فاب" ومدافع ميدان ذاتية الحركة من طراز "أ. م. اكس - 155" عيار 155ملم، وصواريخ مضادة للدروع من طرازي "هوت" و"ميلان"، وصواريخ أرض - جو مضادة للطائرات من طراز "ميسترال" و"رولاند"، الى جانب الزوارق الهجومية "لاكومباتانت" تمساح المزودة صواريخ سطح - سطح مضادة للسفن من طراز "اكزوسيت" وصواريخ سطح - جو مضادة للطائرات من طراز "سادرال" ميسترال، فيما يعتمد سلاح الجو القطري على مقاتلات "ميراج ف - 1" وطائرات التدريب والمساندة الهجومية "ألفا - جت" وطائرات الهليكوبتر "غازيل" والصواريخ جو - جو "ماترا - 550 ماجيك" و"ميكا". توازن فرنسي بريطاني ولا يعني توقيع الدوحة اتفاق التسلح الجديد هذا مع بريطانيا تخليا عن علاقاتها الدفاعية الوثيقة مع فرنسا، اذ من المقرر ان يبدأ سلاح الجو القطري خلال العام المقبل تسلم 12 مقاتلة فرنسية متطورة من طراز "ميراج - 2000" تعاقد عليها بموجب صفقة وقعت عام 1994 وبلغت قيمتها نحو 500 مليون دولار لاحلالها مكان مقاتلاته من طراز "ميراج ف - 1" التي يجري الاستغناء عنها تدريجياً بعدما تم الاتفاق على بيعها لاسبانيا. لكن المهم، من وجهة النظر البريطانية، ان التوصل الى الاتفاق الجديد من شأنه ان يفتح الابواب امام الصناعات العسكرية البريطانية لاثبات وجودها مرة اخرى في سوق تسليحية خليجية غابت عنها طويلا. كما ان توقيته يعد حيوياً جداً بالنسبة الى لندن، اذ انه يأتي في وقت أعلنت فيه القيادة القطرية الجديدة عزمها على تعزيز قدرات قواتها المسلحة وتحديث معداتها وزيادة حجمها من خلال خطة متكاملة يجري العمل على وضعها. وحتى الماضي القريب كان فوز فرنسا بمعظم الصفقات التسليحية يعتبر أمراً شبه مفروغ منه. اما الآن فان لندن تعتبر اتفاقها الاخير مع الدوحة بمثابة "مدخل" سيساهم في تحسين فرص فوزها بحصة لا بأس بها من الصفقات المرتقبة. ويبرز خصوصاً في هذا المجال البرنامج الذي تعتزم قطر تنفيذه لتحديث وحداتها المدرعة والحصول على طراز جديد من دبابات القتال الرئيسية عوضا عن دبابات "أ. م. اكس - 30" العاملة لديها. وتخطط الدوحة في هذا البرنامج للحصول على ما يتراوح بين 50 و60 دبابة جديدة تكفي للحلول مكان 24 دبابة "أ. م. اكس - 30" تشكل في الوقت الحاضر كتيبة الدروع الوحيدة لدى الجيش القطري، ولانشاء كتيبة مدرعة ثانية. وكان الاعتقاد السائد ان الدبابة الفرنسية "لوكليرك" ستكون الاوفر حظاً في الفوز بهذه الصفقة التي يقدر ان تبلغ قيمتها بين 400 و500 مليون دولار، باعتبار انها تحل في صفوف الجيش الفرنسي محل دبابات "أ. م. اكس - 30"، وبعدما اختارتها قبل عامين دولة الامارات العربية المتحدة لتحديث قواتها المدرعة في برنامج ضخم اشتمل على 436 دبابة بقيمة 6.3 مليار دولار. كما انها تتنافس حالياً للفوز بصفقة دبابات جديدة محتملة للمملكة العربية السعودية. لكن الواضح ان البريطانيين باتوا يشعرون انهم دخلوا طرفاً جدياً في المنافسة التي ينتظر ان تحتدم للفوز بالصفقة القطرية من خلال الدبابة "تشالنجر - 2" التي تنتجها شركة "فيكرز". وتشير المصادر الدفاعية البريطانية الى ان هذه الدبابة، التي استخدمتها القوات البريطانية خلال عملية "عاصفة الصحراء" على نطاق واسع، اثبتت فاعليتها في ميادين المعارك التي خاضتها عملياً، الامر الذي لم تسنح الفرصة للدبابة "لوكليرك" لاثباته بعد، اضافة الى انها برهنت ايضاً عن ملاءمتها لظروف القتال والعمل في المناطق الصحراوية الحارة أكثر من نظيرتها الفرنسية. واذا ما وقع الاختيار القطري فعلا على الدبابة "تشالنجر - 2" التي سبق ان باعت لندن 18 منها الى سلطنة عُمان التي تفكر حالياً بالحصول على دفعة ثانية تشتمل بدورها على عدد مماثل، فان ذلك سيشكل نكسة مهمة للصناعات العسكرية الفرنسية، لاسيما شركة "جيات" المتخصصة بانتاج الدبابات والعربات المدرعة والمعدات القتالية البرية، والتي تعاني منذ مدة مصاعب مالية حادة. وفي المقابل فان خطوة كهذه ستكون نجاحا مهماً آخر تحققه الصناعات البريطانية المنافسة لها، سواء على صعيد السوق القطرية بالذات، أم على صعيد الاسواق الخليجية عموماً. كما ان بريطانيا تعتبر ان فوزها بصفقة الدبابات القطرية يزيد من فرصها في الفوز بالبرنامج السعودي المنتظر، والذي يبدو حتى الآن ان الدبابة الاميركية "م - 1 أبرامس" هي الاوفر حظاً في الفوز فيه، علماً بانها تعمل لدى القوات الملكية السعودية منذ سنوات عدة بعدما اختارتها الرياض لتحديث وحداتها المدرعة وتعزيزها في اعقاب حرب الخليج. التنافس الدولي وقد تكون هذه الطموحات البريطانية مغالية في تفاؤلها، اذ ان العلاقات القطرية - الفرنسية لا تزال وثيقة جداً والتعاون الدفاعي بين البلدين مرشح ليحافظ على طابعه التقليدي القوي. كما ان توقيع الدوحة اتفاق التسلح الاخير مع لندن قد لا يكون اكثر من تكريس لنهج تنويع مصادر التسلح وعدم الاعتماد الكلي على دولة واحدة، وهو على أي حال نهج بات يميز جهود البناء والتعاون الدفاعي الخليجي عموماً منذ فترة طويلة لاعتبارات سياسية واقتصادية واستراتيجية. لكن الثابت ايضاً ان اعلان الاتفاق القطري - البريطاني ساهم الى حد في انعاش الاهتمام الخاص الذي طالما حظيت به أسواق التسلح الخليجية، وأعاد تسليط الاضواء على المنافسة العالمية الحامية للفوز فيها، وهي منافسة يبدو أكيداً انها ستحتدم خلال السنوات المقبلة