لم يفاجئ تدهور الموقف في البوسنة الدول الغربية، فهي كانت تعرف ان انتهاء أجل الهدنة بين الصرب والمسلمين في نهاية نيسان ابريل الماضي من دون التوصل الى حلٍ سياسي من شأنه ان يفتح الوضع مجدداً على مخاطر جديدة. مارس الغربيون ضغوطاً سياسية لتجميد الوضع على الأرض وبالتالي للحؤول دون استئناف الحرب على نطاق واسع. وكثفوا اتصالاتهم ببلغراد وفاوضوا الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش على وقف الحصار الاقتصادي عن بلاده في مقابل اعتراف بلغراد باستقلال البوسنة - الهرسك والقبول بنظام لمراقبة الحدود بين صربيا والجبل الأسود من جهة وبين البوسنة - الهرسك من جهة أخرى، وبالتالي ضبط طرق الامداد المتصلة بصرب البوسنة. وكادت هذه الاتصالات والضغوط ان تثمر، خصوصاً ان روسيا متحمسة لها، لكن رادوفان كارادجيتش زعيم صرب البوسنة استبق هذه العملية وفجّر الموقف على كل صعيد لخلق أمر واقع جديد على الأرض وبالتالي عدم السماح باحكام الطوق حول جماعته وعزلهم عن مواقع امداداتهم العسكرية والسياسية في بلغراد وموسكو. وحاول الحلف الاطلسي ردع كارادجيتش وترهيبه عبر غارات جوية طاول بعضها باليه عاصمة صرب البوسنة. فرد هؤلاء باعلان الحرب على الأممالمتحدة وتجاوزوا كل الحدود السابقة واعلنوا الغاء كل اتفاقاتهم مع ممثلي الأممالمتحدة، وبادرت القوات الصربية الى الغاء هذه الاتفاقات على الأرض من خلال المبادرات الآتية: 1- التعرض لمناطق الحماية الأمنية خصوصاً في مدينة توزلا حيث قصفت المدفعية الصربية مقهى يتجمع فيه مدنيون فسقط أكثر من سبعين قتيلاً. 2- استعادت قسماً كبيراً من أسلحتها ومخازنها في منطقة قطرها 20 كلم حول ساراييفو كانت الأممالمتحدة ثبتتها في قرارات سابقة اثر مجزرة ارتكبها الصرب في السوق المركزية في ساراييفو. 3- احتجز الصرب مراقبين دوليين في المنطقة المحايدة حول ساراييفو وأسروا جنوداً دوليين في وسط وشمال البوسنة وصل عددهم الى حوالى 400 عنصر وينتمون الى جنسيات فرنسية أكثر من النصف وبرياطنية وكندية واوكرانية وغيرها. 4- بالغ الصرب باهانة المحتجزين من جنود الاممالمتحدة فوزعوهم على "مواقع استراتيجية" وعرض التلفزيون الصربي صوراً لجنود فرنسيين وبريطانيين مقيدي الايدي أو يرفعون رايات بيضاء أو مربوطين برادارات ومخازن اسلحة لاستخدامهم كدروع بشرية اتقاء من غارات جوية اطلسية. 5- حاولت قوة صربية احتلال موقع ثابت للامم المتحدة يقع على جسر فربانجة بالقرب من باليه ما يشكل تصعيداً جديداً في الموقف، لكن الوحدة الفرنسية التي تتولى حماية المكان استعادت الموقع بسرعة متجاوزة الأوامر الممنوحة للقوات الدولية والقاضية بعدم استخدام القوة الا في حالة الدفاع عن النفس. 6- واصل الصرب اقفال مطار ساراييفو منذ أكثر من شهرين. 7- توج الصرب هذه المبادرات باعلان عدم اطلاق الرهائن الدوليين الا بعد الحصول على ضمانات دولية بعدم قصف المواقع الصربية جواً واعلان حياد قوات الأممالمتحدة في الصراع البوسني - الصربي. صور من مجاهل التاريخ جندي فرنسي يرفع راية بيضاء! وبريطاني مربوط الى رادار! وكندي مقيد اليدين على مدخل مخزن اسلحة! هذه المشاهد لم يعرفها الرأي العام الغربي في العصر الحديث ما يعني ان كارادجيتش كان يرغب في بلوغ هذا الهدف وبالتالي رفع مستوى التحدي للغرب الى درجات قياسية وخوض معركة فاصلة يراهن من خلالها على ازالة العقبة الوحيدة أمام تحويل انتصاراته العسكرية على الأرض الى انتصارات سياسية. وبتعبير آخر دفع القوات الدولية الى الاختيار بين مغادرة البوسنة أو خوض الحرب ضد قواته، مع معرفته التامة ان هذه القوات لا ترغب وهي ليست قادرة على خوض الحرب في البلقان، فيكون بذلك عطل التحرك السياسي الدولي باتجاه بلغراد وموسكو الذي يستهدف عزله. وباختصار يلعب كارادجيتش الآن كل رصيده في مقامرة جنونية حقيقية، فهل يربح الرهان ام يخسر الحرب ضد المجتمع الدولي ويخلي المكان لزعيم صربي آخر مؤهل للتفاوض والمساومة؟ للرد على هذا السؤال لا بد من معرفة قدرة المجتمع الدولي على مواجهة تحدي صرب البوسنة، علماً ان القوات الدولية برهنت في السابق عن عجز مخيف أمام الميليشيات الصربية فضلاً عن اعلان الدول الغربية مراراً انها غير مهيئة لخوض حرب في البوسنة، لكن الظروف الحالية تختلف تماماً عن الظروف السابقة، أقله بالنسبة الى مهمة الأممالمتحدة في البوسنة التي فقدت كل أسسها. فمن المعروف ان هذه القوات كانت تتولى، نظرياً على الأقل، ثلاث مهمات: الأولى تقضي بتموين السكان المدنيين المحاصرين في ساراييفو بقية المدن البوسنية، وهذه المهمة باتت مستحيلة، وغير ممكنة مع اصرار الصرب على عدم السماح بفتح مطار ساراييفو التي تتم عبره عمليات الاغاثة والتموين. الثانية تقضي بمراقبة مخازن الاسلحة والاسلحة الثقيلة في منطقة قطرها 20 كلم حول ساراييفو، وهذه صارت بحكم المنتهية بعد احتجاز الميليشيات الصربية مراقبي الاممالمتحدة. المهمة الثالثة تقضي بالفصل بين المتحاربين وتوفير الحماية للمدن المشمولة بقرارات أمنية دولية، وهذه المهمة اصبحت في غاية الصعوبة بسبب الاعتداءات الصربية المتكررة على هذه المدن وعدم قدرة القوات الدولية على الرد على هذه الاعتداءات لأن مهمتها محددة بالدفاع عن النفس من جهة ولأن احتجاز الصرب للرهائن الدوليين يُعطل استخدام الطيران الصربي الأطلسي. في مواجهة ذلك لم يعد أمام القوات الدولية سوى الاختيار بين حلين كلاهما صعب: الحل الأول يقضي بسحب هذه القوات التي باتت غير قادرة على احترام مهمتها، وهذا الخيار يعني استسلاماً دولياً صريحاً امام منطق القوة الدولية مع ما يترتب عليه من احتمالات خطيرة تتجاوز البوسنة الى منطقة البلقان التي ستصبح مهددة بانفجار حقيقي تصيب شظاياه السلام في العالم، وهو ما لا تستطيع الدول الأوروبية القبول به لأنه يتصل مباشرة بأمنها. الخيار الثاني وهو المرجح ويرمي الى الحفاظ على القوات الدولية في البوسنة مع ادخال تعديلات جوهرية على مهمتها والاستعداد الجدي لحمايتها وفرض احترام القرارات الدولية بالقوة من دون ان يصل استخدام القوة الى حد اعلان الحرب على صرب البوسنة، ولعل هذا هو جوهر الرد الاوروبي الاطلسي على اعلان الحرب الصربي. ويستند هذا الرد، حسب مصادر فرنسية مطلعة، الى منطق المناورة العسكرية والضغط الديبلوماسي. اما المناورات العسكرية فقد اخذت ابعاداً جديدة تطورت مع درجة التحدي الصربي، ويمكن حصرها في الخطوط الاتية: 1 - تركيز قطع بحرية أميركية وفرنسية في منطقة الادرياتيكي واستخدام القوات الاطلسية المستنفرة في عمليات عسكرية محتملة والتدخل السريع للرد على كل الاحتمالات، بما في ذلك محاولة اطلاق الرهائن الدوليين بالقوة. 2 - اعلان بريطانيا استعدادها لزيادة حجم ونوعية قواتها في البوسنة بما قد يصل الى عشرة آلاف جندي، وهذه هي المرة الاولى التي تبدي فيها لندن استعدادها للانخراط عسكرياً في الصراع. واللافت في هذا المجال ان الحكومة البريطانية دعت البرلمان لمناقشة الاحتمالات في البوسنة وهذه المبادرة هي الثانية من نوعها بعد حرب الخليج الثانية. قوة دولية ضاربة 3 - اعطاء أوامر عسكرية فرنسية بالرد على اي اعتداء صربي بطريقة تتجاوز عتبة القرار الدولي القاضي بعدم اطلاق النار إلا في حالة الدفاع عن النفس، وأكد هذه الاوامر الاميرال جاك لانكساد رئيس الاركان الفرنسي. وقد ترجمت القوات الفرنسية هذه الاوامر بسرعة على الأرض عندما تصدت لقوة صربية واستعادت موقع سييرافيكتور الذي احتله الصرب على جسر فربانجا بالقرب من باليه. قوة دولية ضاربة 4 - بموازاة ذلك اصبح شبه مؤكد صدور قرار دولي جديد يقضي بادخال تعديلات حقيقية على مهمة القوات الدولية في البوسنة بحيث يصار الى تجميعها لتسهيل تحركها في تشكيلات قتالية بدلاً من بعثرتها وتشتيتها وبالتالي حرمانها من هامش المناورة كما هي اليوم. والاهم من ذلك تزويد هذه القوات باسلحة ووسائل عسكرية فعالة تسمح لها بالرد العسكري السريع على اعتداءات صربية محددة والتنسيق في ذلك بين القوات الدولية والحلف الاطلسي. وفي أقصى الحالات يمكن توقع تغيير جوهري في طبيعة مهمة هذه القوات بحيث تنتقل من حالة "صيانة السلام وحفظه" وهي مهمة لم تكتمل في اي يوم منذ اندلاع الحرب البوسنية، الى حالة "فرض السلام"، وهو أمر يتطلب استخدام القوة والاستعداد لخوض الحرب الأمر الذي يتجاوز، حتى الآن على الاقل، تحليلات القادة الغربيين للأزمة، ولا سيما الولاياتالمتحدة التي كررت موقفها السابق القاضي بعدم ارسال قوات برية الى البوسنة. في موازاة المناورات العسكرية الضخمة تتحرك مجموعة الاتصال الدولية حول البوسنة فرنساوبريطانيا والمانيا وروسيا واميركا باتجاه بلغراد التي تبدو وهي المحاصرة، وكأنها تملك مفاتيح الحل. فقد اصدرت المجموعة بياناً علنياً اثر اجتماع طارئ الاسبوع الماضي يتضمن استعداد الدول الغربية لفك الحصار الاقتصادي عن صربيا والجبل الأسود لقاء اعتراف هذه الاخيرة باستقلال البوسنة - الهرسك وقبولها بنظام مراقبة حدودي صارم لقطع الامدادات عن الميليشيات البوسنية الصربية. ووجهت مجموعة الاتصال في الوقت نفسه انذاراً الى تلك الميليشيات طالبت فيه باطلاق الرهائن الدوليين وحملتها مسؤولية المخاطر التي قد يتعرضون لها. فهل يستجيب ميلوسيفيتش لهذه المساومة؟ اذا ما عدنا الى تطورات الموقف اليوغوسلافي صربيا والجبل الأسود من قضية الرهائن نلاحظ انها مرت بمرحلتين، في الاولى كانت بلغراد تدعو "الاطراف المعنية" الى تجنب "تدهور الموقف" على الأرض، وفي المرحلة الثانية ادانت بلغراد خطف "القبعات الزرق" وطالبت باطلاق سراحهم. استبدال كارادجيتش لكن الادانة اليوغوسلافية لا تصل الى حد الموافقة على المساومة المقترحة لكنها تسير في "هذا الاتجاه" حسب المصادر الفرنسية التي تعتقد بأن التفاوض مع كارادجيتش بات مستحيلاً باعتبار انه قطع كل جسور التفاوض باحتجازه القوات الدولية من جهة، وهو من جهة ثانية رفض في السابق كل محاولات تطبيق برنامج السلام الدولي القاضي بتقسيم الأراضي البوسنية. في ضوء ذلك يبدو تدخل ميلوسيفيتش معطوفاً على الموقف الروسي من الأزمة، وكأنه الموقف الوحيد القادر على وضع حدٍ لتدهور الوضع في البوسنة ما يعني ان بلغراد ستعمل من الآن فصاعداً على مقايضة تدخلها في الأزمة بثمن مرتفع لم يتضح حجمه ونوعه بعد. ولعل توقعات كثيرين في بلغراد حول احتمال استبدال كارادجيتش بزعيم صربي بوسني آخر مؤهل للتفاوض وتقديم التنازلات تحمل بوادر ذات دلالة مهمة في هذا المجال. لقد بلغت الأزمة البوسنية اقصى درجات التوتر وهي تقف امام منعطف كبير وستشهد في كل الحالات تغييرات مهمة في دور القوات الدولية وموقع قيادة صرب البوسنة ودور ميلوسيفيتش... وربما في خطة السلام الدولية. فهل تواصل الميليشيات الصربية سياسة الهروب الى الامام وبالتالي الامعان في اهانة المجتمع الدولي وفرض ارادتها على الجميع، أم تدفع ثمناً لهذه السياسة ما يفتح افقاً جديداً امام تسوية سلمية للأزمة؟