"لقد توافرت لدينا كل العوامل العسكرية الكفيلة بإنجاح عملية فك الحصار عن ساراييفو، لكننا ما زلنا ننتظر القرار السياسي". هكذا رسم الجنرال البوسني مصطفى خيرالله ل "الوسط" الوضع العسكري في منتصف شهر آذار مارس الماضي. وكما اتضح فيما بعد فإن القرار السياسي اذن لهذه العملية بأن تبدأ فجر 16 حزيران يونيو الماضي، بعد أن توافرت لها العوامل العسكرية وغير العسكرية، ان لم يكن لانجاز العملية فعلى الأقل للبدء بها. فبعد شهور من الهدوء النسبي الذي شهدته ساراييفو منذ الانذار الشهير للحلف الأطلسي في شباط فبراير 1994، وتوقف الميليشيات الصربية عن قصف المدينة والامتناع عن صيد المواطنين في الشوارع برصاص قنصاتهم، تدهور الوضع بسرعة مع مسلسل الاعتداءات الصربية على القوات الدولية والاستيلاء على الأسلحة الثقيلة التي كانت هذه الميليشيات أودعتها مستودعات الأممالمتحدة وفقاً للانذار الأطلسي. وعاد البوسنيون يهرولون في الشوارع هرباً من رصاص القناصة الصرب. وارتجت المدينة من جديد على وقع الانفجارات الصربية. وساءت الأوضاع الحياتية ربما بشكل لم تشهده طوال ثلاث سنوات من الحصار، بعد أن أغلق الصرب مطارها الذي تصل عبره كل المساعدات التي تحملها طائرات المفوضية العليا للاجئين كما أغلقوا كل الطرق البرية التي تستخدمها قوافل الاغاثة الى المدينة، وقطعوا امدادات المياه والكهرباء وكذلك الغاز المستخدم في الطهي، وحتى الطريق الوحيد الذي يربط العاصمة بوسط البلاد أصبح مهدداً بالقصف الصربي، وهو الطريق الذي يستخدمه البوسنيون على رغم مخاطره الشديدة حيث يعبرون في نفق مظلم تحت مدرج المطار يؤدي الى مرتفعات ايجمان التي تطاولها المدفعية الصربية المتمركزة في ضاحيتي هادجيتشي واليجا. وأدى هذا الوضع الى تهيئة البوسنيين لعملية عسكرية تهدف الى فك الحصار عن العاصمة وتحريرها من قبضة الميليشيات الصربية مهما كان الثمن. وإذا سألت أي بوسني عن رأيه يرد بالقول المعروف "لم يعد لدينا ما نخسره". مهمة تاريخية لقد استعدت المدينة اذن لذلك، وكأنها تعلم كيف سيكون الانتقام الصربي عنيفاً، واعادت فرق الدفاع المدني تنظيم الشوارع وكتابة اللافتات الحمراء التي تحذر المارة من خطر القناصة الصرب. وأقيمت المتاريس الرملية أمام البنايات المهمة، في مشهد غريب على مدينة تعيش الحرب منذ ثلاث سنوات. وكان واضحاً للمواطنين ان حدثاً كبيراً على وشك ان يقع، وان الجيش البوسني يكاد أن يبدأ مهمة تاريخية هي فك الحصار عن احدى أجمل المدن الأوروبية بعد أن خذلتها أوروبا والمجتمع الدولي. وكانت المرحلة الأولى من فك الحصار بدأت في بداية الحرب عندما نجح البوسنيون في طرد عشرة آلاف جندي صربي كانوا في قلب ساراييفو يتحصنون في مراكز وبنايات مهمة. اما المرحلة الثانية فانطلقت ليل 15 - 16 الشهر الماضي عندما بدأت الحشود البوسنية دك المواقع الصربية - للمرة الأولى منذ بداية الحرب - بمدافعها الثقيلة التي غنمت معظمها من الميليشيات الصربية نفسها. وحسب تصريح ضابط بوسني كبير فإن عمق الحصار العسكري لساراييفو يبلغ دائرة نصف قطرها 20 كيلومتراً، ويمكن للأسلحة الصربية الثقيلة ان تغطي بنيرانها كامل الدائرة التي تبلغ مساحتها ما يزيد عن 1200 كيلومتر مربع. ولفت أنظار المراقبين ان البوسنيين بدأوا معركتهم على كل محاور القتال التي تفصل بينهم وبين الصرب حول العاصمة، وليس على محور فيسوكو، كما أشار بعض التوقعات. وانطلقت الهجمات البوسنية باتجاه ضاحية الياش لتحريرها، ثم ضاحية فوغوشتشا التي تستهدفها أيضاً الهجمات البوسنية المنطلقة من جبال تشيمر وكذلك ضاحية حاجيتشي ومنها الى ضاحية اليجا. هجوم كاذب وفي الوقت نفسه فإن الوحدات العسكرية البوسنية المتواجدة في جبال ترسكافتسا جنوب ساراييفو انطلقت ناحية بلدة ترنفو التي تفتح الطريق الى الجيوب المسلمة المحاصرة شرق البلاد، وما أثار الدهشة كذلك ان البوسنيين شنوا هجماتهم كذلك من داخل المدينة ضد الطوق الصربي الذي يحاصرها، لكن المراقبين العسكريين يعتقدون بأنه هجوم كاذب يستهدف تشتيت الميليشيات الصربية ومنعها من توجيه كل قواها ضد الهجمات البوسنية عليها من خارج المدينة. ومن مفاجآت هذه العملية أيضاً مشاركة الكروات فيها واستخدامهم أسلحتهم الثقيلة. وأقرت قيادات الطرفين، المسلم والكرواتي، ان تنسيقاً عسكرياً يتم بين الجيش البوسني وميليشيات كروات البوسنة. ويأمل الكروات من هذا التعاون عدم افساح المجال أمام الجيش البوسني للسيطرة على المناطق التي قد يحررها والتي كانت تعيش فيها غالبية كرواتية، كما أن العملية العسكرية تمثل أهمية أكبر من كونها فتح عاصمة، ذلك ان من نتائجها السيطرة من جديد على طرق رئيسية تمر وسط البلاد، وانفراد المسلمين بذلك سيكون على حساب الكروات. وتشير التقديرات الى ان عدد الميليشيات الصربية التي تحاصر ساراييفو يبلغ حوالي عشرين ألف جندي مدربين تدريباً جيداً، اضافة الى 300 مدفع وحوالي 100 دبابة وعدد غير معروف من الطائرات المروحية التي تستخدم في الامدادات واخلاء الجرحى وأحياناً للعمليات العسكرية وتسعى القوات البوسنية التي تشارك فيها كل وحدات الجيش من كل الألوية الى محاصرة الطوق الصربي حول العاصمة، وقطع كل خطوط الامدادات أو تهديدها على الأقل ما يؤدي الى تجزئة الميليشيات الصربية حول العاصمة الى جيوب معزولة عن بعضها البعض الأمر الذي يسهل استسلامها. وتؤكد التقارير الأولية ان الجيش البوسني حقق تقدماً على جميع محاور القتال، وتفيد البيانات الرسمية البوسنية ان كميات ضخمة من الأسلحة والذخائر غنمها الجيش البوسني بما فيها مستودعات كاملة. وقال ضابط بوسني مازحاً "لم نعد في حاجة لفك حظر التسلح عنا". وتجاهلت وكالات الأنباء العالمية في البداية هذه النجاحات ونفتها وسائل الاعلام الصربية بشدة، غير أن تقارير القوات الدولية والصور الحية التي يبثها الجيش البوسني وقصص الجنود البوسنيين العائدين في عطلة قصيرة الى ساراييفو تؤكد نجاحات الجيش البوسني. وللمرة الأولى بدأت الاذاعة الصربية تناشد الصرب الذين يقطنون "الأراضي المحتلة" التطوع والتوجه على الفور الى ميدان القتال "لأن معركة حاسمة تدور على بوابات ساراييفو" كما ناشدتهم. وتطرح تساؤلات عن الفترة التي ستستغرقها هذه العملية. لكن القادة العسكريين البوسنيين يؤكدون ان الزمن يلعب لمصلحتهم وأنهم سيفتحون ساراييفو قبل حلول فصل الشتاء، غير أن تدهور الأوضاع المعيشية في المدينة يضغط عليهم للاسراع في فك الحصار عن "ياقوت البلقان" كما كان يطلق على ساراييفو قبل الحرب.