في الحديث مع الفنانة منى السعودي، وبمشاهدة أعمالها وقراءة الحوارات والكتابات حول تجربتها، يصل القارئ الى نتيجة مفادها، بأن هذه النحاتة، الرسامة، والشاعرة، هي حفيدة الأرض بامتياز، ليس أقلها لأنها بدأت مشروعها النحتي بأعمال عنونتها ب"أمومة الأرض"، ولا لسردها عن تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تتلفت حولها طوال فترة رواحها ومجيئها، تتأمل بقايا الآثار التي تفصح عن هوس أسلافها، أياً كانت تسميتهم، بالأرض وصخورها ليكتبوا تاريخ حضاراتهم ويوصلوا رسالتها الى الأزمان اللاحقة. الفنانة الأردنية الأصل المستقرة في بيروت، تكمل مسيرة الأسلاف واحدة من أبرز الفنانين والنحاتين العرب الذين يمكن للعالم أن يتحاور مع تجاربهم وتجلياتها، هذا ما يقوله معرضها الأول في العاصمة البريطانية. بقيت منى السعودي طوال مشوارها الفني مخلصة للأرض، تبحث عن حجر وخامات وأفكار ومفاهيم."دوماً كنت مرتبطة بالأرض، ولم أنظر للسماء بحثاً عن فكرة. حتى عندما يحدث الكسوف الشمسي وأرى الناس يتدافعون للتطلع الى فوق، أندهش وأتساءل ماذا سيرون في العتمة التي يتحضرون لها بنظارات خاصة، فالجمال لحظتها يجري في الأسفل، عندما يمرّ القمر أمام الشمس وينعكس ظله على الأرض مكوناً اشكالاً جميلة". نتاج هذه الفكرة شاهدها رواد المعرض وكانت واحدة من أعمالها اللافتة بتجريديتها المهنية والبسيطة في آن، اسم المنحوتة"كسوف شمسي منتصف النهار"2007، وقد نفذت بالبرونز. تهجس طوال الوقت بالخامات وتحدياتها لها كفنانة، قد يهديها الاصدقاء حجراً عثروا عليه في زياراتهم للعالم، حجر من اليمن مثلاً، وقد تلتقط عيناها، كما تفعل عينا خبير آركيولجي مع القطع الأثرية، فتراها تحكي عن حجر أخضر وآخر أسود، وثالث له رائحة كريهة، وآخر يبهرها تحدّيها فيه عندما تتماهى مع الأسلاف في فك سرّه وغموضه، حتى يلين ويصير طوع يد صانعه. تتذكر كيف مرت منذ سنوات أمام بناء يتم هدمه في حي الشميساني في مدينة عمّان، فلاحظت طبقة من الحجر الزهري تحت البناء يغري بالعمل عليه. لديها عناصرها التي تتحكم بشغلها عموماً وتمنحه خصوصيته، من ذلك ان المنحوتة يجب ان تُرى من كل الجهات لا من جهة واحدة فقط. يسألها أحد رواد المعرض البريطانيين ان كانت تتعامل مع خاماتها بتخطيط مسبق؟ فتقول إنها تقوم بعملية بحث متأن قبل أن تبدأ بأي خطوة، لأنه لا يمكن العودة الى الوراء بعد القطع والحفر."في حالات نفسية معينة، مثل الغضب، أتركه لفترة، وأعود اليه لاحقاً. لا يمكن أن تتعامل مع الخامة وأنت في هذه الحالة". إلا أن التخطيط المسبق ليس اجتهاداً نهائياً، إذ يجب فتح حوار ايجابي طوال وقت العمل على الخامة، وقد تنتهي المنحوتة مختلفة قليلاً عما خططت لها". على رغم القطيعة الثقافية التي شهدتها المنطقة العربية لقرون طويلة مع الموروث النحتي، الا ان السعودي تعتقد ان أي حضارة تمرّ على منطقة ما وتزول، لا تموت تماماً، قد تخبو، فهي متروكة كبذور في تربتها و"كامنة"في جينات البشر. وكونها فنانة وارثة لحضارات متنوعة وضعت النحت في موضع جلل، مثل البيزنطية والنبطية، لم يدفعها ذلك الى تقليدها في محاولة لإثبات نسبها لها."لم اقلد أحداً طوال عمري"تقول، فهي تعلم أن التقليد لا يمكن أن ينتج الأصل، وحتى عندما حاول الاغريق استلهام النحت الفرعوني وبدأوا بتقليده إلا أن منطق ثقافتهم المحلية جعلهم ينتهون بمنحى بعيد تماماً عن الأصل. إلا أنها لا تستبعد تأثيرات الثقافات المختلفة على الفنانين عموماً،"النحت بصورة عامة لم يتطور في أوروبا إلا في القرن العشرين، عندما بدأ الفنانون هناك يرون الآخر من خلال إنجازات الحضارات القديمة ويتفاعلون مع المعرفة الانسانية الشاملة". ماذا إذاً عن الاهداء الذي يرافق بعض منحوتاتها، مثل إهدائها للبريطانيين هنري مور وباربة هيبورث؟ تقول"إنها اشارة، إما الى استلهام شيء ما من شغل الفنان، أو ان هناك رابطاً من المحبة والتكريم معه، أو ان أعماله مخزنة في الذاكرة، وكل هذا في النهاية هو شكل من أشكال اللقاء مع الفنانين الآخرين". عندما التحقت منى السعودي بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بباريس العام 1973، تعلمت انجاز البورتريهات الواقعية، وتشير الى الصور عبر البروجكتر في المحاضرة التي القتها في صالة موزاييك روومز:"لم يكن أستاذنا يعتقد اننا سنصبح مشاهير لاحقاً، لذا فقد طلب منا رمي تجارب المنحوتات بعد ذلك". وكأن الشابة رمت الأسلوب الواقعي في العمل مع ما رمته من تلك النماذج الى الأبد، فاتجهت الى التجريد تماماً بعد التخرج، وخلصت عناصر أعمالها من ثقل الواقع. تتباهى بكل أعمالها وتتسرب طوال الوقت من كلامها تعليقات تشي بالحنين لخاماتها ولمكان عملها، كما لو أنها تتحدث عن أطفالها، تعليقات مثل"اشتقت للمطرقة والازميل"، أو"الحجر المتروك في بيتي ينتظرني". تقول السعودي أنها بين فترة وأخرى، عندما تريح نفسها من القطع الكبيرة، تلك التي تنجزها بتكليف من مؤسسات وجامعات، الخ، أو حتى من دون ذلك، تكافئ نفسها بإنجاز قطعة صغيرة، تقدمها لنفسها كهدية. وعندما تسأل عن قطعها المفضلة، تقول أنه لا توجد لديها قطعة"ماستر بيس"، وأنها في كل مرة تحمل حجراً جديداً بين يديها، تشعر وكأنها المرة الأولى التي تواجه فيها حجراً. تحب كل أعمالها، وتفتقد الأعمال التي تذهب الى البعيد من خلال الشراء والاقتناء. تحفل أعمالها بعناوين مثل أمومة، الأرض الأم، مدارات إنسانية. لكنها لا تعمل على ثيمة مسبقة، لا تبدأ من الموضوع وتحوله الى منحوتة،"النحت بحث في الشكل وسبر لأغوار الخامة قبل أي شيء". وعندما لا تجد اسماً محدداً للقطعة التي تنتهي منها، تطلق عليها اسم"تكوين"، فالكلمة تغطي مجمل عملية النحت: هناك شيء يتكون. منى السعودي تعمل من السابعة حتى السابعة، وعندما تدخل الى البيت في نهاية اليوم، لا تشعر بأنها متعبة، بل تبدو نشيطة كأنها صحت للتو من نومها!. اشتمل المعرض على قطع نحتية صغيرة وقليلة الى حد ما قياساً بتجربة نحاتة بحجم منى السعودي، وخلا بالطبع من القطع النحتية الكبيرة بسبب صعوبة نقلها من مقرها الأصلي. الا أن عمر القطان المنتج والمخرج السينمائي ومدير الصالة، يؤكد سعيه لترتيب معرض أكبر في المستقبل بالتعاون مع واحد من متاحف او صالات لندن العريقة التي بمقدورها أن تتكفل بعبء نقل وحماية القطع. "استلهامات شعرية"كان عنوان المعرض الذي أقيم في صالة"موزاييك روومز"التابعة لمؤسسة عبدالمحسن قطان الخيرية في لندن. كان الشعر حاضراً في اللوحات التي حاورت قصائد ثلاثة شعراء، وكان حاضراً من خلال بعض قصائدها التي تضيء على تجربتها الفنية وعلى فلسفتها نحو الحياة والكون والطبيعة. من هنا لن يستغرب الزائر ان يقرأ في قصيدة"نشيد"تعابير مشتقة من فعل النحت نفسه:"لك ثبوت الحجر"،"تدخل الضوء في الحجر"،"تصقل الأيام". للفنانة مجموعتان شعريتان"رؤية أولى"عام 1972، و"محيط الحلم"عام 1992. اللوحات التي عرضت والتي اتكأت على نصوص شعرية، تترواح ما بين مرحلتين، المجموعة الاولى نفذت ما بين الأعوام 1977 حتى منتصف التسعينات تقريباً. لوحتان لمحمود درويش:"شجرة العاشق"، و"قصيدة الأرض". اضافة الى 12 لوحة لأدونيس من قصيدة"رقيم البتراء"، وهذه منفذة كلها بتقنية الطباعة الحريرية والألوان المائية، الاشعار فيها جزء من تكوين اللوحة. أما في اللوحات ال13 المنفذة عام 2009، فقد استلهمت فيها قصائد ديوان"نشيد اعتدال"للشاعر الفرنسي سان جون بيرس بترجمة أدونيس، وقد نفذت بتقنية الطباعة الحريرية، ولكن الشعر ثبّت فيها هامشاً أسفل اللوحة، بلغات، اضافة الى الفرنسية والعربية، العبرية واليونانية والصينية، وقد ترجمت اليها القصائد. تشرح السعودي أسلوبها في تنفيذ هذه اللوحات بقولها، أنها لم تستسغ ادخال الشعر المترجم الى نسيج اللوحة، كما فعلت مع القصيدة العربية المكتوبة أصلاً بالعربية، فتركته خارج مكوناتها الأصلية. في هذه التجربة عموماً، أي اللوحات، يبدو التداخل عضوياً ما بين الشعر، الرسم، والنحت، وكأن بمنى السعودي تقول لنا، أنه يمكن نحت الكلمة كما يمكن أن تُرسم، ويمكن للوحة أن تُكتب أيضاً، أو تخطّ فيها الرسوم بأسلوب يشبه نحت الحجر. إنها ثلاثة أفعال ابداعية تشكل شخصية هذه الفنانة التي تعترف، ان القصيدة، قد تأتيها وهي تعمل أمام منحوتة، فتسارع الى تسجيلها. هذا لأن كل فعل إبداعي يحرك غيره أيضاً، كما حدث معها بعد ولادتها لابنتها بقليل، فقد اندفعت الى العمل بنشاط في محترفها. لأن الأمومة أيضاً فعل إبداعي يستحث إبداعاً آخر على الولادة.