غيّر نظام الترابي - البشير قواعد اللعبة في الحياة السياسية السودانية واحكم اغلاق النوافذ امام رياح الانتفاضات السلمية التي ذهبت بنظامي عبود ونميري وأعادت الحكم الى أيدي المدنيين. فمنذ قيام "ثورة الانقاذ" في 30 حزيران يونيو 1989 اخضع الجيش السوداني لعمليات تطهير مستمرة لقطع الطريق على أي محاولة انقلابية يمكن ان يقوم بها عسكريون احتجاجاً على التدهور الاقتصادي او استمرار الحرب المكلفة في الجنوب او العزلة الدولية المتزايدة. وفي موازاة ذلك انشأ النظام جيشه الرديف المتمثل في "قوات الدفاع الشعبي" وهي الميليشيا المنوط بها مساعدة الجيش الموالي للسلطة في حال تعرض سلطته لتهديد من داخله او من الخارج. تواكب ذلك مع شرذمة كاملة للنقابات وتشريد للنقابيين المعارضين للنظام وابقاء الاحزاب تحت سيف التهديد والاستجواب والمطاردة. هل يمكن تغيير نظام من هذا النوع بالوسائل السلمية، اي بغضبة شعبية تشارك فيها الاحزاب والنقابات ويتعاطف معها الجيش او يتفهمها فتنتصر من دون اراقة دماء؟ منذ سنوات يطرح هذا السؤال في اوساط المعارضة السودانية التي يبدو انها يئست من احتمال التغيير بالوسائل السلمية. ولهذا السبب يقول التيجاني الطيب ان الانتفاضة الجديدة يجب ان تكون محمية بالسلاح، مشيراً الى ان هذا الأمر تحول قناعة راسخة لدى الأطراف المنضوية في "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارضة وان اختلفت لدى اطرافه درجة الصراحة في التعبير عنها. ولا يغيب عن اذهان قادة المعارضة ان الانتفاضة المحمية بالسلاح قد تعني الدخول في مواجهات دامية مع الجيش وميليشيات "الجبهة الاسلامية" لكنهم يعتبرون ان النظام يتحمل مسؤولية ذلك كونه الطرف الذي اغلق كل قنوات الحوار والتعبير والتغيير السلمي الهادئ. في السودان لا يمكن فهم ما يجري اليوم من دون الالتفات الى ما حدث البارحة. فالدكتور حسن الترابي شارك في نظام جعفر نميري وفي موقع النائب العام وزير العدل. ونميري لم يجد حلاً لتراجع شعبية نظامه غير الهروب الى "تطبيق الشريعة". والمدنيون الذين اطاحوا نميري تجادلوا بدورهم حول هذه النقاط. في حلقة اليوم يتحدث التيجاني الطيب، عضو سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، عن انتفاضة يعتقد بأنها لن تتأخر كثيراً. ويعود بالذاكرة الى بدايات حكم نميري في 1969 والمواجهة الدامية مع الشيوعيين ومسلسل الاعدامات الذي استهدف عسكريين ومدنيين. وهنا نص الحلقة الثانية: ما هي أهم مظاهر ضعف المعارضة السودانية، ولماذا تبدو عاجزة عن احداث التغيير؟ - أولاً الوحدة الكاملة التي تلغي أي شكوك أو تحفظات ليست موجودة حتى اليوم. نحن في الطريق اليها لكننا لم نصل اليها بعد. نحن قوى سياسية واجتماعية مختلفة جداً، واتخذنا في وقت من الأوقات مواقف عدائية بعضنا ضد بعض. أقل المواقف احتكاكاً هي بين حزب الأمة والحزب الاتحادي الديموقراطي، لكن الحزبين كانا يحاربان الحركة الشعبية لتحرير السودان ويتهمانها بالتعامل مع اسرائيل وبالصليبية وغيرها. وكانت القيادة الشرعية للقوات المسلحة تقود العمل المسلح ضد الحركة الشعبية. وكنا نوصف كحزب بالطابور الخامس وموجة العداء لنا معروفة. ويضم التجمع الوطني المعارضة اليوم الأحزاب والنقابات و"القوات المسلحة" والحركة الشعبية لتحرير السودان بجناحيها المدني والعسكري. ولا يزال يحتاج الى مزيد من الوحدة في عمله. فاذا أردنا مثلاً معلومة من الداخل لا تزال تأتينا عبر مصادر عدة على ان الأفضل هو ان تأتينا من مصدر واحد. ووضع الحزب الشيوعي في الداخل؟ - نحن لا نتكلم على انفسنا كحزب كبير لكننا حزب منظم وموجود في المدن والمواقع المختلفة ومقتنع اقتناعاً كاملاً بضرورة اسقاط هذا النظام عن طريق الانتفاضة الشعبية المحمية بالسلاح. ألا يمكن ان تتسبب الانتفاضة المحمية بالسلاح في اندلاع حرب أهلية خصوصاً ان النظام يملك ميليشيات مسلحة؟ - أولاً لا يمكن اسقاط هذا النظام بالطرق السلمية فقد أقفل كل النوافذ أمام أي تغيير بالوسائل السلمية. لجأ النظام الى أسلوب التطهير المستمر للجيش والشرطة وسائر الأجهزة وتخلص من العناصر التي لا تدين له بولاء كامل. هل هناك اجماع داخل التجمع على استخدام السلاح لاسقاط النظام؟ - نعم، هذا القرار أحد القرارات الأساسية للتجمع. وطبعاً ان التعبير عن الموقف يختلف. الصادق المهدي مثلاً يضعه بالشكل الآتي: "اذا كنتم لا تسمحون للناس بالعمل للتغيير بالوسائل السلمية سيجدون انفسهم مضطرين الى البحث عن وسائل اخرى". ونقطة الضعف الثانية لدى المعارضة؟ هل هي قلة الامكانات؟ - نعم قلة الامكانات، وهناك مسألة تشريد القوة النقابية التي كان يمكن ان تكون طليعة هذا التحرك. اضعفت عملية التشتيت هذه الحلقة والموضوع قيد العلاج الآن. ألا تستفيدون من دعم اقليمي؟ - اريتريا أعلنت صراحة تعاطفها مع الشعب السوداني وتطلعاته واستعدادها لتقديم كل مساعدة. والدول العربية؟ - للأسف الشديد، لم نلمس مساعدة. هناك دول عربية تعارض النظام لكنها لا تقدم مساعدة لاسقاطه. مع العلم ان المصلحة الحقيقية لهذه الدول تكمن في اسقاط هذا النظام. استمرت الحرب طويلاً في جنوب السودان ولم تقدم أي دولة عربية مساعدة باستثناء الكويت التي قدمت مساعدة انسانية إلى الجنوب في عهد ديكتاتورية نميري وعن طريق الدولة السودانية. السعودية قدمت مساعدات ومصر قدمت، لكنها مساعدات انسانية وليست لحل مشكلة الجنوب. دامت الحرب 17 سنة، ثم عادت وتجددت ومضت عليها الآن 12 سنة. تقول الدول العربية انها ضد تقسيم السودان لكن السؤال هو: كيف نحقق الوحدة؟ هناك مجاعة شديدة وأوبئة فتاكة. يأتي دعم من هولندا والدنمارك والسويد وكندا وأميركا واستراليا لكننا لم نتلق مليون دولار من دولة عربية لشراء أدوية. انا اعتبر هذا الأمر فضيحة. انتفاضة 1985 ماذا كان دور الحزب الشيوعي السوداني في الانتفاضة التي اسقطت جعفر نميري في نيسان ابريل 1985؟ - رفض الحزب الشيوعي أي مصالحة مع النظام منذ 1971 ودعا باستمرار الى توحيد المعارضة وقيام جبهة واسعة للديموقراطية وانقاذ الوطن. وهناك دور الحزب في النقابات وبين الطلبة. وعندما احتدمت الأزمة كان الحزب في الصفوف الأمامية وناضل لانجاح الانتفاضة. اين كنت لدى حصول الانتفاضة؟ - كنت أمضي عقوبة بالسجن لمدة عشر سنوات. بعد صدور قرارات الشريعة في 1983 صدر عفو عن كل المسؤولين والسياسيين وادرج اسمي بين السجناء الذين سيطلقون. والحقيقة ان الأمر اقتصر على نقلي من مكان في السجن الى مكان آخر، اي من المكان المخصص للسجناء الى المكان المخصص للمعتقلين. حضرت هناك اعتقال الصادق المهدي ومجموعة من حزب الأمة ومجموعة من الجمهوريين. وحضرنا أيضاً اعدام الشيخ محمود محمد طه في 1985 وتحديداً في 18 كانون الثاني يناير وكان زعيماً لپ"الاخوان الجمهوريين". أعدم في ساحة اسمها "ساحة العدالة" في سجن كوبر. تصور مقدار السخرية! وكان بيننا وبين مكان اعدامه جدار. افرج عنه في 19 كانون الأول ديسمبر 1984 وبعد شهر اعتقل مجدداً وحوكم واعدم. عندما حصلت الانتفاضة حطم المتظاهرون بوابات السجن وافرج عنا. لم يظهر نقد مباشرة، كانت لديه شكوك في استقرار الوضع. متى التقيت نقد للمرة الأولى بعد سقوط نميري؟ - رأيته بعد يومين على رغم استمرار اختفائه. التقينا في الشارع العام واخذته في سيارتي وقمنا بجولة وكان أول لقاء بيننا منذ تشرين الثاني نوفمبر 1980. متى اختفى نقد للمرة الأولى في عهد نميري؟ - اختفينا كلنا في 16 تشرين الثاني نوفمبر 1970 ثم خرجنا قليلاً ثم عدنا الى الاختفاء. انقلاب نميري كيف استقبلتم حركة نميري في 25 ايار مايو 1969؟ - كان الانقلاب مفاجئاً وغير مفاجئ. لم يكن مفاجئاً لقيادة الحزب. كانت هناك متابعة لعمليات التحضير للانقلاب اتاحها وجود شيوعيين وديموقراطيين في "تنظيم الضباط الأحرار" الذي فكر في القيام بانقلاب. نحن أساساً ضد العملية الانقلابية لكن وجود شيوعيين في الجيش يمكن ان يشكل دعماً لحركة جماهيرية ترمي الى التغيير. ناقش "تنظيم الضباط الأحرار" موضوع القيام بانقلاب فعارض الفكرة 7 من أصل 13. والمعارضون السبعة هم من الشيوعيين والديموقراطيين. اعتبر الشيوعيون ان الغالبية رفضت وان الانقلاب لن يحدث، لكن ذلك كان ينم عن عدم فهم للعقلية الانقلابية. الستة الذين أيدوا فكرة الانقلاب استمروا في التحضير، وهم فاروق حمدالله وأبو القاسم هاشم ومأمون عوض أبو زيد وزين العابدين محمد أحمد عبدالقادر وأيد القاسم محمد ابراهيم وجعفر نميري. وفي 24 مايو ايار عقد اجتماع بين العقيد نميري ومحمد ابراهيم نقد والشفيع أحمد الشيخ فعبرا له عن موقف الحزب الشيوعي من موضوع الانقلاب. فوجئ نميري بالحجج التي قدماها أو تظاهر بأنه فوجئ وقال انه لو كان يدري بها لما استمر في التحضير للانقلاب، مشيراً الى ان الوقت ضاق وانه سيحاول الاتصال بالقيادات العسكرية لوقف العملية أو ارجائها. لكن الانقلاب وقع في اليوم التالي وقال نميري انه لم يتمكن من اقناع الذين اتصل بهم. وفي وقت مبكر من صباح 25 مايو بدأت التحركات لتنفيذ الانقلاب، ووجد منظموه ان ليست لديهم القوات الكافية وانه لم يعد في استطاعتهم التراجع لأنهم انكشفوا فاتصلوا بعبدالخالق محجوب. عندها قدمت إليهم المساعدة الممكنة لانجاح الانقلاب. واذيع البيان التقليدي عن الانقلاب مرفقاً ببرنامج حذفت منه أشياء مهمة وضرورية لكنه في النهاية مأخوذ من برنامج "جبهة القوى الاشتراكية" التي كان يشارك فيها بابكر عوض الله الذي أصبح رئيساً للوزراء وعضواً في مجلس قيادة الثورة وتلا البيان بنفسه وهو كان المدني الوحيد. وبابكر حليف للحزب وكانت "جبهة القوى الاشتراكية" سترشحه في الانتخابات لولا حصول الانقلاب. اجتمعت اللجنة المركزية وبحثت في الوضع وأجازت تقريراً يقول ان ما حدث هو انقلاب وليس ثورة، انقلاب قامت به قوى من قوى الجبهة الديموقراطية الوطنية، قوة من البورجوازية الصغيرة في الجيش وكانت نتيجته اطاحة حكم الحلف الرجعي الاتحاد الديموقراطي والأمة والاخوان المسلمين والدستور غير العلماني. واننا نساند هذا النهج شرط ان نحافظ على استقلالنا كحزب وحقنا في انتقاد أي أخطاء يرتكبها النظام. أي اننا لا نقبل مسألة حل الأحزاب ونصر على حقنا في الوجود كحزب مستقل ولا نقبل بالوصاية والتكتيكات الانقلابية. وكان الرأي اننا سندعم البورجوازية الصغيرة اذا ساندت مطالب الشعب، اما اذا اتخذت موقفاً عدائياً من هذه المطالب فإن مصيرها سيكون الفشل. اذاً انتهى التقرير الى تأييد وشروط مع التشديد على استقلال الحزب. في هذا الوقت أعلن الانقلابيون عن مجلس للوزراء يضم أربعة من الشيوعيين جوزف قرنق عضو المكتب السياسي واللجنة المركزية ومحجوب عثمان عضو اللجنة المركزية وفاروق أبو عيسى وموريس سيدرا. أعلنت هذه التركيبة من دون التشاور مع الحزب. وكان رأي عبدالخالق محجوب ان لا نشارك. فالمشاركة بأربعة وزراء لا تتفق مع وزننا في المجتمع فنحن حزب صغير ويجب افساح المجال للعناصر الوطنية من النظام القديم، يضاف الى ذلك انه يكفي تمثيل الحزب بوزير على ان يترك للحزب امر اختياره. الحقيقة ان اللجنة المركزية وافقت على المشاركة بأربعة وزراء فكانت هذه الخطوة في الواقع متعارضة مع تقرير اللجنة الذي شدد على الاستقلال. من هنا بدأ ما سميناه "التحالف الشائه" أي المشوه واستمر هكذا الى ان انتهى. بدأت مناقشة داخل الحزب. حتى استخدام تعبير بورجوازية صغيرة اثار غضباً لدى مجموعة نميري. والتقى هذا الصراع مع صراع قديم في الحزب بدأ بعد ثورة اكتوبر وظهرت ملامح انشقاق بين تيارين: الأول يقول نحن نؤيد هذه السلطة ويمكن ان تكون لنا لذلك نؤيد من دون قيد أو شرط. والثاني يقول نحن في تحالف ولكن علينا ان نحافظ على استقلالنا. استمر التنازع الى ان حصل انقسام كامل في سبتمبر ايلول 1971 خلال مؤتمر عقدناه لمناقشة هذه القضية وأيد بغالبية ساحقة التيار الداعي الى المحافظة على استقلال الحزب. كانت السلطة تريد ان تأخذ كل الشيوعيين ولكن من دون الحزب، أي ان يكونوا في مواقع الاقتصاد والسياسة وحتى في الأمن ولكن من دون الحزب. حصل الانقسام وشارك فيه 40 في المئة من اللجنة المركزية واثنان من اعضاء المكتب السياسي وعدد كبير من الكوادر الحزبية. وكان أبرز رموز هذا التيار أحمد سليمان ومعاوية ابراهيم. انهك الانقسام الحزب واستكمل الانهاك بعمليات الاعدام التي حصلت لاحقاً. وطرحت في تلك الفترة مسائل عدة بينها "الاتحاد الثلاثي" بين مصر وليبيا والسودان وكان لنا موقف منه وكذلك من مسائل التأميم والسياسة الخارجية. كانت السلطة تطرح شعاراتنا ولكن بعد افراغها من جوهرها. كنا نطالب بتأميم المؤسسات الاجنبية والكبيرة كالبنوك وشركات التأمين، لكن السلطة أممت أحياناً بعض الدكاكين كما أممت مؤسسات سودانية وبنكاً سودانياً وشركات زيوت لسودانيين وكنا نعارض ذلك. انقلاب داخل الانقلاب ماذا حدث في 16 تشرين الثاني نوفمبر 1970؟ - انه انقلاب يميني داخل انقلاب 25 مايو. انقلاب كان الغرض منه ضرب التيار اليساري الوطني الديموقراطي داخل القوات المسلحة. مثلاً معروف ان بابكر النور وهاشم العطا من الشيوعيين لكن فاروق حمدالله كان المنظم الأساسي للانقلاب ولم يكن شيوعياً حتى اعدامه. ابعد الثلاثة من مجلس قيادة الثورة ومن الوزارات واعتقل عبدالخالق محجوب وعزالدين علي عامر وبدأت حملة على الشيوعيين بلغت ذروتها في فبراير شباط 1971 في خطاب موجه الى الرأسمالية الوطنية. وقال نميري ان الشيوعيين مجرمون. واعتقل عبدالخالق في ابريل نيسان 1970 وأرسل مع الصادق المهدي في طائرة واحدة الى مصر واعتقلا فيها. غضبنا من عبدالناصر لكنه برر ذلك بالقول انا رأيت ان الجو سيء ولئلا يزداد سوءاً رأيت ان من الأفضل ان يأتي عبدالخالق إلى هنا. كان أحمد سليمان وغيره ينقلون ان عبدالخالق يصف نميري بأنه بليد وانه كان أكثر التلاميذ فشلاً في صفه. المقصود ايغار صدر نميري ضد عبدالخالق. في نوفمبر اعتقل عبدالخالق. وفي ابريل 1971 بدأت عملية اعتقال الشيوعيين في النقابات ووصل عدد المعتقلين الى حدود الپ40. الحقيقة ان عبدالخالق كان بذل أقصى جهده لاقامة علاقة مفيدة مع نميري. وكان يلجأ أحياناً الى بعض الأصدقاء الشخصيين لنميري علهم يؤثرن فيه. في 1971 اجتمعت اللجنة المركزية وقدمت اقتراحاً لحل المشكلة يقضي باطلاق عبدالخالق واعادة الثلاثة المبعدين الى مناصبهم واجراء حوار واسع حول الخلاف. حصلت عملية تصعيد وظهرت ملامح مؤامرة لانهاء حياة عبدالخالق ببطء أو بالتصفية المباشرة عند الضرورة. فاضطر الى الهرب. وبدأ يختمر في صفوف الديموقراطيين والشيوعيين في الجيش موضوع القيام بحركة انقلابية وهذا ما حصل في 19 يوليو تموز. انقلاب هاشم العطا وأيد الحزب الحركة الانقلابية؟ - نعم، أيد الحزب الانقلاب وأصدر بياناً قال فيه: "يذهب الزبد جفاء". ماذا عن عملية الانقلاب نفسها؟ - كنت مختفياً في بيت أسرة. أرسلت صاحبة البيت أحد ابنائها وايقظني وقال تعال شاهد التلفزيون. أسرعت فوجدت صورة هاشم العطا وكان المذيع يقول: انتظروا بياناً مهماً من هاشم العطا. كنت أعرفه معرفة محدودة وهو حزبي وبابكر النور ايضاً. فاروق حمدالله لم يكن شيوعياً. الحزب لم يتخذ قراراً بالقيام بانقلاب. كانت هناك مشاورات وكانت هناك اعتراضات على رغم الشعور بالسرور لاسقاط النظام كانت هناك حالة من الدهشة فاللجنة المركزية لم تتخذ قراراً وهاشم العطا شيوعي. انا لا أستطيع التحرك فقد فرضت حال الطوارئ. بعدها جاءني أناس واصطحبوني الى اجتماع اللجنة المركزية حيث اصدرنا قراراً بدعم الانقلاب وطرحنا شعاراتنا. عقد الاجتماع برئاسة عبدالخالق الذي كان خرج من الاعتقال حوالى منتصف يونيو حزيران. حصل الانقلاب في النهار وتم تأمين كل الأشياء من دون مقاومة تذكر. وهذه أيضاً كانت مسألة مدهشة ولكن رافقها أمر محبط جداً وهو التأخر في اذاعة البيان الرقم واحد. طبعاً لو كان الحزب هو الذي نظم الانقلاب لحضر البيان سلفاً وهذا أمر بسيط. اذيع البيان بعد نحو ست ساعات، الأمر الذي دفع بعض الناس الى التشكيك في قدرة السلطة الجديدة على الاستمرار. وخرجت تظاهرات تأييد. طريق الفشل كيف تتذكر فشل المحاولة الانقلابية؟ - للفشل أسباب عدة. طبعاً الاذاعة البريطانية بدأت بالقول على الفور انه يبدو ان اليساريين والشيوعيين استولوا على السلطة في السودان وهذا بحد ذاته يمكن ان يثير المخاوف وان يكتل قوى عدة. وفي الوقت نفسه بدأت ليبيا حملة مباشرة. ثم ان منفذي الانقلاب لجأوا الى تجريد وحدات من الجيش من اسلحتها فوقفت هذه الوحدات ضد الانقلاب. وهناك اجراءات اخرى لم تنفذ مثل نزع إبر الدبابات أو انها نزعت وأعيدت. وهناك القوات المصرية المدرعة التي كانت موجودة في جبل أولياء الى الجنوب من الخرطوم. وقصة الطائرة التي احتجزتها ليبيا؟ - واضح انه كان هناك تآمر بين الأجهزة الليبية والاستخبارات البريطانية من اجل ارغام الطائرة البريطانية التي سافر فيها فاروق حمدالله وبابكر النور أعضاء مجلس الرئاسة الجديد. وكان يفترض ان يصعد الى الطائرة أيضاً محمد محجوب شقيق عبدالخالق لكن الألمان الشرقيين نصحوه بالا يفعل مشيرين الى ان الوضع غامض. غادرت الطائرة بريطانيا وكان مقرراً ان تصل الى الخرطوم من دون التوقف في أي مطار آخر. اتصل الليبيون بالطائرة أثناء عبورها وأبلغوها وجوب الهبوط في مطار ليبي. حاول الطيار التوجه نحو صقلية أو مالطا بعدما أبلغه فاروق حمدالله وبابكر النور ان الطلب الليبي يضمر مؤامرة ضدهما. هدد الليبيون قائد الطائرة باسقاطها وفي مثل هذه الحال يرجع التقدير الى قائد الطائرة نفسها فهبط في ليبيا. واعتقلت السلطات الليبية فاروق وبابكر وسلمتهما إلى نميري فأعدمهما فوراً. مسلسل الاعدامات اما قصة اعتقال نميري فهي واحدة من أسباب حقده على الشيوعيين حتى الآن. عندما وقع الانقلاب كان في بيت نميري مجموعة من الضباط: أبو القاسم هاشم ومأمون عوض أبو زيد وغيرهم. دخل ملازم أول وأبلغهم قرار اعتقالهم فاستمهلوه كي يلبسوا فرفض وكان نميري حافياً واقتادوه بهذه الحال. اخذوهم الى القصر الجمهوري قرب النيل وعوملوا معاملة جيدة. استمر الانقلاب نحو 72 ساعة وانتهى بعدما أفادت وحدات مدرعة من حال الاسترخاء. كانت هناك حالة من عدم اليقظة ومن مؤشراتها اعلان اسماء أعضاء مجلس قيادة الثورة والاعلان ان بابكر النور وفاروق حمدالله هما رئيس المجلس ونائبه في انقلاب نميري أعلن اسمه وحده ثم عرفت بقية الأسماء لاحقاً. تمت عمليات الاعدام على مراحل ولكن من الخميس الى الجمعة صباحاً كان هاشم العطا وأعضاء مجلس قيادة الثورة الموجودون اعدموا، ثم أعدم فاروق حمدالله وبابكر النور. اعتقل عبدالخالق والشفيع وجوزف قرنق. ورفض الشفيع ان يختفي، وكان عضو سكرتيرية اللجنة المركزية مع عبدالخالق وسليمان حامد الذي هو مختف الآن. أعدم الشفيع في ما سميناه نحن أسبوع الآلام اذ أعدم الثلاثة فيه، أي الشفيع وقرنق وعبدالخالق. ماذا فعلت أنت ونقد؟ - تفرقنا أيدي سبأ. انا كنت مع الرفيق المرحوم الجزولي سعيد ولازم أحدنا الآخر نحو عشر سنوات من الاختفاء. اختفينا في الخرطوم. والحقيقة انني حين اعتقلت تصور رجال الأمن انهم يعتقلون شخصاً عادياً ولم يعرفوا هويتي. اخذوني الى مقر الأمن ولم يتعرفوا إلي الا بعد 28 ساعة. كنت مختفياً تحت اسم طه أبو زيد محمود. والحقيقة انني كنت شبه مختف في الحي الذي أقمت فيه. لم أختر صفة مدرس لئلا يأتي الأهل لاستشارتي. قلت انني أعمل في المجلس القومي للبحوث لأن هذا المجلس لا يهتم أحد به. وحتى حين اعتقلت اعتبرني رجال الأمن موظفاً في المجلس القومي للبحوث. بعد 28 ساعة جاء نائب رئيس جهاز أمن الدولة وهو يعرفني فكان لا بد ان أقول اسمي الحقيقي. اعتقلت في 10 نوفمبر 1980 وحكم علي بالسجن 10 سنوات. لم نتعرض لتعذيب في سجن كوبر. فور اعتقالي وصل النبأ إلى الحزب والأصدقاء في الخارج. نقد اختفى منذ ابريل 1971 وظل مختفياً. وبقيت معتقلاً حتى سقوط نميري. وهل صحيح انه كان يلتقي زوجته خلال اختفائه؟ - نعم. يتم تدبير موعد وتأمين الطريق ويحصل اللقاء. ماذا كنت تفعل في السجن؟ - نحن لدينا شعار تحويل السجن الى جامعة. كنا نقرأ ونناقش. من لا يجيد القراءة نعلمه. الطالب الذي يتعين عليه تقديم امتحان نعثر له على من يساعده في الفلسفة أو اللغات أو غيرها. وهناك وقت للترفيه وكتابة مسرحيات وتلحين أناشيد. هل كانت ضربة 1971 قاتلة للحزب؟ - لا أقول قاتلة بل شديدة. كانت الخسائر كبيرة. عبدالخالق والشفيع وجوزف قرنق، فضلاً عن العسكريين الشيوعيين. بابكر النور عضو في الحزب منذ 1949. ألم يتدخل السوفيات لدى نميري؟ - لا أعرف بالضبط ماذا حدث، لكنهم في الصراع الذي كان قائماً في الحزب ضد نميري وقفوا الى جانب نميري، أي مع الجناح الآخر في الحزب واعتبروا اننا نتبع تكتيكات ناشفة ويابسة. هل لعب السادات دوراً ما؟ - قال انه حاول انقاذ الشفيع لكن نميري اجابه: "لقد أعدمناه". طبعاً لم يتدخل لمصلحة عبدالخالق باستثناء السوفيات والدول الاشتراكية، لكن نميري لم يقبل. هناك من ماتوا في السجن بفعل المرض والاهمال. نميري يهين محجوب كم تقدر خسائر الشيوعيين في 1971؟ - لم تحصل مجزرة بمعنى شامل، أي مطاردة كل شيوعي وقتله. اعتقلوا قياديين واجروا لهم محاكمات صورية وأعدموهم. نميري طلب احضار عبدالخالق المقيد وراح يستجوبه واستخدم أسلوب التشفي ووجه اليه عبارات سيئة ومهينة. سأله: ماذا قدمت إلى الشعب السوداني؟ فأجاب عبدالخالق: قدمت الوعي ما استطعت. شتم نميري ورفاقه عبدالخالق. المدنيون أعدموا شنقاً. العسكريون أعدموا بوحشية رهيبة. هاشم العطا طلب منه السير في اتجاه مكان الاعدام واطلقوا عليه الرصاص من الخلف. حتى في اعدام العسكريين هناك تقاليد لم يتقيدوا بها. افرغوا في جسد هاشم نحو صندوق من الذخائر. فاروق حمدالله وبابكر النور اضطرا الى السير الى الوراء لئلا تطلق النار في ظهريهما وكانا يهتفان: "عاش الشعب السوداني". كل الذين أعدموا كانوا يرددون هذا الهتاف. العسكريون الذين كانوا مع نميري كانوا يقولون: "سنذهب لنعزف الآن" أي لاعدام شخص كأن غزارة الرصاص تشبه الموسيقى في نظرهم! ولم تقبلوا أي مصالحة مع نميري؟ - أصدر نميري عفواً عن المختفين وبينهم نقد وأنا والجزولي السعيد وغيرهم. والواقع انه أطلق في 1977 كل المعتقلين باستثناء الشيوعيين. نحن قلنا اذا كان هناك من اجراء افرجوا عن المعتقلين أولاً وقلنا كيف تحاور شخصاً يمكن ان يعتقلك في أي لحظة! هل شاركتم في العملية العسكرية التي حصلت من الخارج في 1976؟ - لم نشارك ولم نخطر بها. العملية نفذتها "الجبهة الوطنية" التي كانت تضم الحزب الاتحادي الديموقراطي وحزب الأمة و"الاخوان المسلمين". والحقيقة ان العملية تدل على قوة السودانيين وشجاعتهم واصالتهم. تصور ان المشاركين في العملية خرجوا من السودان الى اثيوبيا سيراً على الأقدام. ثم طلب منهم المجيء الى ليبيا لتلقي التدريبات. ثم دخلوا السودان بعدما تدربوا على كل الأسلحة. أخذ كل واحد سلاحه ودخل به السودان سيراً على الأقدام وأخفى سلاحه على مدى شهور وحافظ على السر. وفي 1977 حصلت المصالحة وصدر العفو عنا وقلنا يومها ان هذه المصالحة ستطيل عمر النظام. في 1970 وقعت أحداث الجزيرة ابا بين الجيش وأبناء طائفة الأنصار، ماذا تعرف عنها؟ - هذه المسألة يجب ان يدقق فيها المؤرخون. من ناحية كانت تعبيراً عن الاستعداد لمقاومة النظام واطاحته. كانت أبا بؤرة للمقاومة المسلحة. أصيب النظام بذعر شديد وأخمدها بالكثير من العنف والمبالغات والديماغوجية. أما حجم الخسائر فيحتاج الى تدقيق في الوقائع. طبعاً نحن نعتبر سقوط قتيلين حدثاً كبيراً لكن المؤكد ان العدد كبير ولا سوابق من هذا النوع في السودان. الموعد الغريب في 1971 أعدم عبدالخالق محجوب فمن تولى قيادة الحزب؟ - اجتمعت اللجنة المركزية على مرحلتين وانتخبت محمد ابراهيم نقد الذي كان دخل السكرتيريا قبل قليل من حدوث الانقلاب؟ بين نقد ونميري علاقة غريبة ما قصتها؟ - كانا زميلين في صف واحد في مدرسة واحدة. وكانت بينهما صداقة. وربما لهذا السبب اختار التحدث الى نقد والشفيع قبل يوم واحد من الانقلاب. وهناك قصة ملفتة في هذا المجال: في 1971 خلال الاختفاء نظم ابناء المدرسة التي كان نقد ونميري يتعلمان فيها احتفالاً بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها في مدني، على بعد 170 كيلومتراً من الخرطوم. وأصر اصدقاء مشتركون من الدفعة نفسها على ان يحضر نقد وتحدثوا بذلك الى نميري الذي قال لهم اذا كنتم تعرفون كيف تصلون اليه وتجيئون به لحضور الاحتفال لا مانع عندي. أقيم الاحتفال ووصل نقد ثم خرج وعاد الى الاختفاء. كان نميري وعد بعدم المس به خلال الاحتفال. ويصعب على السوداني التنكر لتعهد من هذا النوع. وثمة من يقول ان نميري كان يسأل بين فترة واخرى عن أحوال نقد ويرفق سؤاله بشتيمة. طبعاً قبل 16 نوفمبر 1970 كانا يلتقيان حتى على الصعيد الشخصي. هل التقيت نميري بعد سقوطه؟ - لا. لمحته في حفلة سودانية في مصر قبل فترة قصيرة لكنني لم أصافحه أو أكلمه اذ بيننا نهر من الدم. من الناحية التاريخية أعتبر انه شخص انتهى ولكن على الصعيد الشخصي أعتبر انه ارتكب جرائم من دون مبرر. مثلاً فاروق حمد الله وبابكر النور لا يمكن اعدامهما استناداً الى أي قانون فقد كانا في لندن لحظة وقوع الانقلاب. عبدالخالق والشفيع ليس هناك قانونياً ما يبرر حتى الحكم بالسجن عليهما. تقصد ان عبدالخالق لم يكن على علم بانقلاب هاشم العطا؟ - وكان على علم بانقلاب نميري. ثم ان نميري عين جوزف قرنق وزيراً بعد انقلابه. هل لجون قرنق علاقة بالحزب الشيوعي؟ - لا. ليست له علاقة تنظيمية وليس شيوعياً لكنه حليف وصديق على المستويين الشخصي والعام الحلقة الثالثة الاسبوع المقبل