يندر ان تجتمع في مكان واحد آثار تعكس حضارات عدة، وفي واحة الفيومجنوب غرب القاهرة يواصل الاثريون التنقيب عن آثار من عصور مختلفة، فرعونية ويونانية ورومانية وقبطية واسلامية. وكان العالم الاثري فلندرز بتري افتتح الكشوفات الاثرية في الفيوم في ثلاثينات هذا القرن، عندما عثر على رؤوس سهام متقنة الصنع تعود الى عصر ما قبل التاريخ غرب بحيرة قارون، ومنذ ذلك الحين تعددت البعثات، وكان أطرفها بعثة مصرية اقترحت تجفيف بحيرة قارون "45 ألف فدان" للبحث عن كنوز قارون الذهبية القديمة التي اعتقدت البعثة انها موجودة في قاع البحيرة، غير ان هذا الاعتقاد تبدد بالعودة الى كتب التاريخ التي قالت: ان بحيرة قارون كانت في الاصل جزءاً من بحيرة موريس القديمة، وانها اكتسبت اسم قارون من خلال الزيارات الترفيهية التي كان الملك قارون يقوم بها حول البحيرة، لذا اتجهت الانظار الى قصر قارون الذي يبعد قليلاً عن البحيرة، ربما يأتي الفرج من بوابة التاريخ. والفيوم واحة خضراء على شكل ورقة توت، وتُعد من أكبر الواحات الطبيعية في مصر، تبعد عن العاصمة القاهرة مئة كيلومتر، ويعتبرها كثيرون من أدفأ المناطق، وبالتالي أنسبها للسياحة الشتوية، لا سيما لهواة صيد البط والاسماك والالعاب المائية. ويشتهر أهل الفيوم بالطيبة، والبساطة وتربية الدواجن وانواع اخرى من الطيور. وأغرب ما عثر عليه الاثريون في الفيوم هو مجموعة من رؤوس السيدات الفرعونيات مرسومة من الغرانيت، وتعكس تقدم فن تصفيف الشعر عند الفراعنة على شاطئ البحيرة للاستفادة من انعكاس الشمس على سطح المياه، فتتمكن المرأة من رؤية نفسها، واعطاء توجيهات للمصففة. لكن الفيوم في الأصل مشتقة من كلمة قبطية هي "بايم" أي البحر، وفي العصر الاسلامي أضيفت اليها أداة التعريف "ال" واصبحت تنطق "البيوم"، وصارت الفيوم. وجغرافياً كانت عبارة عن منخفض كبير ملأته مياه النيل، وحولته الى بحيرة واسعة، فأطلق عليها المصريون اسم "مر - ور" اي البحر العظيم، واعتبرت الاراضي الواقعة حول الفيوم الاقليم الحادي والعشرين من اقاليم الوجه القبلي. وكان الملك امنمحات الثالث انشأ معبداً على مقربة من البحيرة سماه "معبد الإله سبك" اي التمساح في اللغة الفرعونية القديمة، وكان المصريون يعبدون التمساح. ولما جاء الاغريقيون حافظوا على المعبد وسموه "كريكوديلوس" نسبة الى التمساح، ولا يكاد الزائر للمدينة والبحيرة يجد أثراً لهذا المعبد، وان كانت هناك الآثار التي تدل على ان الفيوم ازدهرت خلال معظم الفترات التاريخية التي مرت بها، وخصوصاً في العصر الفرعوني، في فترة حكم الملك امنمحات الثالث الذي يطلق عليه العصر الذهبي للفلاح. لماذا؟ تقول كتب التاريخ: "ان الملك امنمحات الثالث اتخذ من البحيرة خزاناً طبيعياً، وانه توصل الى طريقة منتظمة لدخول وخروج المياه بواسطة سدود فيها عيون لتصريف المياه في اضيق ممر تنفذ منه المياه من مجرى النيل الطبيعي الى بحر يوسف الحالي، وقد وظف هذه المياه في زراعة مساحات شاسعة من الاراضي، وأنقذ الفلاحين من الفقر". أما اليونانيون القدماء الذين زاروا مصر فقد اطلقوا على المنطقة اسم "وريس" وأغلب الظن انه تحريف للاسم الفرعوني "مر - ور" أو البحيرة العظيمة التي جذبت اليها انواعاً لا حصر لها من الطيور المهاجرة الى الدفء بعيداً عن صقيع أوروبا، لذا ينشط هواة صيد الطيور في الشتاء، وعادة يقوم الصياد بالاتفاق مع صبية صغار لمعاونته في الامساك بالطير الجريح بعد اصابته بعيار ناري، مقابل عائد مادي أو حصة من الطيور. وتعتبر الفيوم أهم منطقة تزرع فيها نبات البردي ربما لمناخها الجاف، الدافئ في الشتاء، وكان المصريون القدامى يصنعون القوارب من سيقان نبات البردي، ويزينونها بزخارف ملونة غاية في الدقة والابداع كما يبدو على جدران المعابد في منطقة سقارة، أما القوارب المنتشرة حالياً في بحيرتي يوسف وقارون فهي مصنوعة من الخشب، ويبدو ان موسم صيد السمك لم يعد يغطي حاجات الصيادين، فاتجهوا الى استثمار قواربهم الخشبية الفقيرة في تنظيم جولات بحرية للسياح والزائرين، مقابل عائد مالي زهيد. أراضٍ خصبة وما يلفت النظر هو ان متوسط الدخل الفردي في الفيوم منخفض عن المحافظات المجاورة لا سيما القاهرة والجيزة، وعلى رغم ان الفيوم كانت سلة غذاء العاصمة على مدى العصور، لا سيما في الخضروات والفاكهة والاسماك والطيور، وكان الملك بطليموس الثاني الذي حكم مصر في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، يهدي المخلصين له اقطاعيات من اجود الاراضي في الفيوم، حتى انه منح وزير ماليته ابولونيوس ضيعة مساحتها خمسة آلاف فدان في منطقة فيلادلفيا التي تعرف حالياً باسم "جرزة" ما يعكس رخاء هذه المدينة، الا ان واقعها اليوم يبدو مختلفاً لجهة اعداد كبيرة من رجال وشباب الفيوم الذين يفدون الى العاصمة للعمل في مهن تقع في ادنى درجات العمل. ويصف أحمد عبدالحليم 32 عاماً الفيوم بقوله: "ان الأرض الزراعية أرهقت، فهي تعطي بسخاء عبر آلاف السنين، كما ان السكان ازدادوا، وصارت الأرض أضيق من ان تحتمل كثافتهم، أو ان تشبع رغباتهم، لذا تعتبر الفيوم من المحافظات الطاردة للعمالة". وما يؤكد الكلام السابق هو انتشار الصناعات اليدوية البسيطة، والمصنوعة من سيقان "الخوص" وهو نبات طويل ورفيع ينمو على شواطئ الترع، وثمة اكثر من ألف بائع لهذه الاشياء التي يحملها الزائرون كهدايا، لكنها تعكس في جانب آخر طبيعة الاوضاع الاقتصادية التي افرزت جماعات دينية متطرفة عدة، وليس مصادفة ان الدكتور عمر عبدالرحمن الزعيم الفعلي "للجماعة الاسلامية" هو أحد ابناء هذه المحافظة الوادعة، التي تحولت الى احدى بؤر العنف منذ بداية الثمانينات. وتمارس أسر كثيرة عملية تربية الطيور. والدجاج والبط الفيومان مشهوران في القاهرة بالجودة، نظراً لأسلوب تربية هذه الطيور الذي يعتمد على اطلاقها في الحقول والشواطئ لكي تحصل على رزقها بطريقتها، حسبما قال علي أبو العينين أحد تجار الطيور وهو في طريقه الى العاصمة لبيع الحصيلة، أما الطيور المهاجرة من الشمال فأبرزها: النورس - الخضراوي - البجع - الشاعر - القطي - الكوركي - الفو - الزرقاوي. ويعرف انواعها الصيادون المخضرمون الذين يفدون الى بحيرة قارون خلال الفترة من تشرين الثاني نوفمبر حتى نيسان ابريل وهي الأنسب سنوياً لصيد الطيور. أما صيد الاسماك فموسمها يمتد الى عشرة شهور، وهي اسماك اجنبية كما توحي اسماؤها "الدنيس - البوري - الفحار - البياض - الطوبارة". وجولة في اسواق الفيوم تعني حصيلة "محترمة" من شتى انواع السمك بما في ذلك البلطي وهو سمك نيلي يحبه المصريون، ويصطاده الصيادون بالصنارة أو الشبكة، وأجود انواعه "السمك الصائم" اي الذي يصطاده الصياد بعد الفجر مباشرة، وقبل ان يكون السمك بدأ جولته اليومية بحثاً عن الطعام، وانثى "البلطي" تكون شهية لما تحمله من بيض مليء بالعناصر الغذائية. ويبقى ان الفيوم مليئة بالعيون الطبيعية، على ان اشهرها هي "عين السيلين"، وترجع شهرتها الى ان مياهها من أنقى المياه المعدنية الصالحة للشرب، حيث انها قلوية معتدلة الملوحة، وتحتوي في تركيبها على اكثر من 70 في المئة من الكربونات في هيئة بيكربونات، تخرج المياه من هذه العين من منابع عدة لتصب في ترعة رئيسية، ويقول الطبيب علي عبدالغفار من مستشفى الفيوم: "ثبت بشكل مؤكد فائدة مياه عين السيلين في علاج أمراض المعدة والحموضة، بل ان وجود عنصر "التاديوم" في هذه المياه يساعد في علاج تصلب الشرايين وارتفاع الدم". كنوز الفراعنة على اي حال مازالت الفيوم لم تكشف اسرارها بعد، ولم تحك كل فصول قصتها مع الغزاة والطغاة والفاتحين والمعمرين لها. وثمة اهرامات قديمة مبنية من الطوب اللبن مثل هرم هوارة، وهرم اللاهون وقد صمدا في مواجهة الزمن بسبب طبقة من الحجر الجيري كانت تغطيهما، أما هرم سنوسرت ومسلة "ابجيج" فهما شاهدان على ما بلغت اليه البلاد من تقدم في فن البناء في الاسرة الثانية عشرة الفرعونية، وتحت حكم الملك سنوسرت، ويعتقد ان الاراضي الواقعة حول هرم سنوسرت على بعد 26 كيلومتراً من الفيوم مازالت مليئة بالكنوز الذهبية، لذا فأعمال الحفر مستمرة، ربما يعثر المصريون على هذه الكنوز.