كان من حسن حظ الموسيقى المغاربية أن وجدت في بداية القرن رجالاً من ذوي البصائر ينظرون إلى ابعد من واقع يومهم، ويعون أن الانعتاق من التبعية للاجنبي يفترض استرداد الذات وتحقيق شروط نهضة روحية من عناصرها الفن والأدب. ولعل ذلك ما حدا بمحمد السريتي، المحامي الشرعي في الحاضرة، أن يأخذ ابنه علي سنة 1925، وهو لم يتجاوز سنواته السبع، إلى الفنان وصانع العود الشهير عبدالعزيز الجميّل ليلقنه أسس الموسيقى والغناء. وكانت تلك بداية مسار باهر سيجعل من ذلك الطفل، موسيقياً قديراً وعازف عود عبقرياً وصانع آلات موسيقية من مستوى ممتاز. كان محمد السريتي من عشاق "المغنى" بتعبير ذلك الوقت، وكان كثير الجلوس مع ثلة من الاصدقاء إلى الشيخ الجميّل في مشغله في نهج سيدي مفرّج قرب بطحاء رمضان باي. وبدأ الطفل تأهيله الموسيقي أمام ناظري والده متدرباً على عود صنع خصيصاً له، وكان أول ما عزف أحد بشارف طاطيوس أفندي. وبعد سنتين بدأ الشيخ الجميّل يعلّمه العزف على الكمنجة. وسرعان ما اكتشف السريتي في نفسه انجذاباً لا يقاوم إلى كل ما في مقصورة الشيخ من أدوار وقصائد ومعزوفات على لسان جلسائه من التونسيين أو المصريين أمثال زكي مراد وابراهيم العريان وعبده صالح، وخصوصاً أحمد فاروز وهو عازف عود مبدع، وراوية للتراث لا يضارع، وكان له تأثير هام في الانبعاث الموسيقي في البلد المضيف، حيث تتلمذ عليه خلال اقامته الطويلة فنّانون من أمثال محمد التريكي ومحمد العقربي وحمادي الأخوة وجمال الدين بوسنينة. وكان وضع الموسيقى في ذلك العهد تسوده الفوضى، ويميّزه التنافر بين تقاليد موسيقية مختلفة كالمالوف الذي لم ينج رغم عراقته من التبعثر واضطراب الروايات الاستهلاكية السقيمة في ألحانها، السوقية في مضامينها. غير أن بشائر تطور جذري كانت تتراءى في هذا المجال، بفضل تنامي الوعي بالهوية الذي يطرح المشكلة الموسيقية كقضية ثقافية وطنية. وكانت النتيجة المباشرة لذلك تأسيس جمعية "الرشيدية" للموسيقى العربية سنة 1934. وما من شك في أن مجلس المرحوم عبدالعزيز الجميّل كان أحد روافد ذلك الوعي بفضل استقطابه التقاليد الواردة من الشرق العربي، التي اسهمت اسهاماً كبيراً في صياغة الشخصية الموسيقية الحديثة للموسيقى التونسية فربطتها بالموسيقى الشرقية بل وبالعائلة الموسيقىة العربية الاسلامية. وهكذا نشأت ذائقة علي السريتي وسط مناخات متنوعة ومتكاملة من مالوف محلّي إلى تواشيح وقصائد وادوار عربية، مروراً بسماعيات ولونغات تركية طبعت إلى اليوم شخصيته كعازف وملحّن ومربّ، بالتنوّع والانفتاح. وواكب الفنّان، على امتداد أكثر من ستين سنة، حركة انبعاث الموسيقى في بلاده، كما اطّلع على أدقّ تفاصيلها. إذ ادرك في طفولته وشبابه الاول مشاهير العازفين آنذاك، كالعوادين الشيخ محمد الدردغان ومحمد غانم، والكمنجاتي خيلو الصغير، وعازف البيانو مسعود حبيب، ومغنين كبار كالشيخ العفريت وحبيبة مسيكة وخميس ترنان وفضيلة ختمي. وواجه علي السريتي الجمهور لأول مرة في سن الحادية عشرة عندما غنى وعزف قصيدة شوقي "يا شراعاً وراء دجلة يجري" من ألحان عبدالوهاب، وذلك في فترات الاستراحة بين فصول مسرحية "العباسة أخت الرشيد". وعمل في فرقة محمد التريكي منذ العام 1936 في "مقهى بغداد" إلى جانب العازفين ابراهيم صالح والطاهر بدرة وأحمد الساحلي والمطرب الفلسطيني الشيخ يوسف محمود والمغنية فتحية خيري والراقصة فليفلة الشامية. وكان التحق في العام 1935 ب "الرشيدية" بطلب من شيخ المدينة فرناند ديبا قائد الاوركسترا السمفونية للمدينة، ثم غادرها في العام 1937 ليتابع دروس الفنان والأستاذ الكبير علي الدرويش الحلبي في "الجمعية الخلدونية"، فأخذ عنه الموشحات والأدوار والمعزوفات العربية والتركية. وفي العام 1937 اتيحت لعلي السريتي فرصة السفر إلى فرنسا، للمشاركة في الحفلات التي تقام في "المركز الاسلامي" التابع لجامع باريس ضمن تخت مكوّن من عازفين أتراك. وانطلاقاً من ذلك التاريخ كان يقيم معظم وقته في باريس يشارك في حياتها الفنية ويلتقي فنانين من المغرب العربي والمشرق على السواء. وخلال الحرب العالمية الثانية، عاد إلى بلاده مضطرّاً، فأسس فرقة "شباب الفن". واشتغل في هذه الفترة جنباً إلى جنب مع فنانين مثل قدّور الصرارفي وابراهيم صالح وصالح المهدي. وكُلّف علي السريتي لدى عودته في العام 1957، بمهمة بعث ثلاث فرق جديدة تابعة للاذاعة الوطنية وكانت تلك فرصة لربط الصلة مجدداً بواقع الموسيقى المحليّة، والعمل على تنمية هياكلها. ومكث لسنوات في دار الاذاعة كأحد المسؤولين عن القطاع الموسيقي، إضافة إلى تدريسه في المعهد الوطني للموسيقى. وفي بداية الثمانينات ترك الاذاعة ليتفرّغ للنشاط الفني والتربوي، ضمن المجالس الموسيقية التي لا يزال يعقدها في بيته، وفي حلقات تعليم الآلات الموسيقية كالعود والكمنجة والقانون التي يشرف عليها لتأهيل عازفين من أعمار مختلفة. ولا شك في أن جهده التربوي المتواصل رفد الحياة الموسيقية بعناصر لامعة على مستوى الهواية والاحتراف، بل ان مجالسه أصبحت مؤسسة قائمة بذاتها تتناقل الاجيال في اطارها تراث الموسيقى العربية بمستوى فني وتربوي مرموق قلما تضاهيه المؤسسات التعليمية الرسمية. ومنذ خمس سنوات يواصل علي السريتي تدريس العود في "المعهد الأعلى للموسيقى" في بلاده. والجدير بالذكر أن طريقة علي السريتي في تعليم العزف على العود تستند إلى فكرة بسيطة، هي الجمع بين مستوى الاداء الحرفي بدفع التلميذ إلى التعبير ضمن التخت، وبين الحفاظ على روح الهواية المتطلعة أبداً إلى الاكتشاف والاستمرار في طلب المعرفة الموسيقية في كلّ سنّ، وأيّاً كانت المشاغل الأخرى. وهذه القيم ميّزت مسار السريتي نفسه، فهو كان ولا يزال المريد العاكف على طلب المعرفة، والعازف المتوقد ابداعاً والمعبّر عن ذاته بروح شاب في مقتبل العمر، والمربّي ذا الصدر الرحب الذي يبهر تلاميذه بصبره واخلاصه في التوجيه والنصح والرعاية. إن أسلوب علي السريتي في العزف على العود ينتمي إلى التقاليد الشرقية العربية ويغلب عليه التأثر بطرب الشيوخ المصريين، على الرغم من احتكاكه بأساليب عزف متعددة في المغرب العربي أو في الشرق الاوسط، وعلى الرغم من طول ممارسته الفنية إلى جانب موسيقيين أتراك. إنه فنّ يتّسم بالتوازن والوضوح ويوظف التقنية الفائقة والدقيقة باتزان في خدمة تعبير هادئ مرهف. تتلمذ على يد علي السريتي فنّانون معروفون في عالم العزف والغناء، أمثال أنور ابراهم ومحمد الماجري ومحمد زين العابدين ونور الدين الباجي ولطفي بوشناق. أخذ هؤلاء وغيرهم عن المعلّم أصول الطرب العربي الأصيل. والتفّ بعضهم حوله من جديد في حفلة "عودة الطرب" الذي نظّمه "مركز الموسيقى العربية والمتوسطية" في سلسلة من واحد وثلاثين عرضاً بين شتاء 1993 وربيع 1994. برنامج "عودة الطرب" الذي تألّق خلاله نجم علي السريتي شاركه في العزف والغناء عدد من الفنّانين البارزين، من أنور ابراهم إلى سنيا مبارك...، تجلّى في لحظات نادرة من الصفاء الفنّي والطرب الأصيل. وهذه الحفلة تشكّل مادة الأسطوانتين الرقميّتين لايزر الصادرتين قبل أيّام، بالتعاون مع مندوبية المجموعة الفرنسية في بلجيكا، وتتضمّنان تسجيلاً حياً للاجواء التي سادت رحاب قصر "النجمة الزهراء" في سيدي أبي سعيد. كما تجيئان بمثابة تكريم واعتراف بالجميل لرجل لولاه لما كان للموسيقى المغاربية الوجه الذي نعرفه اليوم.