مظفر النواب شاعر الكلمة النابضة بدفء الاهوار، التي توقظ في الروح شغف الحنين الى الأرض الاولى. صوته المجبول بايقاعات الريف متهم بالحب وشاهد على الحزن الملون بالأغاني. "الوسط" التقته خلال زيارته القصيرة الى لندن - التي أطربها غناؤه وشعره في حفلة اقامها مع صديقه الدكتور الفنان سعدي الحديثي - فكان الحوار الآتي: الشاعر مظفر النواب يبدو قصيدة طويلة بعض مفرداتها - ومقاطعها العامية خصوصاً - نتف من حياة العراق وناسه. فهو اتقن تمثل التاريخ الخاص والعام واستعارة شذرات منهما أعاد "طبخها" وتوليفها مع احلام وهموم ميزت صوته الأصيل. كيف "تورط" في الشعر والغناء وأدمن هذا اللهو المشاغب وأين أثر السيرة الذاتية في نتاجه؟ قال:"سأتوقف عند ما أعيه من المحطات التي تركت بصماتها على نتاجي مع اقتناعي بأن هناك عوامل أثرت في اللاوعي. كنت الطفل الوحيد في بيت كبير يطل على دجلة وكان لفيض دجلة ولفيض البشر الذي يتدفق على بيتنا أثر كبير في كتاباتي. كان بيتنا يغص بالناس والمشاعل وماء الورد في المناسبات العامة وكانت لأفراد عائلتي مواهب متعددة ضمخت سهراتنا بالشعر والعزف والغناء. لقد ورثت حنجرة صافية ودافئة وتدربت على الاستماع وحسن الالتقاط ولذلك خرجت من البيت مهيئاً للتفاعل مع الناس، ثم جاءت الأيام الصاخبة خلال وثبة تشرين. كان لاحتدام حشود المتظاهرين وصوت الرصاص، فعله في تشكيل الوعي السياسي لديّ. وربما ساعد في تكوين شخصيتي المتمردة تاريخ عائلتي الذي كتب في المنفى، من الجزيرة الى العراق ومن العراق الى الهند حيث حكمت عائلتنا المقاطعات الشمالية ثم المواجهة مع الاستعمار البريطاني التي انتهت بترحيلنا الى العراق. كنت يافعاً عندما وصلت الى ديوان المتنبي في مكتبتنا الكبيرة، ومن قصائده كنت أكتفي بالأبيات الصاخبة الثائرة ولم أكن أقرأ شعره في المديح على ما فيه من جمال وصنعة. ثم تهيأت لي زيارة الى مدينة العمارة، وفي سهرة على نهر "الكحلاء" استمعت للمرة الأولى الى غناء غرير وسيد هاشم وفالح، كانت اصواتهم رائعة ومنهم استمعت الى المحمداوي. كان غناؤهم لا يشبه الغناء الذي أعرفه، اصواتهم مشبعة بعبق الهور وحزنه، ومنذ ذلك اليوم بدأت القطيعة مع فنون المدينة. بعد ذلك زرت مناطق "الشموس" في الأهوار، خلال موسم الربيع وقد شق بنا "المشحوف" نهراً من الازهار والعنبر وانداحت درجات اللون الأصفر على الماء. تلك كانت صورة رائعة طبعتني بسحرها، وأعتقد ان رؤيتي الفنية تشكلت بأثر من الهور وأهله". هدية الهور لكن، يبدو ان اكتساب هذه الرؤية الفنية كان بمثابة هدية مجانية جاءته في الهور! من أين لصوته، اذن، هذه البحة الأصلية، وكيف صاغ نسيجه الشعري على نحو فيه من الجدة والعذوبة المبتكرة قسط وافر؟ سارع مظفر الى الاحتجاج على "مجانية" الرؤية التي يأتي مخاضها ذاتياً، قبل كل شيء، في رأيه. "تستطيع ان تتعلم استخدام أدوات أهل الهور، لكن هذا لن يضيف لك شيئاً، المهم هو ان تتعلم كيف ترى الأشياء من الزاوية التي يرونها منها. عند ذلك ستكون لك القاعدة التي تشيد عليها بناءك الخاص، وهذا ليس بالأمر اليسير. الرؤية الفنية لا تكتسب بسهولة، انها تراكم هائل من المؤثرات النفسية والبيئية والتاريخية. وأذكر هنا ما حصل مع "السيد هارتا" في رواية "هيرمان هيسه" عندما التقى بوذا واطلع على تعاليمه، فهو لم يتوقف طويلاً عند تلك التعاليم بل انشغل بالكيفية التي اصبح بها بوذا ما هو عليه. ما سمعت وما رأيت في الأهوار جعلني التفت الى ارث خصب ومركب ومليء بالأسرار. كان أمراً عجيباً ان ترى كيف يتزوج الحزن الغنائية المرهفة واللغة العفوية. ثم جاءت مرحلة السجن، اذ حكمت بالسجن خمس سنوات مع ايقاف التنفيذ ابان العهد الملكي. وفي العام 1963 هربت الى ايران، حيث ألقي القبض عليّ وعذبت بوحشية ثم سُلمت الى السلطات في العراق. وبعد محاكمة هزلية رسخت ما عندي من تصور عن قسوة السلطة وتفاهتها حكمت بالاعدام ثم خُفّض الحكم الى السجن عشرين عاماً مع ثلاث سنوات اضافية بسبب قصيدة "البراءة". وفي السجن عرفت معنى الحرمان من الحرية، كانت تجربة مريرة انتهت بالهروب خلال نفق حفرناه وكاد يودي بحياتنا، لقد كان الموت قريباً منا الى درجة مذهلة الا أنني خرجت من ذلك النفق بقناعة راسخة وهي ان الارادة الصادقة تجترح المعجزات. بعدها جاءت مرحلة المقاومة المسلحة، كنت في نقطة وصل بين بغداد وقواعد الثوار في الهور حيث عشت متخفياً بين الفلاحين طيلة عام كامل، وبعدما فشلت المقاومة المسلحة غادرت العراق الى الساحة العربية الارحب. كان لتربيتنا الوطنية أثر كبير في متابعة ما يحصل في كل مكان من الوطن العربي، في فلسطين وأريتريا وظفار. وقد عشت في تلك البؤر المشتعلة فور خروجي من العراق، اذ تسللنا من السودان الى اريتريا. كنا نسير ثماني عشرة ساعة يومياً قاطعين اراضي بكراً وزادنا الخبز الناشف والسمسم، وكان للطبيعة حضور عنيف حتى تكاد تتحدث الينا. المدينة قضت على الطبيعة، هناك كان الشجر شجراً والنجوم تكشف عن خلجاتها. لقد رأيت نجوماً حزينة واخرى جذلى. وهناك تعلمت الاستعارة من صور الطبيعة دون ان اخاف من الشطط. تعاركنا مع الطيور الجارحة حين توفر لنا شيء من اللحم. تلك لغة لا تفهمها المدينة، وفي ظفار كانت صور البؤس تحفر في لغتي اخاديد عميقة من القسوة". الاشارة الى "اللغة التي لا تفهمها المدينة" يقودنا الى اللغة المحكية التي كانت الباب الذي افضى بمظفر الى النص الشعري بالفصحى، فكيف تخطى تلك العتبة و اين هي تلك البدايات الاولى من نتاجه؟ "الصورة الشعرية العراقية - اذا صح التعبير - ولدت من رحم الشعر الشعبي الذي جاء في ابهى نماذجه على يد الحاج زاير. في "للريل وحمد" تبلورت عندي مقومات القصيدة اذ تعلمت اللغة العامية عبر معايشتي للفلاحين، وهي لغة عميقة تختلف عن لغة المدينة. تشبعت بها الى حد جعلني استخدم بعض المفردات قبل ان اسمعها من اهلها، ومن خلال اطلاعي على الفنون الشعبية في محيطها الاصلي امسكت بمفاتيح القصيدة اذ دوزنت حنجرتي على ايقاع الادب الشعبي. وانا عادة اتحاشى الانشغال بأي شيء حين تحضرني القصيدة، حتى انني امتنع عن كتابتها الى ان اقطع شوطاً اخشى بعده من النسيان. بعض هذه التقنيات والعادات ينتسب الى القصيدة العامية التي أسست لي مساري الشعري وصقلت رؤيتي، ما يضمن لي الخوض في خضم الانفعالات والهواجس التي يأتي بها الشعر دون ان اضيع في مساربها". سياسة الشعر هذه الانفعالات والهواجس لم تكن يوماً لدى صاحب "القدس عروس عروبتكم…" ارهاصات بريئة من السياسة. لا بل كثيراً ما وجهت اليه تهمة تغليب السياسي على الفني، وصياغة منشورات حزبية نضالية على هيئة قصائد تنضج بالخطابية وترقد في حضن السياسي رهينة له يملي عليها شروطه الجمالية التي تنفذها بولاء. فماذا يقول مظفر لنقاده هؤلاء؟ "عندما نفهم السياسي بشكل جيد لا نخشى منه على الفني، فالوعي السياسي يرتكز على نظرة شمولية الى العالم، او هكذا يجب ان يكون، إذا شئت. وهذا يختلف عن المقولات الأيديولوجية الجاهزة، التي أرفض تعاطيها. قد اتقاطع معها في هذه المحطة او تلك، إلا ان لقاءنا يحصل بدافع الهم الانساني المشترك. ان مهمة السياسي هي تهذيب وبلورة الانساني، وعندما يتلكأ عن مهمته هذه اتجاوزه. خذ مثلاً على ذلك قصيدة "صويحب". هذا النص واقعي جداً وبالمفهوم السائد سياسي جداً، إلا انه يحمل الكثير من مواصفات القصيدة الوجدانية. الموضوع الانساني يحتوي على السياسي والفني والأمر يتوقف على الحد الذي يفصل بين الشعر الرديء والجيد. عندما يكون الشعر جيداً لا أخشى عليه من السياسة، وأعتقد بأن الموقف السياسي قادر على اغناء الفن عندما يتأسس على دوافع انسانية. أما الذين يغمزون من قناة قصيدتي يسمونها "منشوراً حزبياً" فهم متجنون ومتسرعون. لا يخفى ان الاعتبارات الحزبية لعبت دوراً مشيناً في الثقافة العربية بشكل عام وفي العراق بشكل خاص. هذا الموضوع يستحق المراجعة، شخصياً أنا ضد الانتماء الحزبي لأنني لا استطيع ان أضع نفسي في قوالب محددة جامدة. استطيع ان امكث في هذه الغرفة لمدة عام كامل برغبتي ولكن عندما تفرض عليّ البقاء فيها فسوف اغادرها فوراً. أنا متمرد بطبعي واعتقد ان الولاء الحزبي لا يتفق بشكل عام مع حرية الابداع، خصوصاً وأن أكثر احزابنا تأسست على مفاهيم عشائرية". لكن، الاجابة بشطريها لم تتطرق الى مسألة مختلفة انطوت عليها تسمية القصيدة بالمنشور، وهي "وظيفية" نص مظفر النواب المعني بأداء "مهمة" سياسية قبل أي شيء آخر. "عندما يتردد ان القصيدة السياسية سريعة العطب - قال الشاعر - لا أبدي أي قلق. لتعطب، المهم، هو هل أدت وظيفتها أم لا؟ في أوقات معينة كتبت قصائد أقرب الى البرقيات، كانت تقوم بوظيفة محددة وهي مساعدة الناس على الوقوف بوجه خطر داهم. عندما تكون ازاء خطر مثل هذا لا تفكر بهيئة سلاحك ومدى جاذبيته بل بمدى فاعليته. قد تأتي قصيدة كهذه بمواصفات فنية عالية وقد لا يتحقق ذلك فيها، إلا انك في كل الأحوال أنجزت مهمة هي قطعاً من مهمات الابداع". هكذا، إذن، لا تقلقه "سياسية" صوته الشعري ولا "وظيفية" قصائده التي ينبري للدفاع عنها مدججاً بحجج تستقي صدقيتها من تجربته التي تبلورت على حافة الموت وفي رحاب القهر والمنفى. وإذا كان متصالحاً مع سياسية الشعر وشعر السياسة، فماذا عن الحداثة، هل تشغله وتغريه بألعابها؟ بدا الشطر الأخير من السؤال للشاعر فاقداً للمعنى - او غائماً على الأقل - فهو سارع الى التذكير ان "الحداثة لا تأتي بقرار، وهي تجيء حين يجد الشاعر أدواته عاجزة عن تلبية حاجاته. لذا، ليس الانشغال بالحداثة او الاستسلام لاغراءاتها أمراً أقدم عليه بمحض ارادتي. والاستعانة بأدوات وتقنيات حداثية تتم بعد التحقق اللاواعي أساساً من الحاجة اليها. والحديث عن الحداثة يجب ان يتبع التحديث، اي انك تكتب اولاً ثم تكتشف الجوانب الجديدة في قصيدتك. يعتقد البعض بأن التغريب والتعمية هما التحديث ويضعونهما ازاء الوضوح الذي يسمونه بالسياسي، وهذا تعسف واضح. قد تنظم قصيدة واضحة وسياسية تأتي منسوجة وفق صياغات حديثة. عندما كتبت "للريل وحمد" لم أكن أعرف ما الجدة فيها. وكان ان أخذها "علي الشوك" من دفاتري ونشرها، فقيل الكثير عن الجديد الذي جاءت به. على أية حال الجديد والجيد سيمكث اما الغث فسيسقط أياً كان اسمه. من مواهب مظفر "المغمورة" صوته الشجي الذي لا يكشف عن حسنه إلا لماماً، وريشته التي تنم عن ولع باللون والتشكيل والاشتغال عليهما. بيد انه يفضل، من زمن، الرسم بالكلمات على الألوان والخطوط، فهل ضاع الفنان التشكيلي في عالم مظفر، والى أي مدى يوظف الذائقة البصرية في رسم قصائده؟ قال: "لا زلت ارسم من وقت لآخر حسب الظروف. فقدت لوحاتي في ظروف سخيفة فصرت مقلاً بالرسم كردة فعل على ذلك. ولكن على رغم ذلك لم اتوقف عن الرسم، الذي أثر في شعري بالتأكيد وعلى نحو عفوي لا افتعله وقد تستطيع ملاحظته في تشكيل القصيدة وفي ألوانها". مظفر، الذي يسكن القصيدة فهي خيمته التي يحملها ويمضي كلما آن الأوان، يعيش في ليبيا، حيث تخلى عن استقلاليته وتوقه الى البقاء طلقاً في عالم الشعر، على حد تعبيرالبعض، فهل فقد حريته فعلاً؟ قال: "عندما استدعت الظروف خروجي من لبنان لم يكن أمامي خيار سوى الذهاب الى اليونان، هناك لم تكن الحياة يسيرة وكنت مهدداً باستمرار حيث تعرضت الى حادثة كادت تودي بحياتي. في تلك الظروف عُرضت عليّ الاقامة في ليبيا، فاشترطت عدم التدخل في شؤوني. لم يتدخل أحد ولو حصل ذلك لما سمحت به".