لا تزال عملية نسف الناشط الفلسطيني يحيى عياش في قطاع غزة الأسبوع الماضي تثير قدراً كبيراً من الجدل والغيظ والتساؤلات. في مقدمها بالطبع: هل سيحمل الاغتيال حركة المقاومة الاسلامية حماس على الرد بالاقدام على مقاطعة الانتخابات الفلسطينية المرتقبة؟ ام انه سيفتح الباب واسعاً أمام عمليات انتحارية ضد اسرائيل تعود بعملية السلام القهقرى؟ والأكثر اثارة: ما هو الدور الحقيقي للمقاول الفلسطيني صاحب جهاز الهاتف الذي نسف الشق الأيمن من رأس عياش؟ مساء الخميس قبل الماضي كان المهندس يحيى عبداللطيف عياش في منزل اعتاد ان يلوذ به في مشروع بيت لاهيا، الواقع بين جباليا وقرية بيت لاهيا في قطاع غزة. سمع ازيز طائرة تحلق في الجو فقرر الانتقال الى رفح لقضاء الليل في مأمن. وفي الساعات الأولى من الصباح عاد الى المنزل الذي أمنّه له صديق الدراسة اسامة حماد، للاختباء بعيداً عن أعين اجهزة الأمن الاسرائيلية والفلسطينية على حدٍ سواء. لم تكن الدردشة التي دارت بين "المهندس" الذي وضعته اسرائيل على رأس قائمة الأشخاص المطلوب القبض عليهم طوال السنوات الثلاث الماضية بسبب دوره في التخطيط لعدد من العمليات الانتحارية التي زاد عدد ضحاياها على 70 قتيلاً اسرائيلياً ومئات الجرحى، مع صديقه اسامة الذي تعرف اليه قبل حوالي عشر سنوات أثناء دراستهما في جامعة بيرزيت، وسكنهما سوياً في قرية أبو قش، غير واحدة من دردشاتهما المعتادة، رغم ان عياش أعرب خلالها لصديقه عن شعوره بدنو أجله، وبضرورة الاكثار من النشاط العسكري في قلب اسرائيل. وفي الأسبوع الذي سبق اغتيال عياش، كان والده عبداللطيف يحاول الاتصال على هاتف المنزل الذي يقيم فيه من دون جدوى وذلك بسبب انقطاع الحرارة عن خط الهاتف، مما اضطره الى الاتصال برقم الهاتف النقال الخاص باسامة. وتكرر انقطاع خط الهاتف العادي في مسكن يحيى غير مرة. صباح اليوم التالي، وعندما كانت عقارب الساعة تقترب من الثامنة، طلب خال أسامة، وهو رجل أعمال يعمل في المقاولات العامة اسمه كمال حماد، وتربطه علاقات واسعة برجال أعمال فلسطينيين واسرائيليين، من ابن اخته اسامة ان يدوس على زر تشغيل هاتفه الخليوي لأن شخصاً يحاول الاتصال، وعندما رن جرس الهاتف كان والد يحيى على الجانب الآخر، فسأل عن ولده، فأجابه بأنه بقربه وسلم الهاتف ليحيى، وغادر الغرفة، ولم تمر لحظات حتى سمع دوي انفجار اعقبه دخان كثيف، وبعدما انقشع الدخان وجد اسامة صديقه "المهندس" وقد فارق الحياة، اذ ان الهاتف الخليوي انفجر محدثاً فجوة واسعة في رأسه من الجهة اليمنى. منع اسامة أياً من افراد اسرته من الاقتراب من الغرفة، في الوقت الذي كانت تحلق طائرة فوق الحي اثناء المكالمة الهاتفية، الأمر الذي شجّع على الاعتقاد بأن الطائرة أرسلت اشارات لاسلكية تسببت باحداث الانفجار الذي خططت له اجهزة الأمن الاسرائيلية من خلال كمال حامد الذي اتصل بعد وقوع الانفجار بأخته والدة اسامة ليقول لها انه يريد الاطمئنان على ولدها، وان كان مسّه سوء من جراء ما حدث. اثر شيوع خبر اغتيال عياش تساءل كثيرون في الساحة السياسية الفلسطينية: من سيخلف المهندس الذي أزعج دهاقنة الأمن في الدولة العبرية؟ وأثار الاغتيال تساؤلاً آخر: هل تزمع حماس الرد بتصعيد مماثل أم ان متغيرات عملية السلام ستملي عليها رداً من نوع آخر؟ خليفة الدكتور قال الدكتور محمود الزهار أحد أبرز قادة حركة المقاومة الاسلامية حماس في قطاع غزة لپ"الوسط" ان حجم الفراغ الذي تركه عياش كبير، لكن عزاءنا كفلسطينيين ان الفترة التي قضاها في غزة كانت لا بأس بها، وقد درّب خلالها عدداً كبيراً على متابعة مسيرته وأسلوبه في الكفاح. وذكر، رداً على سؤال عن محمد الضيف أبو خالد الذي يشاع انه غدا المطلوب الأول لأجهزة الأمن الاسرائيلية اثر اغتيال عياش، وهل حلّ فعلياً محل عياش، ان عمل أبو خالد، يدخل في اطار التخطيط أكثر منه في تجهيز العبوات الناسفة، لكن هذا الكلام لا يمنع ان تكون اتصالات جرت بينه وبين المهندس قبل الاغتيال. ويبررّ الدكتور الزهار عدم لجوء حماس الى الرد على اغتيال عياش حتى الآن، بالقول ان فترات الهدوء كانت تستغل من قبل الحركات الاسلامية للاعداد والتدريب، "ولا شك انكم تعرفون ان اسرائيل كانت بعد كل جريمة اغتيال من هذا النوع، أو عملية اعتقال لقيادي من حماس، تقول ان الحركة انتهت لكن مسيرة عشرات الشهداء بل مئات منهم أثبتت خطأ هذا الاعتقاد. فقد سبق عياش كثيرون منهم طارق دخان الى ياسر حسنات ومحمد قنديل ورفيق السالمي وهاني عابد وكمال كحيل وعماد عقل وكثيرون غيرهم، ورغم ذلك استمرت المعركة مع الاحتلال". ودافع القيادي الاسلامي الفلسطيني عن الحركة بوجه ما يقال عن اختراق الأجهزة الاسرائيلية لها، فقال "ان هذا الكلام مبالغ فيه، وقد كان الشهيد عياش حذراً جداً، لدرجة انه تخلى عن استخدام الهاتف الخليوي قبل شهر تقريباً، وكان يصرح لاسامة ورفاقه الآخرين بأنه يكره استعمال الخليوي، ويحذر ذويه من الاتصال به من خلاله لأنه سهل المراقبة، لكن الحذر لا يمنع وقوع القدر". الخال وابن الأخت ويقول مقربون من حركة "حماس" ان كمال حمّاد صاحب جهاز الهاتف الخليوي استغل الاسترخاء الأمني داخل حركة "حماس" مما حدّ من الاحتياطات التي كان يتخذها عادة للتنكر ونجح في التعرف الى يحيى من خلال اسامة، الأمر الذي حمله على الوشاية بذلك للاسرائيليين الذين اقترحوا اعطاء يحيى جهاز هاتف خليوي، يقول اسامة صديق المهندس، ان خاله اعتقد ان الاسرائيليين لن يذهبوا أبعد من وضع جهاز تنصّت على مكالمات المهندس، وغاب عن ذهنه ان استبدال الهاتف في أكثر من مناسبة كان لتجهيز عبوة تزن 50 غراماً من النوع الذي أدى الى وقوع الانفجار. ويتندر سكان قطاع غزة، بقصص كثيرة عن عملية الاغتيال، ويقول احدهم ان حماد تربطه بعدد من قادة اجهزة الأمن الفلسطينية علاقات وطيدة، وان رئيس أحد اجهزة الأمن مثلاً، العقيد موسى عرفات يسكن في عمارة يملكها حماد في شارع النصر في غزة. وذكر آخرون ان جهاز الأمن التابع لموسى عرفات اقدم قبل مدة على محاصرة المنطقة التي يسكن فيها عياش بحثاً عنه. ومع ان اسامة حماد اعترف للمهندس بأن وجوده في المنزل في هذه المنطقة بضعة أشهر، يشكل خطراً على حياته، لم يكن جواب عياش غير القول "ان الأعمار بيد الله وانا ايضاً أشعر بدنو اجلي". وتعترف قيادات "حماس" والسلطة الفلسطينية بأن قطاع غزة لا يزال يعج بمئات العملاء. وقال مستشار امني بارز للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لپ"الوسط": ان السلطة ملزمة بحماية كل فلسطيني في قطاع غزة والأراضي التابعة لنا. وأشار الى ان ما تم تحقيقه من جراء عملية السلام مع الاسرائيليين "ليس كافياً ولم يصل الى درجة نتحكم فيها بكل شيء، ولهذا لا تزال المفاوضات مستمرة". وتابع: "ان الاخوة في "حماس" ابدوا في الأشهر الماضية تعاوناً جيداً مع السلطة، لكن ليس الى درجة كافية تتيح لنا معرفة من هو المعرَّض منهم لخطر الاغتيال من الاسرائيليين. ولو كان عياش في عهدتنا لما نجحت محاولة اغتياله، فقد أوقفنا الشهيد هاني العابد شهرين في معسكراتنا، وعندما أطلق سراحه اغتيل بعد فترة وجيزة". ونفى المستشار الأمني الفلسطيني ان تكون السلطة الفلسطينية على معرفة سابقة بمكان وجود عياش. وقال: ان الاسرائيليين هم الذين أخلوا بالاتفاق معنا ونفذوا عملية الاغتيال وليتحملوا مسؤولية تصرفاتهم. وأوضح ان الاتصالات التي تمت مع "حماس" في السابق نجحت في وقف العمليات الانتحارية التي تعرضت لها المدن الاسرائيلية وأوقعت عشرات القتلى، وأشار الى ان سياسة الانتقام التي تتبعها اسرائيل "سياسة غبية، لأن معنى ذلك ان كل فلسطيني مطلوب بمن فيهم أنا الذي أتولى التنسيق معهم بما يضمن حسن تنفيذ الاتفاقات الأمنية الموقعة بين الفلسطينيين والاسرائيليين". واستبعد ان تكون اسرائيل قادرة بعد اغلاقها لبواباتها مع قطاع غزة والضفة الغربية على منع تنفيذ عمليات انتقامية مشابهة لتلك التي اعقبت حادث الحرم الابراهيمي. وتساءل: لماذا لم تنجح في منع عمليات كتلك التي حصلت في قلب اسرائيل من تل ابيب الى بيت ليد والعفولة وغيرها؟ ولفت الى مطالبة حركة "حماس" السلطة الفلسطينية باعادة الأسلحة التي جمعتها من ناشطيها قبل بضعة أشهر، وذلك لكي يتاح لاعضائها حماية أنفسهم. وقال ان من واجب السلطة حماية كل فلسطيني يشعر بالخطر، واذا كان أيٌّ من أعضاء "حماس" يشعر بخطر "فنحن مستعدون للقيام بواجب حمايته". وأكد الدكتور الزهار، مطالبة "حماس" باعادة الأسلحة لعناصرها وأنصارها. وقال لپ"الوسط": من غير المعقول ان تنزع اسلحة المناضلين، فيما لا يزال عملاء اسرائيل يحتفظون بأسلحتهم. وقال المستشار الأمني الفلسطيني الذي تحدث الى "الوسط" طالباً عدم ذكر اسمه ان السلطات الفلسطينية تملك معلومات "قديمة عن تعامل رجل الأعمال الفلسطيني حمّاد مع السلطات الاسرائيلية، لكن لم تكن لدينا أي دلائل عملية تؤكد ذلك، ولو تمت استشارتنا في هذا الأمر من قبل قيادة حركة "حماس" لما ترددنا في ابلاغهم بالمعلومات التي بين يدينا". وذكر الدكتور الزهار ان اسامة حماد احد ابناء "حماس" وانه متهم بأنه من كتائب "عزالدين القسام" التي كان المهندس عياش احد ابرز قادتها. وقال اعلامي فلسطيني مقرب الى حركة "حماس" تحدثت اليه "الوسط" "ان رجل الأعمال الفلسطيني حماد الذي تقول المعلومات المتداولة انه قبض من الموساد مليون دولار أميركي ثمناً لاغتيال المهندس، كان مطلوباً من قبل معظم الفصائل الفلسطينية قبل تسلم السلطة الفلسطينية قطاع غزة، لكن علاقته بعدد من قادة المنظمة العائدين الى القطاع أمنت له الحماية". ولا يخفي ناشطون في "حماس" ان آخرين سيلعبون دور المهندس عياش في مجال التخطيط للعمليات الانتحارية وصنع العبوات الناسفة. ويقولون ان محمد الضيف وعبدالفتاح السطري الآن من ابرز المطلوبين لأجهزة الأمن الاسرائيلية بعد اغتيال عياش. وفيما وصفت وسائل الاعلام محمد الضيف من سكان خان يونس بأنه المسؤول الفعلي عن كتائب "عزالدين القسام" وعملياتها ويحمله الاسرائيليون مسؤولية خطف الجندي الاسرائيلي نخشون فاكسمان، قال مقربون الى حماس ان محمد ضيف ابراهيم المصري أبو خالد الذي لا يتجاوز الثلاثين عاماً اعتقل من قبل السلطات الاسرائيلية اثناء الانتفاضة لمدة عام ونصف ثم أفرج عنه. وكان ضيف قد درس في الجامعة الاسلامية في قطاع غزة، وبعد تشديد السلطات الاسرائيلية بحثها عنه واعتقال عماد عقل، فرّ الى الخليل وعمل الى جانب عياش ومارس نشاطاً في خلايا حماس المحلية. وينظر اليه على انه وريث عياش. أما السطري الذي أطلق عليه لقب "مهندس عمليات عزالدين القسام" اثر اغتيال عماد عقل فإنه شارك في تشييع عياش في غزة وكان يحمل بندقية من طراز "اف - 16". مطاردوا حماس والبطولة ولا يخشى مطاردون من حماس مثل اسامة أبو طه ويوسف الملاحي من سكان رفح أو عماد عقل من النصيرات وعوض السلمي ووائل نصار من قطاع غزة ومحمد أبو شمال ورائد العطار من سكان مخيمات رفح ان يكون مصيرهم مثل من سبقوهم من المطاردين الذين اغتالتهم اجهزة الأمن الاسرائيلية أو نصبت لهم مكامن. فقد كان جهاد فايز الغلمة الذي قتل في نيسان ابريل 1995 وطاهر كفيشه الذي اغتيل في حزيران يونيو 1995 بطلين في انظار سكان منطقة الخليل، وهما الى جانب عقل وعياش وكمال كحيل يمثلان تطوراً ملموساً في مجال تنفيذ العمليات العسكرية لحركة "حماس"، خصوصاً انهما اتهما بقتل العديد من الجنود الاسرائيليين والمتعاونين مع الاحتلال. ويقبع في سجون السلطة الفلسطينية ومعسكراتها عدد آخر من المطاردين. ويقول قادة اجهزة الأمن الفلسطينية ان اطلاق سراحهم قد يعرض حياتهم للخطر من قبل عملاء اسرائيل أو اجهزة الأمن الاسرائيلية. ولا يمر ذكر المطاردين في قطاع غزة الا ويشار الى "كتائب ابو الريش" وهي مجموعة من "صقور فتح" انشقت عن الأخيرة بعد ان اعلنت فتح تأييدها لمسيرة السلام. وانشئت هذه الكتائب بعد اغتيال أحمد أبو الريش أحد قادة الصقور في قطاع غزة، الأمر الذي دفع شقيقه عمر، وابن عمه راجح أبو سنة، لتأسيس هذه الكتائب التي استمرت في التعاون مع "كتائب عزالدين القسام" ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه. وظهر أثناء تشييع عياش. انضباط ولا جدوى ولعل ما لفت انتباه المراقبين هو ان تشييع المهندس عياش شهد انضباطاً جماهيرياً رغم ضخامة حشد المشيعين الذين رفضوا الاستجابة للاستفزاز الاسرائيلي المتمثل في اغتياله، وارجاء التفكير في الخطوة المقبلة من دون درس كاف وتشاور بين القادة المعنيين. وكان اللافت أيضاً انه رغم ابتهاج الصقور الاسرائيليين باغتيال احد ألد أعداء الدولة العبرية، فإن أصواتاً متزنة أعربت عن استيائها من استمرار هذا النهج لأنه ثبت بالأدلة القاطعة انه كلما اغتالت اسرائيل قيادياً فلسطينياً نهض ثلاثة أو أربعة من مساعديه للقيام بدوره بشكل أكثر كفاءة، وان سياسة الثأر التي انتهجتها اسرائيل الأسبوع الماضي في غزة قد تفتح ملفات ثأر جديدة لاراقة مزيد من الدم الاسرائيلي.