لم تعد شهادة الدكتوراه حلماً يعجز الشاب الكسول عن تحقيقه الا اذا انفق السنوات الطويلة في الدرس والبحث. ولماذا تعب القلب اذا كانت لدىه حفنة من المال تكفي لشراء الشهادة واللقب الوجيه ممن يبيعونها في الولاياتالمتحدة واوروبا ودول عربية؟ "الوسط" تسلط الضوء على اسباب تجارة الدكتوراه - وإن كانت محدودة- ونشأتها والآلية التي تتم بها في تحقيق موسع يطمح الى تنبيه السلطات المعنية الى هذا الغش الاكاديمي وضرورة اجتثاثه. ولئلا يبقى السرد نظرياً يفتقر الى حرارة الواقع ونماذجه المتعددة التي تتباعد وتتلاقى، نقدم في حلقتين متتاليتين تحقيقات ميدانية ترسم خريطة مفصلة لتجارب شتى في سوق الدكتوراه الممتد بين الشرق والغرب. نستهلها بعينات من المنطقة العربية وأمثلة تتوافر في كثير من الجامعات. التأم شمل الاصدقاء والزملاء قبل سنوات في أحد بيوت موسكو الأنيقة للاحتفال بنيل شاب عربي درجة الدكتوراه من أحد المعاهد العلمية في عاصمة الاتحاد السوفياتي السابق. ساد جو صاخب حتى ساعات الصباح الاولى. ولما اقترب موعد الوداع جلس الدكتور الجديد الذي انفق الليل يتبختر مزهواً كالطاووس، قبالة استاذه المشرف الذي طُلب منه القاء كلمة قصيرة. ولم يكن الاختصاصي البارز في التاريخ العربي يتوقع ان يطلب منه ذلك. بعد تلعثم لم يدم طويلاً أنطلق لسانه وقال: انه والعاملين في القسم الذي يرأسه أجدر بالدكتوراه من الشاب العربي، فهم الذين قاموا بالبحث واعدوا الاطروحة وناقشوها، فيما اقتصرت مساهمة الشاب على تقديم تصور عام جداً عن موضوعها. لم تُحدث هذه القنبلة أية اضرار جسيمة، اذ سرعان ما انفض الجمع وتولى اصدقاء الشاب العربي في سفارة بلاده، والدوائر السوفياتية المعنية، مهمة رأب الصدع. ونسي السوفيات الدكتور الزائف، فهو واحد من كثيرين لم يبالوا باهدائهم الشهادة التي سيستعملونها في بلادهم. وحذا حذو السوفيات في ذلك غربيون لم يكونوا دائماً أشد حرصاً من السوفيات على الامانة العلمية. أما في وطن الباحث المعني فبقيت حبكة الدكتوراه السوفياتية ضعيفة، وتحول الامر الى مهزلة كلما أضيف لقب دكتور الى اسم الرجل. وذكر بعض خصومه انه لم يحصل في الحقيقة حتى على الثانوية العامة، فكيف ينجز بحثاً علمياً جاداً ويكتبه بالروسية؟ والكفاءات الآيديولوجية ليست المؤهلات الوحيدة التي يحتاج اليها الطامح الى لقب "دكتور". فالحكايات المثيرة تروى عن شهادات يستطيع الطالب ان يشتريها من دون عربية اخرى، وعن شباب عرب يسافرون الى دول الغرب حيث يتعاقدون مع متخصص يكتب اطروحة الدكتوراه ويدربهم على طريقة الدفاع عنها. الا ان قصة بعينها استوقفته طويلاً على رغم شحّ التفاصيل التي عرفها عن الحبكة والابطال. المكان: باريس حيث ذهب مثقف لبناني اثناء الحرب الاهلية لتسجيل مشروع بحث لنيل الدكتوراه في الأدب مع استاذ في جامعة السوربون. وفوجئ لما أشار عليه الاستاذ المشرف بالعدول عن الفكرة لان مواطناً لبنانياً عالجها من قبل. وللوقوف على حقيقة الامر، طلب المثقف من أرشيف الجامعة الاطروحة، فاذا بها نسخة عن أحد كتبه المتوافرة في السوق، ترجمها الطالب الى الفرنسية في مقابل مكافأة ثمينة هي شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون. هكذا تتعدد الاسباب وتبقى الشهادة واحدة. فقصاصة الورق التي تجيز للمرء حمل لقب دكتور، قد تأتي بعد سنوات من البحث الجاد في أحد ميادين العلوم الانسانية. لكنها تتوافر ايضاً بطرق ملتوية، كما اكتشف ويكتشف عدد متزايد من العرب. فالشهادات الآيديولوجية التي شحت بعد سقوط أنظمة شيوعية اعتادت ان تهديها بسخاء مفرط، كانت تمنح في مقابل أجر عيني. اما الاخرى فتباع بأسعار قد تتراوح بين 10 و15 ألف دولار يقبضها كاتب الاطروحة أو مترجمها. وفي كل الاحوال، لا يفعل الدكتور الزائف شيئاً يذكر سوى دفع الأتعاب وتزيين الاطروحة باسمه. وقد تصدر الشهادة عن طريق "الواسطة" عن جامعات عربية ايضاً. فكثيرون من المسؤولين العرب حصلوا على شهادات عليا من جامعات بلادهم بفضل نفوذهم أو اتجاههم السياسي وحده. واتبع آخرون اسلوباً عربياً مميزاً لاقتناص لقب الدكتور، اذ اختاروا موضوعات ناجحة بامتياز لاطروحاتهم عن انجازات ينسبها النظام الحاكم في بلادهم الى نفسه. وشهادة "الواسطة" التي بدأت في مصر على استحياء في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، واستمرت ابان حكم الرئيس أنور السادات، أضحت تتوافر في دول عربية شتى حيث اعتادت الجامعات ان تمنحها لأصحاب الاسماء الكبيرة في ظل حكام متعاقبين. وبات اتساع سوق تجارة الدكتوراه الناشطة باطراد، في السنوات الاخيرة يهدد باحداث شرخ عميق في مصداقية المؤسسة الاكاديمية، بسبب رواج الحكايات التي تتناول تجارة الدكتوراه. لكن هذا المرض لا يزال بعيداً عن دائرة الضوء في الدول العربية، مما يجعل فضحه ضرورة ملحة. ومع ان انتحال لقب دكتور عن طريق اطروحات تشترى او تُسرق وتترجم، هو لب التحقيق فلا مناص من التوقف عند عمليات التزوير التقليدية التي تتطلب مهارات فنية فقط. والخداع العلمي يبدأ احياناً في المرحلة الجامعية التي يجتازها الطالب بنجاح بفضل "مساعدة" آخرين، ثم يبحث عمن يبيعه شهادة دكتوراه! ومهما اختلفت طرق الغش الاكاديمي فهي بدأت في وقت متقارب، كما ان الاسباب التي شجعت على رواجها واحدة ايضاً. العلة: النظام الوظيفي الأرجح ان انتشار هذه التجارة بدأ مع الطفرة النفطية اذ صارت الشهادة العالية جواز سفر الى دول الخليج، حيث توافرت فرص العمل والرواتب السخية. واذا كانت حمى الحصول على شهادة اكاديمية انحصرت أول الامر بالاجازة الجامعية، فهي سرعان ما بلغت الدكتوراه في السبعينات، عندما اتخمت المنطقة بحاملي الشهادات الجامعية، مما حدا بكثيرين الى البحث عن الدكتوراه بهدف التأهل لاحتلال مناصب أفضل. وانضم الى هذا السباق ابناء الخليج والوافدون اليه من الدول العربية الاخرى. ولا شك في ان التوسع غير المدروس في النظام الجامعي العربي ساهم في تنشيط هذه التجارة. فبدلاً من ان تكون المهمة الاساسية للجامعة هي البحث العلمي، كما هو الامر في الدول المتقدمة، ينظر اليها العربي مرحلة مكملة لما سبقها. "كأن الحصول على الشهادة الثانوية يجب ان يؤدي بالضرورة الى الجامعة ثم الدراسات العليا. هذا الخلل هو سر تضخم الجامعات العربية واستنزاف طاقاتها الفنية والبشرية بأعداد أكبر بكثير مما تحتمل". حسبما قال لپ"الوسط" خبير عربي في التعليم العالي. وقد يساوي عدد طلاب جامعة القاهرة عدد الطلاب الدارسين في مجموعة من الجامعات البريطانية. وارتفاع أعداد الطلاب وازدياد الشهادات الممنوحة، بانواعها، يتسبب ايضاً في انحدار المستوى العلمي لهذه الشهادات التي تصدر احياناً من دون ان تتوافر فيها المعايير الاكاديمية. ودوافع الرغبة في حمل لقب الدكتور تبدأ بالعلة التي يعاني منها النظام الوظيفي العربي. فهذا يجعل درجة الدكتوراه المؤهل الأعلى الذي يتقاضى صاحبه راتباً مرتفعاً نسبة الى غيره من الموظفين. الى كونها تتيح لحاملها ان يعمل في الجامعة التي يحظى اساتذتها، عموماً، بتقدير اجتماعي ووجاهة بالغين. فلقب دكتور لا يزال يتمتع في بعض البلدان العربية ببريق خاص سواء كان حامله طبيباً أو متخصصاً في العلوم الاخرى. وهذا البريق ليس ناتجاً، في احوال كثيرة من القيمة الحقيقية للجهود التي بذلها ويبذلها صاحب اللقب وانما من مصدره والجامعات التي منحته ومن بينها الجامعات الاجنبية التي لا تزال تتمتع بسحر خاص في أوساط النخب العربية. وكثيرون اولئك الذين نالوا القاباً جامعية من دون استيفاء الشروط الاكاديمية الحقيقية اللازمة للحصول عليها، ولا نتحدث عن المزورين، وانما عن حاملي لقب "دكتور" رسمي وصادقت عليه الادارات الجامعية في الدول الاجنبية، وبعضهم يزاول التعليم أو يحتل مناصب ادارية. في المقابل هناك كثيرون ممن بذلوا جهوداً حقيقية واستحقوا بجدارة الألقاب العلمية التي يحملونها، لا بل يمكن القول ان حاملي اللقب من الفئة الأولى هم الأقلية لحسن الحظ. والمؤسف ان الحصول على الشهادة العليا عن احد طرق الغش المذكورة، صار هدفاً سهل التحقيق نسبياً. في بريطانياوفرنسا وأميركا وروسيا ودول عربية... يلجأ بعضهم الى البحث شخصياً عن البائع أو المترجم للتعاقد معه. وقد يستعين بأصدقاء ومعارف من أهل الخبرة. واذا تعذر الامر، أو كان وقتهم ضيقاً، كلفوا مكتباً متخصصاً في تقديم خدمات شرعية الى الطلاب في كثير من الدول العربية والاجنبية. وفي معظم الاحيان يتم الاتفاق بين البائع والشاري على مبلغ فور انجاز الاطروحة، تتبعه مكافأة أخرى يدفعها الزبون بعد منحه الشهادة. والدكتور "الزائف" يذهب الى بلاده حيث يواظب على السلوك ذاته وعلى ادعاء معرفة لا يتمتع بها. وكثيراً ما يزاول الهواية التي ادمنها: شراء الابحاث التي ينجزها أحد الاساتذة الجامعيين في هذا القطر العربي الفقير أو ذاك، وينشرها الدكتور الوجيه مذيلة بتوقيعه في مجلة أكاديمية مما يعزز مركزه ويؤهله للترقية. وثمة مطبوعات دورية "محترمة" تعتمدها جامعات عربية من غير ان تعرف انها ضالعة في تجارة البحوث الاكاديمية. ولكن كيف نحارب هذا التزييف؟ يخرج المرء من متابعة هذه التفاصيل بتصورات شتى نكتفي منها باربعة. لا بد، أولاً، من مراجعة طرق معادلة الشهادات الاجنبية وتوثيقها، فبعض هذه الطرق قد عفا عليه الزمن، علماً ان الشهادات يصادق عليها احياناً في دول عربية على أساس الثقة من دون تدقيق! أكاديمي عربي درّس في جامعات جزائرية، ساق مثالاً على هذه الحالة فقال ل "الوسط" ان عدداً من الاساتذة الجامعيين هناك لا يحمل شهادة عالية، اذ ان الوالي المحافظ المخول اليه المصادقة على الوثائق بانواعها كان يضع خاتمه الرسمي على الشهادة المقدمة اليه، وحتى وان لم تصادق عليها وزارة الخارجية التي تعنى عادة بالتدقيق من صحة التواقيع الوافدة من الخارج. وثانياً، من الضرورة بمكان اخضاع الاساتذة لتدريب مستمر، وتقويم امكاناتهم العلمية لئلا تؤوي جامعاتنا مدرسين ومدرسات يعجزون عن الكتابة بالعربية. وثالثاً، ينبغي ايضاً تغيير نظام الممتحنين الخارجين. ووفق هذا النظام يدافع الطالب عن اطروحته امام لجنة مؤلفة من ممتحن خارجي هو استاذ في جامعة اخرى، وممتحن داخلي يتم انتقاؤه من اعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة ذاتها. لكن الممتحن الخارجي يكاد يكون حالياً في بعض الجامعات العربية واحداً من مدرسي الجامعة نفسها. وعمله في الجامعة ذاتها قد يضطره، لسبب أو آخر، الى التخلي عن حياده والتساهل مع الطالب. واخيراً يجب وضع سجل لتوثيق الاطروحات والرسائل العلمية المقدمة الى الجامعات العربية كلها لنيل شهادات اكاديمية عليا. فهذا التوثيق الدقيق سيقطع الطريق على غشاشين يدفعون بالبحث نفسه الى جامعتين عربيتين، وربما في زمنين متباعدين، ويحصلون على شهادتين بسبب عدم وجود قنوات للاتصال والتنسيق بين المؤسسات الاكاديمية العربية. السعودية: اجراءات صارمة تجد الشهادات الاجنبية والعربية "السهلة" طريقها الى السعودية، على رغم الاهتمام الذي توليه وزارة التعليم العالي لطرق معادلة الشهادات ومعاقبة "المتلاعبين" بصرامة. واذا كانت متابعة الجهات المسؤولة سير دراسة الموفد أولاً بأول سبباً أساسياً لپ"نظافة" شهادات المبتعثين الذين يسافرون للتحصيل العلمي على نفقة الحكومة، فكيف يمكن قطع دابر الغش الاكاديمي الذي يفيد منه طلاب سعوديون يدرسون على حسابهم الخاص؟ القضية تبدو اكثر تعقيداً حين يدرك المرء ان هذا الغش يبدأ في الجامعة وتروّج له مكاتب للخدمات الطلابية. شاعت في الاعوام الثلاثة الماضية ظاهرة "شراء" بعض الطلاب السعوديين بحوثاً جاهزة أو رسائل اكاديمية تُكتب لهم ليذيلوها بتوقيعهم وينالوا بموجبها درجات الدكتوراه والماجستير من جامعات في الخارج. وتنتشر الظاهرة في أوساط الذين يسافرون للدراسة على نفقتهم الخاصة سواء في الولاياتالمتحدة الأميركية أو الدول الاوروبية حيث توجد مكاتب أو شركات خاصة تتكفل بانجاز هذه الابحاث وتدريب الطالب على طريقة مناقشة الرسالة في شكل يضمن عدم انكشاف أمره، وتتقاضى في مقابل هذه الخدمات مبالغ لا بأس بها. أما الطلاب الموفدون على نفقة الجامعات السعودية للحصول على درجتي الماجستير أو الدكتوراه في الخارج فنادراً ما يتورط أحدهم في مثل هذه الممارسات خصوصاً ان الملحقية التعليمية في أي سفارة سعودية تتابع سير دراسة المبتعث بالتعاون مع استاذه المشرف. ويُطلب من الاخير تقديم تقرير دوري عن أداء الطالب للملحقية التي ترسله بدورها الى الجامعة الموفدة. ووجود لجنة خاصة لمعادلة الشهادات الجامعية العليا في وزارة التعليم العالي السعودية لم يؤد الى وضع حد لهذا التلاعب الذي يصعب اثباته أو يستحيل احياناً. واللجنة هي الجهة المكلفة رسمياً معادلة الشهادات الجامعية والعليا. وقد ترفض الشهادة اذا كانت للجامعة المانحة سمعة علمية رديئة بسبب ضعف البرنامج وقلة مواد التخصص أو لعدم الاعتراف بجميع الشهادات التي حصل عليها الدارس قبل حصوله على الشهادة الاخيرة التي تحتاج الى معادلتها. كما يمكن ان يفشل الطالب في معادلة شهادته بسبب التداخل الشديد بين مرحلتي البكالوريوس والماجستير أو لقصر المدة التي حصل فيها على الشهادة. وللجنة معاييرها وأنظمتها الصارمة التي تستهدي بها في تعديل الشهادات الجامعية الذي قد يتم بصفة مطلقة اذا كانت مستوفية جميع الشروط المطلوبة أو قد تعدل شرط الاستعمال في اغراض غير اكاديمية. وفي هذه الحالة يقتصر الاعتماد على الشهادة في المجالات الوظيفية فقط. وتقرر اللجنة احياناً معادلة الشهادة لغير الاغراض الاكاديمية والتربوية مما يمنع الاعتماد عليها كمؤهل يسمح للشخص بالعمل مدرساً في أي مرحلة تعليمية. وفي كل الاحوال لا يحق لأي سعودي ان يتقدم بشهادته الجامعية أو العليا التي حصل عليها من جامعات خارجية لأي وظائف حكومية عن طريق ديوان شؤون الخدمة إلا بعد معادلة هذه الشهادة من وزارة التعليم العالي. وتتبع اجراءات اكثر صرامة مع حاملي الشهادات الاجنبية الراغبين في التدريس في الجامعات السعودية، اذ يتولى المجلس العلمي في الجامعة المعنية اجراءات تقويم الشهادات قبل قبول صاحبها عضواً في هيئة التدريس. لكن مصدراً أكاديمياً سعودياً اتصلت به "الوسط" في الرياض طرح علامات استفهام حول عمل بعض مكاتب خدمات الطالب الجامعي ومكاتب البحوث والترجمة التي تزايدت اعدادها في شكل واضح في المملكة في الأعوام الأخيرة. ولاحظ ان بعض هذه المكاتب يتولى إعداد بحوث للطلاب في مقابل اجر! شراء البحوث وتنتشر ظاهرة شراء الطلاب البحوث العلمية لتقديمها في جامعاتهم على أساس انها من انتاجهم في دول عربية شتى مما يؤكد وجود خلل في نظام الاشراف الاكاديمي في بعض هذه الجامعات. وهناك من يوجه اللوم في هذا السياق الى جامعات مصرية، خصوصاً بحجة ان صلة الاستاذ المشرف فيها بالطالب ضعيفة وقد لا يراه الا مرة أو مرتين في العام أو عند الانتهاء من اعداد البحث المطلوب. كما يكمن الخلل ايضاً في الطريقة التي تتبعها بعض الجامعات العربية في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه. وهي طريقة توصف احياناً بأنها "تهريجية" تعتمد على مزاج اعضاء لجنة المناقشة وعلاقتهم بالطالب أو بالاستاذ المشرف. وقد يكمن الخطأ ايضاً في طريقة اختيار لجنة المناقشة حيث يرشح بعض الاساتذة ومسؤولي الجامعات أصدقاءهم من اعضاء هيئة التدريس لمناقشة البحوث التي يقدمها الطلاب المقربون منهم. كما ان اشراف الاستاذ الجامعي على اكثر من خمسة بحوث علمية في الوقت نفسه قد لا يمكنه من المتابعة الدقيقة لسير البحث الذي يجريه الطالب. ولذلك تحرص الجامعات السعودية على عدم تكليف الاستاذ الاشراف على اكثر من أربعة أو خمسة بحوث ماجستير ورسائل دكتوراه، خلافاً لما هو معمول به في بعض الجامعات العربية حيث يسمح للاستاذ بالاشراف على اكثر من عشر رسائل جامعية في وقت واحد مما قد يسمح للمستهترين طلاباً أو اساتذة بالتلاعب والغش. وعلمت "الوسط" من اساتذة في الجامعات السعودية ان طلاباً يقدمون عند التخرج بحوثاً ودراسات تفوق مستوياتهم العلمية وقدراتهم الحقيقية التي يعرفها الاستاذ عن كثب. وما ان يناقشهم في بحوث التخرج هذه حتى يتضح له ان أحداً ساعدهم في اعداد البحث، او ربما كتبها لهم! والاستاذ الجامعي السعودي يمكنه في هذه الحالة رفض البحث بأكمله في حال وجود أدلة تثبت ان الطالب ليس صاحب البحث كما يدعي. فأنظمة الجامعات السعودية تمنح مثل هذه الصلاحيات لأساتذتها وبناءً على ذلك رُفضت بحوث كثيرة شكّك فيها الاساتذة، الا ان مسألة معاقبة الطالب تتعذر غالباً لأن ذلك يحتاج الى احالة الطالب على لجنة تحقيق خاصة وتقديم أدلة مادية تؤكد استعانته بشخص آخر وهو أمر يصعب اثباته في صورة لا تقبل الشك. وفي محاولة لاختراق أحد مكاتب خدمات الطلاب المشبوهة استعانت "الوسط" بأحد الطلاب السعوديين للتظاهر امام احد هذه المكاتب التي يديرها شاب مصري بأنه يحتاج بصورة عاجلة الى بحث في 35 صفحة عن أدب الشاعر الاندلسي ابن زيدون، فطلب الموظف من الطالب "الممثل" ان يدفع ألفي ريال سعودي على ان يتسلم البحث كاملاً بعد أسبوع. وامعاناً في التمثيل احتج الطالب على ارتفاع قيمة "الاتعاب" المطلوبة فأصر الموظف على المبلغ بحجة انه سيكلف بدوره احد اساتذة الجامعة من الضليعين في الأدب العربي لإعداد البحث وان الامر يحتاج الى مراجع نادرة قد لا تتوافر لدى أي شخص. وأمام اصرار الطالب على موقفه وتظاهره برفض التعامل مع المكتب وعدم الاقتناع بأسلوب المساومة تراجع الموظف المسؤول وقدم له "حسماً خاصاً" تم بموجبه الاتفاق على دفع الطالب مبلغ 1700 ريال عن البحث. ويكثر مثل هذه الممارسات خصوصاً في مواسم الاختبارات الجامعية لمرحلة البكالوريوس، اذ تزدهر "سوق" بيع البحوث الشهرية أو الفصلية التي يُكلف بها الطلاب، وتختلف قيمة المبالغ التي تتقاضاها مثل هذه المكاتب باختلاف نوع البحث المطلوب وحجمه والمدة الزمنية المطلوب انجاز البحث خلالها. وعلى رغم وجود لجنة لمعادلة الشهادات الجامعية العليا في وزارة التعليم العالي السعودية الا ان ذلك لم يمنع تكرار مثل هذا التلاعب لصعوبة اثباته أو استحالة ذلك في معظم الحالات. الكويت: وباء الدكتوراه! "داء" الغش الأكاديمي مستفحل في الكويت أيضاً. السلطات المسؤولة حريصة كما في السعودية على معالجة المشكلة بصرامة. والبرلمان قلق من تأثير هذا الغش على المستوى العلمي للبلاد. لكن لا تزال الشهادات تباع ويصل سعر اطروحة الدكتوراه إلى 27 ألف دولار، ربما بفضل مكاتب لپ"الخدمات الطلابية" تلعب، كنظيرتها السعودية، دوراً في تشجيع هذه التجارة الرائجة في الكويت منذ فترة لابأس بها. وعلى رغم أهميتها، وربما بسببها، وقعت شهادة الدكتوراه ضحية تيار استهلاكي جامح غزا الكويت أوائل السبعينات، وبات يهدد سمعة أولئك الذين تعبوا من أجل الحصول على مثل تلك الشهادة. وفي خضم التستر وراء حرف الدال الذي بلغ أوجه قبيل الغزو العراقي، ارتفعت في استحياء أصوات نادت الجهات المعنية آنذاك الى اعادة النظر في الظاهرة. وساد اعتقاد في المنتديات الأكاديمية ان موجة الحصول على "الدكتوراه" بطرق مشبوهة ومن جامعات لم يسمع بها أحد، بدأ يطغى على الجانب الايجابي للتحصيل العلمي والشهادات العالية في دولة مثل الكويت قادرة على اتاحة الفرصة امام المئات للدراسة في أفضل جامعات العالم. إلا أن ظاهرة التضخم المتسارع في اعداد حملة شهادات الدكتوراه على أنواعها وضعت فعلياً تحت المجهر للمرة الأولى بعد الحرب، إذ أدت الرقابة المالية الصارمة التي فرضها البرلمان الكويتي على مؤسسات الدولة إلى اثارة قضية تدني الانتاج البحثي في جامعة الكويت، مقارنة بالجامعات الأخرى ووجود عدد كبير من حملة الدكتوراه في مختلف الاختصاصات. لكن زيادة علامات الاستفهام لم تؤد في الضرورة إلى قيام "محاكم تفتيش" علمية للنظر في ملفات الحاصلين على الدكتوراه، كما توقعت قلة متحمسة. وأشار بعضهم إلى أن ذلك لم يكن ضرورة ملحة في رأي مجموعة من الاكاديميين المخضرمين الذين يهيمنون على المجتمع الأكاديمي في الكويت، مما يجعل دعمهم ضرورياً للقيام بمثل تلك الخطوة. ولم يبقَ إلا أن يتصدى للمشكلة شباب رجعوا من الخارج بعد سنوات من الدراسة ليكتشفوا ان "الدكتوراه" فقدت بريقها في بلدهم. وكما يحدث عندما يتدخل شباب مندفع لا يأخذ ببعض الحدود الاجتماعية التي يحترمها الكبار، جاءت ردود الفعل قاسية. لكن ذلك لم يوقف الحملة الشبابية، خصوصاً أن الأمر كان على درجة من الخطورة، في رأيهم. عن ذلك قالت الدكتورة عالية شعيب، التي تدرس الفلسفة في جامعة الكويت ل "الوسط": "إننا نلتقي في بلادنا يومياً أساتذة جامعة لا يعرفون كيف يشكلون فكرة أو يصوغون عبارة ... بعضهم يعامل الطلاب بوحشية أو يؤلف كتاباً لتدريسه وحشر الطلبة في فكرة ومنعهم من تجريب أفكار ونظريات أخرى". و"توافر الدرجات الأكاديمية في السوق المحلية" ظاهرة تستحق أن تُسمى "الآفة الحقيقية". أما "الأسوأ" فهو "السقوط الأخلاقي لبعضهم وقبوله شراء شهادات فقط للحصول على منصب أو امتياز مادي أو اجتماعي"، على حد تعبير الكاتبة والاستاذة الجامعية شعيب. وهذه "السوق المحلية" هي في الأساس شبكة غير مرئية من زبائن محتملين ومكاتب تتستر خلف واجهات عدة وتنظم طرق تقديم "خدمات" أشخاص يعملون في الجامعة ولا يترددون في كتابة رسائل الدكتوراه لمن يدفع أكثر. وهؤلاء "الباحثون للايجار" هم عادة خريجو جامعات عربية، خصوصاً المصرية ثم اللبنانية والسورية، ومنهم من يعمل وسيطاً مع أصدقاء له أو لها في تلك الدول لتقديم مثل تلك الخدمة. ويقول مسؤول في الإدارة العليا في جامعة الكويت، طلب عدم ذكر اسمه: "مثل هذه الأمور يحصل في السر ولا سلطة لنا على ضبطه، وهذه سوق مثل غيرها تعتمد على العرض والطلب. هناك أشخاص كثيرون لا يتوانون عن عمل أي شيء في مقابل المال. وكتابة رسائل ماجستير أو دكتوراه يعتبر أمراً بسيطاً مقارنة بأمور أخرى". وطبقاً لمصادر عدة في أوساط المجتمع الطلابي والأكاديمي، فإن أسعار رسائل الماجستير والدكتوراه تتراوح بين ألف دينار كويتي قرابة ثلاثة آلاف دولار أميركي إلى سبعة آلاف دينار كويتي 27 ألف دولار في بعض الحالات، حسب نوعية البحث وسرعة الانجاز والجامعة التي سيقدم إليها. ويشير طلاب إلى أن بعض مكاتب طباعة البحوث التي انتشرت في شكل واسع خلال السنوات الأخيرة عمل كواجهات لبيع مثل تلك الرسائل والبحوث، ويرتبط الكثير منها بالجامعات المصرية. وينفي أصحاب المكاتب هذه الاتهامات، كما يرفضون مناقشة الأمر أو التعليق عليه. مصر: بين الصرامة والجشع "حمى" شراء الماجستير والدكتوراه التي اصابت طلاباً في الجامعات المصرية موضوع شائك يثير خلافاً يصعب حسمه، وتتفاوت الآراء فيه بين الانكار القاطع لوجود تجارة شهادات عالية في مصر، والاشارات الى "بائعين" معروفين لدى زملائهم الاساتذة الجامعيين. ولكن ثمة ما يدل الى ان سوق الشهادات لا تزال محدودة وهي عموماً تأتي من الغرب "المذنب" او تُصدّر الى دول اخرى. ففي مصر يدور همس عن اساتذة يتلقون "هدايا" عينية ومادية ليساعدوا طلاباً من دول عربية اخرى خصوصاً في الحصول على الماجستير والدكتوراه. وطبيعة هذه "المساعدة" فضفاضة، فهي تبدأ بمشورة و تنتهي بكتابة الاطروحة نفسها. وفي خط مواز بدأت جامعات او مؤسسات جامعية في الغرب تمنح شهادات عن طريق البريد وبأسلوب هواة المراسلة. وتردد كلام على عدد من مراكز بحث تساعد الطلاب العرب في القاهرة للحصول على الماجستير والدكتوراه. احد هذه المراكز يمكن ان يساعد في تقديم الطلبات الى الجامعات واختيار موضوع الرسالة واعداد المراجع وانتقاء الاستاذ المشرف وكتابة الاطروحة اذا لزم الامر. و كل "خدمة" لها ثمنها المناسب الذي قد يصل الى خمسة آلاف دولار. وبسبب الضعف الواضح في المستوى العلمي فإن "عصر" الباحث اثناء مناقشة رسالته لا ينم عن شيء. و صحف القاهرة تنشر اعلانات موجهة الى الراغبين في الحصول على شهادات عليا من اميركا وبريطانيا، اضافة الى عناوين جهات يمكن مراسلتها بهدف التسجيل للدراسة لديها من دون ان يضطر الطالب الى السفر. والكلام الذي يتردد عن تورط جامعات واساتذة مصريين في "تجارة" الشهادات الجامعية هو زعم لا أساس له من الصحة على حد تعبير وزير التعليم المصري الدكتور حسين كامل بهاء الدين الذي نفى وجود نشاط كهذا في مصر. وقال: "ان الشخص الذي يريد ان يحصل على غير ما يستحقه يستحق الادانة وأي جريمة لها طرفان. .... لكن القانون سيصلح بصورة حاسمة أي انحراف تتوافر الادلة على حصوله". اما رئيس جامعة القاهرة الدكتور مفيد شهاب فيؤكد ان قضية الاتجار بشهادات الدكتوراه ليست ظاهرة، وقد تكون حالات فردية، فللجامعات المصرية قواعد صارمة للحد من الغش والتزوير تبدأ من القسم فالكلية ثم الجامعة وبعد ذلك المجلس الاعلى للجامعات بلجانه المتخصصة. الغرب... الغرب وأكد الدكتور علي الدين هلال الامين العام للمجلس الاعلى للجامعات ان هناك هيئات ذات اسماء براقة في الولاياتالمتحدة وبعض الدول الاوروبية تبع الشهادات للاجانب. والاعتراف بالشهادات المزورة التي قد يحصل عليها طلاب مصريون من جامعات غربية ليس امراً سهلاً كما يقول هلال الذي لاحظ ان عشرات الشهادات الاجنبية لم تُعادل في مصر لعدم استيفائها الشروط. . أما الدكتور عبد الحميد ابراهيم عميد كلية الدراسات العربية في جامعة المنيا فيبدو ميالاً الى وضع الكرة في المرمى الاجنبي، ويؤكد ان غالبية اساتذة الجامعات المصرية تلتزم القانون وما يمليه الضمير العلمي. "ولكن هناك قلة قد تتساهل خصوصاً مع بعض الطلاب العرب الذين يقدمون من الاغراءات ما لا يستطيع اصحاب النفوس الضعيفة ان يقاوموه فيتساهلوا في المستوى العلمي للبحوث او يحاولوا مساعدة الطلاب وتعيين زملاء "متعاطفين" في لجان المناقشة. وعلى رغم ان هؤلاء يشكلون اقلية ضئيلة فإنهم معروفون في الحقل الجامعي ويعود تلاميذهم الى بلادهم فيشهرّون بهم ويتنكرون لهم ويصيب بعض جامعات مصر شيء من الاساءة بسببهم". وينبه الدكتور حامد ابو أحمد الاستاذ في كلية اللغات والترجمة في جامعة الازهر الى ان الاتجار بالشهادات أشبه بسرقات خفية يصعب إثباتها. وقال: "مع انني سمعت شخصياً من افواه اساتذة انهم كتبوا رسائل علمية لبعض الطلاب الذين اصبحوا اساتذة بدورهم، فأنا لا اصدق معظم ما اسمع لأنه قد يكون مبالغاً فيه". ويرى "ان القضية الاخطر من هذه التجارة التي تعود اساساً الى اخلاقيات منحرفة لا تنجو منها الجامعة، هو ضعف مستوى بعض الرسائل الجامعية التي ينال أصحابها شهادات بامتياز مع مرتبة الشرف. ولمست هذا التدني حين اشتركت في مناقشة رسالة جامعية ووجدت المستوى متدنياً فقررت عدم المساهمة في اي مناقشات، واعرف عدداً من الاساتذة الجامعيين اتخذوا القرار ذاته وينأون بأنفسهم عن المشاركة في مناقشة رسائل غير صالحة. هذه القضايا لا بد من ان توضع في سياق عام وهو ازمة الضمير الجامعي الذي بدأت تسوده المجاملة والشللية. واصبحت رسائل كثيرة عبارة عن ابحاث لا تتطلب سوى قص ولصق ونقل من كتب ومراجع، وينحصر جهد الباحثين الذين يعدونها في النقل وعمليات تشبه السرقة". السرقات العلمية والسرقات العلمية لا تقل خطورة عن "تجارة" الشهادات العالية. فكم من راغب في حمل اللقب الوجيه اضطرته رغبته الملحة الى اقتناص كتاب شخص آخر ودفعه الى اللجنة الفاحصة مذيلاً بتوقيعه كأنه انفق عمره في اعداده. والسرقات التي تتعلق برسائل الماجستير والدكتوراه وصلت مراراً الى المحاكم. ووقعت اشهر الحوادث التي تناولت هذا النوع من اللصوصية قبل سنوات حين وُجهت الى استاذ ورئيس جامعة عريقة تهمة السطو على رسالة دكتوراه والنقل عنها او نقلها كاملة. ورفضت المحكمة آنذاك ان تنظر في القضية لعدم الاختصاص، ولكن ما ان انتهت مدة خدمة رئيس الجامعة حتى نُحي من منصبه بعدما رفض المسؤولون التمديد له. وثمة قضية اخرى شهيرة أثيرت في الثمانينات ضد عميد كلية الآداب في جامعة عريقة اتهم بنقل كتاب مترجم عن اللغة الالمانية ونسبه إلى نفسه. وثبتت التهمة عندما دانته المحكمة فتقرر عدم التمديد له في منصبه ايضا. لم ينل "البطل" أي عقوبة قضائية في هاتين الحادثتين الشهيرتين، وان كانت من نصيبه عقوبة معنوية هي عبارة عن غمز ولمز في الاوساط الاكاديمية. ويدخل في نطاق هذه السرقات اكتشافات مفاجئة، اذ عثر بالصدفة في رسائل جامعية على فصول منقولة بالكامل من رسائل جامعية سابقة او أبحاث مسروقة من مجلات علمية. لبنان: تزوير وغش تجد الشهادات "المسروقة" او المباعة في بلد اجنبي طريقها الى لبنان، كما تتوافر هذه الشهادات العالية "السهلة" محلياً. الا ان البضاعة الاكاديمية الاكثر رواجاً هي الشهادات المزورة التي ازداد التداول بها اثناء الحرب الاهلية. ويشار الى كثيرين يحملون الشهادات الثانوية "المغشوشة" المحلية والاجنبية الصادرة في الإتحاد السوفياتي سابقاً وبعض دول أوروبا الشرقية والغربية، وعدد من دول الخليج ومصر والأردن وليبيا... ولكن لا بد من الملاحظة أن ما أصاب الشهادة اللبنانية هو ما أصاب البلاد من دمار وتشويه إبان فترة الحرب، فباتت تجارة الشهادات على غرار تجارة السلاح والمخدرات وتزوير العملات. التقت "الوسط" ثلاثة اساتذة جامعيين طلبوا عدم الافصاح عن اسمائهم، وسألتهم عن آرائهم في "التجارة" المزعومة فأجمعوا على ان: "هناك أساتذة جامعات ومديري مدارس ومسؤولين يحتلون مواقع بارزة في مؤسسات الدولة، ممن يحملون شهادات دكتوراه او ليسانس وماجستير حصلوا عليها اثناء الحرب هكذا من دون تعب مع انها ليست مزوّرة تقنياً وفنياً. ولا يزال هذا الوضع قائماً. اسألوا رئيس الجامعة اللبنانية عن أسماء الأساتذة الجامعيين هؤلاء فلديه المعلومات كلها". وفي اوائل التسعينات افتضح امر شهادات دكتوراه منحتها كلية الحقوق لشخصيات حزبية بارزة وهي تعود الى ملفات طلاب قدامى مما جعلها تصبح شهادات سارية بمجرد تذييلها بتوقيع مدير الكلية وحده، حتى من دون ان يصادق عليها الدكتور المشرف. واحيل صاحب التوقيع المسؤول عن ذلك على التحقيق بلا ضجة ثم عُين مديراً عاماً لإحدى وزارات التعليم اللبنانية! لكن الوزير رفض توقيع قرار التعيين، لأن النقل تم من دون انزال العقوبة المناسبة بالمذنب الذي لم يطل به الامر كثيرا حتى تسلم منصبه الجديد في الوزارة المعنية. وأضاف أحد الاساتذة: "قد لا تكون الشهادة الجامعية مزورة بطريقة اتبعتها عادة شبكات وعصابات من خارج الإدارة كانت لها مكاتب منتشرة في البلاد. لكن هذه الشهادات كانت من ناحية أخرى نماذج لضغوط وإغراءات مادية وغيرها الهدف منها إنجاح طلاب معينين". غير ان لهذه "التجارة" اهدافاً اخرى غير الربح المادي، كما يقول استاذ آخر "هناك شهادات منحها بعض الجامعات الخاصة في لبنان في مقابل منفعة مالية كبيرة من جهة، ولإتخام الجامعة اللبنانية بهؤلاء الخريجين! والجامعات الخاصة المحلية أو الاجنبية ذات السمعة السيئة في هذا المجال لا تحتكر سوق الشهادات العليا وحدها فمع ان " الأنظار كانت تتوجه الى روسيا فقط، فإن فرنسا منحت ايضاً شهادات لطلاب دون المستوى الأكاديمي وذلك بغرض تشجيع الفرانكفونية في لبنان!". ويضاف الى هذه المشكلة في لبنان مسألة اخرى لها آثارها الخطيرة ايضاً. فالجامعة تضطر الى تعيين أساتذة غير مصنفين بضغط من المراجع الحاكمة. وفي العام الماضي كُشف امر واحد من أشهر نماذج التزوير، اذ سألت كلية الآداب والعلوم الانسانية الدوائر المعنية في وزارة التربية عن شهادات مدير مدرسة واثنين من اساتذة التاريخ في الجامعة. ولما جاءها الرد ان "شهاداتهم الثانوية مزوّرة لم يتخذ أي اجراء في حقهم لأنهم محسوبون على أطراف سياسية"، كما قال ل"الوسط" الموظف الذي كُلف النظر في الموضوع. وهو يرى ان هؤلاء ليسوا وحدهم الذين افادوا من براعات المزورين "فهناك من وصل الى الجامعة وتخرج فيها بموجب شهادات هي أصلاً مزوّرة منذ المرحلة الثانوية لم تكتشفها الإدارة. وقد تكون جامعة بيروت العربية هي الوحيدة التي تستقصي عن طلابها، أما الجامعة اللبنانية فلم تباشر هذه الخطوة حتى العام 1990" شبكتان ويذكر الدكتور فريدريك معتوق الذي شغل مركز مدير معهد العلوم الإجتماعية - الجامعة اللبنانية فرع الشمال خلال فترة الثمانينات: "كتبت وزارة التربية والتعليم السعودية تسأل عن صحة شهادات عدد من طلابها القدامى الذين تقدموا بطلبات عمل في بعض مدارس المملكة الرسمية، وأرفقت الرسائل بنسخ عن الشهادات التي تبين لنا أنها مزوّرة فعلاً، وإن كان نموذج الشهادة العام هو نفسه. وأعلمنا النيابة العامة في حينه التي اكتشفت شبكتي تزوير في مخيمي البداوي ونهر البارد الشماليين كانتا تبيعان شهادات طلاب لبنانيين وفلسطينيين في مقابل مبلغ يراوح ما بين ثلاثمئة دولار وألف دولار، مما أدى لاحقاً الى كشف عدد كبير من الشهادات المزوّرة في كليات أخرى أيضاً. وأوضحنا الامر لوزارة التعليم السعودية حينها. كما دفعتنا هذه الحادثة الى التدقيق في شهادات المرحلة الثانوية واكتشفنا أن عدداً من الطلاب المسجلين في السنة الدراسية الأولى - قد يكون في غيرها أيضاً - هم من حاملي الشهادات المزوّرة من المخيمين الآنفين. واستطعنا ضبط المسألة بالتنسيق مع الدائرة التربوية التابعة للوزارة في الشمال، ولمسنا بعدها نضوب الشهادات المزوّرة أثناء التسجيل في الأعوام اللاحقة". وتُصدّر الشهادات المزورة ايضاً الى لبنان من الخارج. ويقول موظف في دائرة المعادلات في وزارة التربية: "اكتشفت أخيراً شهادات مزوّرة من دول عربية! وواحدة من دولة خليجية استبدل فيها إسم الشقيق باسم شقيقته. ويساهم اليوم في عملية التزوير الآت التصوير الملون التي بدأ تسويقها في لبنان منذ بضعة أشهر". ويضيف الموظف: "التنسيق قائم بين الدائرة ومعظم السفارات، خصوصاً الكويتية والأردنية والليبية للتثبت من صحة الشهادة". الا ان ذلك قد لا يكفي لاجتثاث المشكلة من جذورها الممتدة هنا وهناك اذ يقول موظف آخر "الطريقة الوحيدة لضبط شهادات الخارج هو التنسيق مع الجهات المسؤولة التي تزود الدائرة لوائح الناجحين. ولكن كيف يمكن تمييز الوثيقة الاكاديمية المزورة عن غيرها؟ وجدنا الاجابة عن هذا السؤال لدى مصدر مسؤول في وزارة التربية، قال: "معالم الشهادة المزوّرة تضبط بفضل الخبرة الطويلة، اضافة الى التواقيع المزيفة والرقم الذي تحمله. ويساعد حرف الآلة الكاتبة المستعملة في اكتشاف التزوير، فكثيراً ما يقول موظفو دائرة الإمتحانات بقصد السخرية انهم كانوا يعرفون مصدر الوثيقة المزورة سابقاً من حرف الآلة الكاتبة سواء في بيروت او صيدا وجوارها او مخيم عين الحلوة او البرج! عبدالعزيز الدخيل: شراء الشهادات محدود التقت "الوسط" الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الدخيل مدير جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وطرحت عليه بضعة اسئلة عن ظاهرة الشهادات المزيفة. هل تعتقد ان شراء الدرجات العلمية تجارة راجت باطراد بين الطلاب السعوديين، خصوصاً في السنوات الأخيرة؟ - ليس لدي علم عن مدى انتشار هذه الظاهرة في أوساط الشباب السعودي، ولكن احسبها - ان وجدت - محدودة جداً حتى وان تزايدت - كما تقول - اخيراً. ويبدو انها منتشرة في الولاياتالمتحدة نفسها، اذ ان الصحف هناك تشير الى وجود جهات تبيع شهادات اكاديمية بطرق متحايلة. فهي مثلاً تبيع شهادات على انها نماذج للتفكه لكنها تخبر الشاري بطرق ازالة اي اشارات عن هذه الشهادة لتبدو في النهاية وثيقة شرعية. كذلك توجد جهات اخرى تمنح شهادات في مقابل خبرات عملية معينة على اساس ان الخبرة تؤهله للحصول على شهادات من هذا النوع. ألا تشكل هذه "الظاهرة"، التي تنتشر في الغرب ايضاً، خطراً على صدقية الشهادات التي يعود بها من الخارج الطلاب على اختلاف انواعهم؟ - ليست هناك مخاطر في تقديري. اولاً، الجامعات والكليات تتابع عن كثب مسيرة المبتعث الاكاديمية وتحرص المجالس العلمية حتى بعد الحصول على الدكتوراه على تقويم الشهادة والتثبت من التزام الجهة المانحة النظم الاكاديمية المرعية. أضف الى ذلك وجود لجنة في وزارة التعليم العالي مهمتها تقويم هذه الشهادات. ومن جهة اخرى، يجب على الجهات العلمية التيقظ في هذه الامور والتدقيق في الشهادات ومصادرها. فقد اكتشفنا مثلاً شهادة مزيفة ادعى شخص غربي انها صادرة عن احدى الجامعات المرموقة. وما كنا لنكتشفها لولا اننا نصر دائماً على الحصول على نسخة رسمية من السجل الدراسي للمتقدم ترسل من الجامعة المانحة للشهادة نفسها. يقال ان ابناء العالم الثالث وحدهم يشترون الشهادات العلمية من بلدانهم او من اوروبا التي تُنتج هذه الوثائق للآخرين فقط، فما رأيك؟ - لا أوافقكم القول على ان هذه التجارة تقتصر على دول العالم الثالث، او ان نسبتها أعلى في هذا الجزء من العالم. ولكن يبدو اننا اكثر حساسية من غيرنا وأكثر شعوراً بالتهديد من هذه الظاهرة الى حد تخيل اشباح واثارة اتهامات متسرعة، خصوصاً ان الحدود في هذه الامور ليست قاطعة. لكننا في غمرة حماستنا ننسى ذلك ونتجه الى توسيع دائرة المرفوض ليشمل ما هو في مجتمعات اخرى ليس بذي أهمية. وكيف يتم القضاء على تجارة الشهادات العلمية؟ - اعتقد بأن لدينا الوسائل التي تمكننا من الحد من هذه الظاهرة، وقد ذكرت بعضاً منها اعلاه. ويمكن الصحافة بعد التحقق ان تنور المجتمع وتحذره من خلال عرض امثلة لهذه الظاهرة من دون تعسف او تسرع، وهذا كاف لردع من يرتدع وتحجيم هذه التجارة. هل تعتقد بأننا نبالغ في احترام الشهادات الاجنبية، مما يشجع على انتشار هذا الغش ؟ - احتفالنا بالشهادات العلمية والنظر اليها على انها المؤشر الوحيد الى النجاح عامل مهم في دفع قلة الى شرائها. وهذا الاحتفال الزائد بهذه الشهادات رد فعل للنقص الذي كان حاصلاً في التعليم سابقاً. ولكن بما انهم صاروا كثيرين الى حد - حسب قول الاديب الاميركي المشهور أرثر ميللر - انك لو بصقت من النافذة فان البصقة ستقع على احدهم، فان المبالغة باحترام هذه الشهادات واصحابها سيخف الى حد كبير.