ماذا بعد تنحية الجنرال الكسندر ليبيد من جميع مناصبه؟ كيف سيكون الوضع في روسيا بعد عزل الجنرال الذي كان بالأمس الحليف الرئيسي لبوريس يلتسين في الانتخابات الرئاسية؟ هذان السؤالان يشكلان محور مناقشات حادة في الأوساط السياسية في موسكو في الفترة الحالية. والمدهش ان المرسوم الذي اصدره يلتسين باقالة الجنرال ليبيد من منصب الامين العام لمجلس الأمن القومي في روسيا ومستشار رئيس الجمهورية لشؤون الأمن عُرض على الملأ قبل توقيعه، فقد وقعه الرئيس الروسي على مرأى من عشرات الملايين من مشاهدي التلفزيون، بعد كلمة مقتضبة عن الموضوع نفسه. وكان يلتسين منفعلا، ولم يجد مبرراً لاخفاء انفعاله. وقال مصدر مقرب الى حاشية الرئيس الروسي ل "الوسط" ان اكثر ما أثار غضب يلتسين تحالف ليبيد مع الجنرال ألكسندر كورجاكوف الذي كان طوال 11 عاماً مرافقاً شخصياً ومديراً لأمن الرئيس الروسي، بل كان ساعده الايمن، وهو على علم بكل اسرار الكرملين. ويعرف كيف ارتقى كل موظف هناك سلم المناصب، وهل دخل من الباب العريض ام من الباب الخلفي. كان كورجاكوف قد أقيل عن منصبه في أعقاب الانتخابات الرئاسية قبل شهور، واتهمه خصومه، ومنهم أناتولي تشوبايس مدير ديوان رئاسة الجمهورية، بمحاولة افشال تلك الانتخابات. وهم يقولون انه لم يكن واثقاً من فوز يلتسين بالطرق الديموقراطية، ولذا كان يرى وجوب الاحتفاظ بالسلطة بالقوة. أما الآن فقد خرج كورجاكوف عن صمته وقال ان كل ما كان يريده آنذاك تأجيل الانتخابات بضعة أشهر، لأنه كان قلقاً على صحة يلتسين. وكان واثقاً انه لن يتحمل اعباء الحملات الانتخابية. وهو يعتقد ان ثمة أوساطاً قادت رئيس الجمهورية الى هذه الحالة لتستأثر بالحكم على سبيل الوصاية. وكان ثمة اتفاق تام اثناء الحملة الانتخابية بين تشوبايس وتاتيانا ابنة يلتسين، اذ اضطلع تشوبايس بمهمة المشرف الفعلي على الحملة، وهو الآن يدير كل شؤون رئيس الجمهورية. أطلق كورجاكوف لسانه بعد حملة التشهير التي تعرض لها، اذ اتهمه بوريس فيودوروف مدير صندوق الرياضة الوطني الروسي الذي تعرض لمحاولة اغتيال بأنه اختلس 40 مليون دولار. ورداً على ذلك انتقل المدير السابق لأمن رئيس الجمهورية الى الهجوم هو الآخر، بفتح أحد ملفاته السرية. ففي مؤتمر صحافي ذكر ان رجل الاعمال الروسي المعروف بيريزوفسكي رجاه ان يتولى تصفية منافسه رجل الاعمال فلاديمير غوسينسكي جسدياً. أما الآن فان الرجلين معاً كلفا القتلة المأجورين بتصفيته هو. وحذر كورجاكوف من انه اذا حدث ذلك فسيكون اغتيالاً سياسياً، وعندها سيكشف انصاره النقاب عن الوثائق التشهيرية الفاضحة التي اخذها كورجاكوف عندما غادر الكرملين بعد عزله. "الفيلق الروسي" وكانت تلك مفاجأة سياسية مثيرة. واعقبتها مفاجأة اخرى، فقد ظهر ليبيد بصحبة كورجاكوف في مدينة تولا. وكانت هذه المدينة قد انتخبت ليبيد نائباً عنها في البرلمان الروسي. اما الآن فالجنرال ليبيد يقدم الجنرال كورجاكوف للناخبين بصفته وريثاً له في المقعد البرلماني الذي أخلاه بموجب القانون عندما عينه يلتسين اميناً عاماً لمجلس الأمن القومي. وهذا التحالف بين الجنرالين هو الذي أثار حفيظة رئيس الجمهورية المريض. اذ اعتبره فاتحة حملة انتخابية رئاسية جديدة موجهة ضده شخصياً. ومن دوافع رد الفعل المواد التشهيرية التي اعدت ضد ليبيد. فقد عمد وزير الداخلية أناتولي كوليكوف الى اعلان مؤامرة زعم ان ليبيد دبرها تمهيداً لتمرد. واتهم الوزير الجنرال "بالتعطش المهووس والمحموم للسلطة". وأعلن ان الجنرال ليبيد يسعى الى تشكيل قوات للمهمات الخاصة باسم "الفيلق الروسي" على غرار "الفيلق الفرنسي". واستند هذا الاتهام الى وثيقة صريحة تضمنت اقتراحاً بتشكيل القوات المذكورة. وكانت أمانة مجلس الأمن القومي احالت تلك المقترحات الى وزيري الداخلية والدفاع لمناقشتها في نهاية آب اغسطس الماضي. وأعلن وزير الداخلية كوليكوف ان هذه الوثيقة تنص على "كشف الزعماء السياسيين والعسكريين للحركات الانفصالية والارهابية والمتطرفة وغيرها من المنظمات التي يشكل نشاطها خطراً على الأمن القومي ليعالجوا نفسياً أو لعزلهم أو تجنيدهم أو التشهير بهم أو تصفيتهم جسدياً". وأكد كوليكوف في حديث تلفزيوني ان هذه الفكرة تثير قلقاً شديداً، لانها يمكن ان تشمل زعيم أي كتلة روسية. كما ان الانفصاليين الشيشانيين خصوصاً، حسبما ذكر وزير الداخلية كوليكوف، فرزوا 1500 مقاتل لدعم الجنرال ليبيد. وأيد رئيس الوزراء فيكتور تشيرنوميردين الاتهامات الموجهة الى ليبيد، ما عدا تهمة تدبير المؤامرة المذكورة. لكن رئيس الوزراء أضاف من جانبه نقطة أخرى، اذ قال: "ان ليبيد يعاني من عقدة البونابرتية العصامية"! بهذه الصورة مُهد لعزل ليبيد، حتى ان يلتسين لم ير ضرورة لسماع ايضاحات الجنرال مع ان الاخير طلب مقابلته. واتخذت تدابير وقائية، منها وضع قوات وزارة الداخلية ودوائر الأمن الفيديرالية في حال تأهب. وبدأ تقليص قوات الانزال الجوي وتطهير قياداتها. ويعزى السبب الى ان ليبيد كان في فترة ما قائداً لفرقة الانزال في مدينة تولا التي زحفت مرتين - في 1991 و1993 - الى موسكو لتعزيز النظام اثناء الازمات. وتخشى السلطات الآن احتمال ظهور الفرقة المذكورة في موسكو للمرة الثالثة، استجابة لدعوة ليبيد هذه المرة. الا ان الجنرال تقبل اقالته باعتبارها أمراً لا مفر منه، ودعا انصاره الى ضبط النفس. وأعلن انه سيسعى الى السلطة بالطرق الديموقراطية فحسب. واستتب الوضع موقتاً، اذ عين ايفان ريبكين أميناً عاماً لمجلس الأمن القومي. وكان ريبكين رئيساً لمجلس النواب في دورة انعقاده الماضية، وخسر منصبه في دورة الانعقاد الحالية بعد انتخاب غينادي سيليزنيوف وهو أحد زعماء الحزب الشيوعي الروسي رئيساً للبرلمان. وكان الاخير رئيساً لتحرير "برافدا". وينتمي ريبكين الى تلك النخبة الشيوعية نفسها، لكنه يرأس حالياً الحزب الاشتراكي الروسي، ويتهمه الشيوعيون بالانتهازية والتوفيقية. وخلافاً للجنرال ليبيد فان ريبكين يتوقع ان يتصرف كأي موظف عادي، كما ينتظر ان يتضاءل دور مجلس الأمن القومي بالمقارنة مع جهاز رئاسة الجمهورية أو جهاز الحكومة. وأبلغ "الوسط" متحدث رسمي بأنه تقرر اجراء العملية الجراحية على قلب الرئيس يلتسين في منتصف تشرين الثاني نوفمبر. ولذا سعت الفئة الحاكمة العليا، على حد تعبيره، الى عزل أو شل تأثيرات عامل سلطوي قوي هو الجنرال ليبيد الذي يصعب التكهن بتصرفاته. علماً بأن عزله يرضي الجميع، اليمين واليسار، الادارة الحكومية والمعارضة على حد سواء. فان اخراج المنافس الرئيسي من اللعبة يروق لرئيس الوزراء تشيرنوميردين، ولرئيس ديوان الرئاسة تشوبايس، ولزعيم الحزب الشيوعي غينادي زيوغانوف. اذ ان تشيرنوميردين يأمل في خلافة يلتسين. وعلى كل ستنتقل اليه صلاحيات الرئيس اثناء العملية الجراحية. فيما يأمل تشوبايس بالحفاظ على دور الوصاية على رئيس الجمهورية المريض الذي قد تطول فترة نقاهته. اما زيوغانوف فيعتقد ان ليبيد سلب منه فوزه في الانتخابات الرئاسية الماضية عندما ناشد انصاره التصويت لمصلحة يلتسين في الجولة الثانية. ويتصور زيوغانوف انه لن يواجه بعد عزل ليبيد خصوماً يخشى بأسهم في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وثمة رأي يقول ان يلتسين عندما عزل ليبيد اثبت للملأ انه هو الآمر الناهي، وانه يحكم قبضته على الدولة. ولكن بغياب ليبيد يتهاوى الهيكل الذي شيده يلتسين للاحتفاظ بالسلطة كاملة. تتهاوى منظومة الكوابح التي يقيد بعضها بعضاً. كان ليبيد يقيد تشوبايس، فيما يقيد هذا الاخير الجنرال ليبيد. وكلاهما كانا يقيدان احتمال صعود تشيرنوميردين ويحدان من طموحات يوري لوجكوف أمين بلدية موسكو. قنبلة موقوته اما الآن فان فريق رئيس الجمهورية "تحت قبضة واحدة" على حد تعبير يلتسين. ولكن قبضة من؟ هجوم وزير الداخلية على الأمين العام السابق لمجلس الأمن القومي موجه من قبل تشوبايس. لكن الاخير لا يتمتع بشعبية في روسيا لانه المبادر الى تنظيم حملة التخصيص غير المحبوبة. ولن يسفر وجوده قرب رئيس الجمهورية عن زيادة شعبية يلتسين نفسه. كما ان انتقال الجنرال ليبيد الى صف المعارضة يخلق مشاكل خطيرة، فهو قنبلة موقوتة. اذ انه لم يكن موظفاً بسيطاً يمكن فصله أو تسريحه من دون رادع. ففي الانتخابات الرئاسية صوت لمصلحته 11 مليون مواطن. وعندما سلم أصوات ناخبيه الى يلتسين، كان يأمل بأن يكون نداً له في ادارة البلاد. وكان يأمل في ذلك ايضاً الذين أيدوا تحالف الرجلين. لقد انخدع ليبيد وانخدع معه الملايين من انصاره. وقد اتسعت شهرة الجنرال بعد اقالته. وهو الآن يتمتع بأكبر قدر من الشعبية بين السياسيين، اذ يفيد استطلاع للرأي ان شعبيته تزيد على 50 في المئة. ولو جرت في روسيا انتخابات رئاسية مبكرة فان فرص ليبيد في الفوز ستكون أكبر، اذ يؤيده حالياً كثيرون من انصار الزعيم الشيوعي زيوغانوف وانصار الزعيم القومي فلاديمير جيرينوفسكي الذين خابت آمالهم في زعيميهم. اما اذا كانت الانتخابات ستجرى في عام 2000 كما هو مقرر لها فان مصير ليبيد السياسي يبقى محاطاً بالغموض. ولا يدري أحد هل سيتمكن من الفوز بالرئاسة في ذلك العام؟ وبتنحية ليبيد يمكن ان تتأزم مشكلة اخرى هي تسوية أزمة الشيشان. اذ ان الصلح الذي تحقق يرتبط لدرجة كبيرة بدوره الشخصي المستند الى الثقة التي نشأت بينه وبين الزعماء الانفصاليين الشيشانيين. ويعتبر وزير الداخلية أناتولي كوليكوف الاتفاقيات التي وقعها ليبيد خيانة لمصالح الوطن. وهو ليس رأي وزير الداخلية وحده، لأن أول ما أقدم عليه ريبكين الامين العام الجديد لمجلس الأمن القومي الروسي تأكيده مواصلة عملية السلام. هل يصدق الشيشان هذه التأكيدات؟ وكيف سيتم تحقيقها؟ في اليوم التالي لاقالته ذهب الجنرال ليبيد الى المسرح ليشاهد مسرحية "وفاة ايفان الرهيب". وأمام باب المسرح قال الجنرال لحشد حياه: سأتعلم كيف أحكم الدولة كما يلزم. ومعروف ان القيصر ايفان الرهيب حكم الدولة الروسية بمنتهى القسوة