في برية اللون، عدلي رزق الله وحده يصرخ. ومع مرور الزمن، سرعان ما تلتف حوله القصائد، ويجيء من اقصى النهر نفر من الشعراء. فتحت عنوان "مائيات نحتية" انتظمت اللوحات، والتف بعضها مع انحناءات الممرات والغرف، في قاعة "أخناتون" التابعة ل "مجمع الفنون" القاهري حيث اقام احد معارضه الاخيرة، اضافة إلى آخر في غاليري "خان المغربي" في مناسبة مرور ربع قرن على لوحته الاولى حيث اقام معرضه الاخير. وكان لا مفر للزائر من الشعور بأنه في مرج فسيح لانهائي من الألوان. "قل هو اللون/ في البدء كان/ وسوف يكون غداً/ فاجرح السطح إن غداً مفعم/ ولسوف يسيل الدم". ومعرض عدلي رزق الله رافقه كاتالوغ فخم بعنوان "كل هذا الشعر"، يضم ابداعاً لشعراء وكتاب يتناغمون مع لوحات الفنان، منهم احمد عبد المعطي حجازي وإدوار الخراط. "قطرتان من الصحو/ في قطرتين من الظل/ في قطرة من ندى...". إلى روح الأديب الراحل عبد الفتاح الجمل، اهدى الفنان معرضه الذي احتوى عدداً لافتاً من اللوحات، المتنوعة الاحجام والتوجهات. اعمال ضمت اشكالاً نحتية ملونة ومضيئة بالأبيض الذي يتلاقى مع الألوان الغامقة والساخنة ويتخللها. فإذا بالعناصر الحية تتوالد داخل الشكل النحتي: زهور تشق الصخور والفضاء، أبدان تتفتح، نباتات تنطلق في الضوء، كائنات تسترخي في اصدافها الحجرية، خشوع في محراب النار والنور، وكلها يحيطها فضاء ساخن يمور بالحياة، عبر شفافية اللون وتداخلاته. عدلي رزق الله وُلد في أبنوب الحمّام أسيوط سنة 1939. اقام معارض كثيرة، ووقّع مئات اللوحات المائية، اضافة إلى كتب ورسوم للأطفال وأغلفة كتب ادبية مهمة. التقته "الوسط" على هامش معرضه الاخير، فكان هذا الحوار: * هناك في أعمالك تشخيص ليس فوتوغرافياً، وتجريد ليس غامضاً مبهماً ومستغلقاً على المتلقي وفي كل اعمالك... - لست فناناً تجريدياً... لكنني لست فناناً تشخيصياً، فأنا في حل من التصنيفات الفنية المتعارف عليها. كان لي من الحرية ان آخذ من كلا الاتجاهين بقدر الضرورة التي تتطلبها لوحتي لكي تتشكل. لوحتي فيها من الطبيعة النور، والهواء، والضوء الذي يذكّرنا بأوقات وأزمنة محددة من اليوم او السنة. كما ان فيها النبات، والجسد، والصخر، والنار... لكنها ليست بالضرورة ناقلة لأي من هذه العناصر، فأنا لا أحاكي الطبيعة، لكني استخدم قانونها في ابتكار كائنات حية هي لوحاتي. اذا شئنا توضيح ذلك اكثر، لاحظ كيف ان الزهرة عندي لا مثيل لها في الطبيعة الواقعية حولنا، فهي زهرة اللوحة. * هذه الزهرة هل يسعنا التعامل معها كرمز الأنوثة مثلاً؟ إلى أي مدى تعكس عناصر اللوحة افكاراً، ويمكننا ان نتعامل معها بحثاً عن مدلولات اجتماعية، نفسية، فلسفية، او غير ذلك؟ - انا لا أفكر في شيء عند لحظة الحب او الرسم. هناك حالات يعيشها المرء بمشاعره وأحاسيسه، والحياة في جزء منها خلاصة حالات لاواعية. عند الابداع اغور في ذاتي، اغترف من اعماقي لأكتشف، لأعرف. لا تصميم مسبقاً للوحة عندي، كما لا تمكن اعادة رسمها، فأنا عاجز عن هذا تماماً. عندما تنتهي اللوحة، اجلس قبالتها لأتعرف عليها او على بعض نفسي، وأي تفسير يصبح تفسيراً تلقائياً بالتأكيد، اذ لا بد من البحث في داخلي عن نوازع وأحلام وأشواق تتجسد في هذا الكائن الحي الذي هو اللوحة. المسرة البصرية * هل يعني ذلك انك تترك للمتلقي حرية مطلقة في قراءة أعمالك، حسب تصوراته، وعلى ضوء ثقافته وخبراته الفنية والحياتية؟ وكيف تبدأ عملك إذا لم يكن هناك تصميم مسبق؟ - أنا منحاز إلى لوحة لا تنقل خبراً بالتحديد ولا تسرد حكاية، بل تكون تكثيفاً شعرياً، او بمعنى أدق تكثيفاً لاحتدام حسي. من الطبيعي، والحالة هذه، ان يكون التلقي حراً، وألا تنغلق القراءة او تنحصر بمحاولة التشبث ب "الفهم" والبحث عن "المعنى". فالتفسير قد يستدرجنا إلى عمليات اقحام واسقاط من خارج العمل والرؤية الفنية. لا بد ان نفتح تلك الطرق المسدودة، كي تستحيل عملية التلقي ممارسة ايجابية عن طريق البصر، علاقة حوار بين المشاهد والعمل، يعطي فيها الاول من نفسه، بقدر ما يأخذ من عالم المبدع الذي تمخض عن الأثر الفني. عندها فقط تولد المسرة البصرية، او فرح التلقي ونشوته. وهذه عملية مفتوحة دائماً، 2 لا نهاية لها، تزداد عمقاً تبعاً لدرجة النضج التي تنطوي عليها اللوحة. أما في ما يتعلق بطريقة عملي، فقد قلت مرة انني ابدأ بلمسات اختيارية. حُرٌّ أنا في تلك اللحظات، او هكذا يبدو لي. تأخذني اللوحة... تأخذني اللمسات: الورقة والماء والألوان وأنا نتعاون لقول وجه من وجوه عالم بهيج متحشد، مؤلم وعذب. ثم اعود في لحظة ما، سيد العمل، وحينئذ استطيع انهاءه، او الانتهاء منه، فتولد اللوحة. انها ممارسة فعلية للحب، كما قلت مراراً. * انت معروف بلوحاتك المائية. ألم تجرب خامات اخرى، كالألوان الزيتية مثلاً؟ - بعد الدراسة الاكاديمية، عشر سنوات من البحث وارتياد دروب مسدودة، والتخبط بين جدران صماء لا حياة فيها، وُلدت لوحتي الاولى في احدى ليالي باريس سنة 1972. رحت يومها ألهو بعلبة ألوان مائية اشتريتها، ولم يكن بوسعي الحصول على مثيلتها في القاهرة. في نهاية تلك اللعبة التلقائية ولدت لوحتي الاولى، وكانت فرحة الاكتشاف. لحظة تألق، توحد بين خامة وبيني، سكنت الألوان المائية بفضلها رؤيتي الفنية. هكذا باتت لوحتي قائمة على تناغم بين أثيرية الهواء وصلابة الصرح النحتي. لم تعد الألوان المائية، بفضل ذلك الزواج، خامة هفهافة غنائية يشدو بها الفنان قبل الانتقال إلى اللوحة الزيتية. ألا يكفي هذا لفنان قصير العمر مثلي؟ حبذا لو اعطيت عمراً اضافياً لكي اغوص اكثر وأكثر في اكتشاف اسرار تلك الخامة التي هي الألوان المائية. المرأة... نبات * ولكن ألا يؤدي ذلك إلى التكرار؟ ينتقد البعض اعمالك احياناً بسبب ما يعتبره تكراراً في اللوحات؟ - لا اعتقد ان هناك تكراراً. اخترت خامة واحدة، وكنت متواضعاً في اختياراتي. اشعر ان الوقت المتبقي لي اضيق من ان امضي في اكتشاف كل ما يمكن اكتشافه من اسرار تلك الخامة. بعض الناس لا يرى غير سطح اللوحة فقط، لكن اذا دققت في اعمالي لن تجد اي تكرار، إنما هناك تنويعات. اللوحة خادعة، والدخول إلى عالمها لا يمكن ان يكون عملية سريعة عابرة. انا ادعو الذين يوجهون اليّ تلك التهمة إلى ان يتأملوا ويتمعنوا في هدوء، ان يدخلوا اللوحات بلا ضجة. انا اتوحد مع موضوعي، ارسم العطش او الغضب، انقل لحظات قاسية... وكل مجموعة لوحات انجزها، لها تحققات مختلفة على مستوى التقنية. فالتقنية تكشف عن نوع العمل والاحساس به. وليس هناك تقنية جاهزة، لأنني لا اميل إلى ما هو مسبق في الفن. وكما تعرف فإن الفن لا يوجد من دون تقنية، حتى الفنان البدائي لديه تقنية مدهشة، لكن التقنية وحدها لا تصنع فناً. إن خامة ألوان المياه لم تعد كما كانت بعد تعاملي. لأنني اكتشفت فيها درجات لونية عديدة، وخاصة الألوان الغامقة التي لا تستطيع ان تحصل عليها إلا في الجليز والمنيا، حيث تحتاج لدرجات حرارة عالية جداً كي تشع طول الوقت. انها مسألة تقنية، وكفنان اقوم بتجريب مستمر في اللون. لكنني لا اقدم فكرة ملونة، فاللوحة فكرة معبر عنها بطريقة لاشعورية، وهذا هو الاساس عندي. * لنتكلم عن المرأة في لوحاتك... انك ترسمها كثيراً. - اذا تمعّنت في الغناء الشعبي القديم في الارياف والاحياء الشعبية، ستلاحظ ان تشكيلات المرأة معبّر عنها على الدوام من خلال النباتات والثمار خوخة وتفاحة ورمانة.... هذا هو التصور الشعبي المصري، يحول المرأة إلى نبات ولا يحولها إلى حيوان. هناك ثقافات اخرى تحولها إلى حيوان، لكنني اغرف في ما يخصني من صلب وجداننا الشعبي. وأنا لم ارسم جسد المرأة استدراراً للاثارة. انها في رؤيتي ليست مادة استهلاكية، بل تعبيراً دائماً عن الخصوبة. وأتحدى اياً كان ان يجد في لوحة لي عناصر اثارة حسية! تمر الطفولة * وماذا عن "تمر"؟ انه اسم ابنتك الكبرى اطلقته على مجلة من اعدادك، تتوجه للأطفال من سن 4 إلى 6 سنوات، يقدمها الفنان عدلي رزق الله؟ - العددان الاول والثاني من "تمر" طبعت منهما آلاف قليلة، لكي نوجه الانظار إلى ضرورة اصدار مجلة من هذا النوع، تتوجه إلى الطفل العربي. وأشرنا انها تتوجه إلى "كل العرب، صبياناً وبنات، من 4 إلى 6 سنوات". قمت برسم وتأليف العمل كاملاً طوال عشرة اعداد كاملة، تغطي المنهج البصري لتعليم الطفل عن طريق: "إلعب... إلعب... إلعب... وتعلم". وأسهم "المجلس الاعلى للثقافة" الذي يديره المستنير جابر عصفور في طباعة العددين الاول والثاني، بنسبة بلغت 40 في المئة من التكاليف، فيما اسهم اربعة اصدقاء - طلبوا عدم ذكر اسمائهم - بنسبة 40 في المئة اخرى. ثم وهبتني الزوجة الحبيبة باقي التكاليف. طبعنا وعرضنا، وكتبت مجموعة من المتخصصين ما رأت انه يليق بالمشروع. ودعونا الاجهزة القادرة في كل البلاد العربية، ونحن لا نزال ندعوها... لكن "تمر" ولدت، ولن تموت ابداً.