فياتشيسلاف ايفانكوف... هل تريد أن تراه؟ انه عادة لا يغادر مكانه المعروف: برايتون بيتش في منطقة بروكلين، في نيويورك، التي تعد معقلاً ليهود روسيا الذين بقوا ما ينوف على نصف قرن الفئة الأشد نفوذاً سياسياً وسطوة اقتصادية في نيويورك. وحيث يزجّي اليهود الروس فراغهم جلوساً على الأرائك الخشبية العتيقة، يثرثرون، وينفثون التبغ، بل قد ينهمك بعضهم في مباراة شطرنج حامية، هناك ستدرك، من دون كثير عناء، ان ايفانكوف 55 عاماً رجل غير عادي. أو، على الأقل، يحظى باهتمام ظاهر، ويثير اهتماماً لا يخفى. فهو ثري للغاية، ويراقب كل حركة من حركاته اثنان من عملاء مكتب التحقيقات الفيديرالي، ويبقيان في مراقبته حتى بعد ان يدلف عائداً الى منزله. انه - بالنسبة الى بقية يهود برايتون بيتش - العرّاب الذي كانه مارلون براندو بالنسبة الى الايطاليين. وزير خارجية ستالين ولد اسحق ولفشتاين - وهذا اسمه الحقيقي - في تفليس، عاصمة جورجيا، العام 1940. وحصل على اسمه الحالي بعد عام واحد من مولده اثر الغزو النازي لروسيا. وكان معظم يهود روسيا تخلوا يومئذ عن أسمائهم اليهودية خشية وقوعهم في أيدي النازيين الذين نشطوا في الزج باليهود في معسكرات الاعتقال، والشغل الشاق. واختار له ذووه الاسم الأول لمولوتوف وزير خارجية نظام جوزيف ستالين. اما ايفانكوف أو ايفانوف فهو الاسم الاكثر شيوعاً في روسيا. بدأ صيت ايفانكوف ينطلق قبل مغادرته موسكو، ولما يكن تجاوز عامه الخامس والعشرين. وكانت السلطة آنذاك بيد خروتشيف الذي تغاضى عن الملكية الفردية في حدود ضئيلة. وكان الروبل - العملة الروسية - يعادل نحو دولار اميركي. وزاول ايفانكوف ابتزاز المليونيرات الذين جمعوا ثرواتهم من التعاطي بالسوق السوداء. واشتهر خصوصاً بقسوة وفظاظة لا رحمة فيهما لمن يرفض دفع الأتاوات التي كان يفرضها. وبقي على ذلك حتى العام 1980 عندما قبضت عليه الشرطة بعدما اعدم أحد دائنيه بقسوة لم يعرف لها عالم الجريمة في روسيا نداً. وقال احد عملاء الاستخبارات الاميركية الذي درس عالم الجريمة في روسيا ان ايفانكوف أقنع محاميه بتقديم رشوة الى القاضي لانقاذه من العقوبة. غير انه بعد عامين وقع ثانية في أيدي الشرطة ولم تنجح مساعيه في التلاعب بأوراق القضية، وحكم عليه هذه المرة بالسجن 14 عاماً. لكنه خرج منه بعد قضاء 9 سنوات فحسب. ويقول الكسندر سيروتكين ضابط الأمن في السفارة الروسية في واشنطن، وكان آنذاك ضابطاً في شرطة المباحث برتبة ميجور، ان خروج ايفانكوف من السجن قبل اكماله فترة عقوبته كان فضيحة مثيرة للاشمئزاز، خصوصاً ان سجله في السجن كان ملطخاً بمخالفات ضرب الحراس، وتأييد السجناء المتمردين، وعدم التعاون مع سلطات السجن. شهادة السجين النموذجي ويضيف ان احد اعضاء البرلمان الروسي دوما التمس من السلطات اطلاق ايفانكوف العام 1990 بدعوى أنه أصلح نفسه وتاب عن جرمه. "وأقنع مأمور السجن بتحرير كتاب رسمي يشهد فيه بأن ايفانكوف سجين مثالي. وطلب اناتولي ميركوشيف نائب رئيس المحكمة العليا من المحكمة التي أصدرت حكمها بادانة ايفانكوف بخفض فترة العقوبة. ولما رفضت حوّل ميركوشيف الاوراق الى المحكمة العليا التي أصدرت قراراً باسقاط ما بقي من عقوبته". لم يبدد ايفانكوف وقته هباء، فقد بادر بالتقدم بطلب للحصول على تأشيرة تتيح له الهجرة الى الولاياتالمتحدة. ومع ان واشنطن بقيت ترفض اصدار التأشيرة لأي مهاجر تثبت ادانته جنائياً، حتى اذا كان ذلك في جريمة سرقة من متجر، الا انها منحته التأشيرة المطلوبة. وذكر احد عملاء مكتب التحقيقات الفيديرالي ان ذلك حدث لأن ايفانكوف يهودي. وقال احد مسؤولي ادارة الهجرة والجنسية في واشنطن ان من أسباب قبول طلب الهجرة الذي تقدم به ايفانكوف ما ذكر في جواز سفره من أن مهنته "مخرج سينمائي". وعلى رغم الجهود التي تبذلها السلطات الاميركية لملاحقة رجال المافيا، فليس ثمة شك في أن وجود المافيا الروسية زاد في نيويورك في السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة. ويقول ريموند كير مدير دائرة مطاردة المافيا الروسية في مكتب التحقيقات الفيديرالي في نيويورك "ان اعضاء عصابات المافيا الروسية والاوكرانية اكثر تنظيماً، وذكاءً، وبراعة من تجار المخدرات في اميركا اللاتينية. كما أن هناك في اعتقادي صلات بينهم وتجار المخدرات الكولومبيين، وأعضاء المافيا الصقليّة في نيويورك". وقد أدى هذا التطور الأخير الى مسارعة مكتب التحقيقات الفيديرالي اخيراً باتخاذ قرار بفتح فرع له في موسكو، للتركيز على نشاط المافيا الروسية من كثب، اضافة الى الوحدة التابعة للمكتب في السفارة الاميركية في موسكو، ومهمتها التركيز على مكافحة التجسس. اما النشاط الرئيسي الذي تركز عليه المافيا الروسية في أميركا فهو غسل الأموال. لكن كيف يتم ذلك؟ يقول أحد مسؤولي مكتب التحقيقات الفيديرالي: "قد يطلب ديبلوماسي روسي في الأممالمتحدة - مثلاً - من رجال المافيا شراء شيء معيّن. قيمته الحقيقية نصف مليون دولار من احدى الشركات، وتوافق الشركة على ارسال فاتورة تُظْهِر قيمة البضاعة بمليون دولار. ويدفع نصف المليون في مقابل البضاعة المشتراة، ليذهب نصف المليون المتبقي الى موسكو. وقد لا تكون المسألة بهذه البساطة، لأنه قد يضطر الى تأسيس شركات وهمية والى دفع رشاوى. غير ان ذلك هو الأسلوب المتبع بشكل عام". ومن البلدان التي تستخدمها المافيا قبرص مع أن بينها وبين الاتحاد الروسي معاهدة لتقاضي الضرائب وفرضها على رعايا الدولتين. والسبب في استخدام قبرص هو انخفاض الضريبة على الشركات والأفراد. ويمكن أيضاً تحويل الأموال من قبرص بصورة مشروعة الى الولاياتالمتحدة أو الى أي مكان لا توجد فيه ضريبة عالية مثل جزر كيمان. شخصيات المافيا الرئيسية من هي الشخصيات الرئيسية في هذه المنظمة، أو بالأحرى في هذه المنظمات المتحالفة التي لا تعرف الرحمة؟ قد يكون ايفانكوف، الذي تقدّم ذكره، اهمها. غير ان من أبرزها أيضاً الكسندر ماليشيف، وهو مصارع سابق، تولى زعامة المافيا في مدينة سانت بيترسبيرغ، وكان له اكثر من مائتي تابع. اما مجال نشاطه فقد كان الدعارة والمَيْسِرْ. وفي العام 1992 اعتقلته قوات الأمن مع 32 من اتباعه، لاختطافه تاجر مشروبات كحولية تخلف عن دفع ثلاثمائة ألف دولار من الأتاوة التي فرضها عليه. لكن الادعاء العام لم يستطع تقديم أي دليل على انه ارتكب "شخصياً" أي مخالفة. وهكذا اضطرت السلطات الى اطلاقه بعد احتجازه فترة طويلة، من دون محاكمة، لعدم كفاية الأدلة ضده. والحق يقال ان الصحافة الروسية كانت دائماً تتصدر الجهود المبذولة لفضح المافيا وكشف جرائمها. ففي العام الماضي نشرت صحيفة "إزفستيا" مقالاً عنوانه "وزارة السرقات"، ذكرت فيه "ان أوجه الشبه بين روسيا والديموقراطيات الفتيّة في أوروبا الشرقية أقل من أوجه الشبه بين روسيا وحكم اللصوصية والسرقة في دول مثل زائير ونيجيريا وكولومبيا". وفي تشرين الأول اكتوبر الماضي سلّط اغتيال الصحافي الروسي ديمتري خولودوف، الذي كان يعمل مع صحيفة "موسكوفسكي كومسوموليتس" اليومية الأضواء مجدداً على الأزمة. اذ ان خولودوف كان اجرى سلسلة تحقيقات عن تجارة الاسلحة غير المشروعة في برلين، ووجد ان ثمة صلة بين تلك التجارة والجنرال ماتفي بيرلاكوف قائد القوات الروسية في ألمانيا، والمخابرات العسكرية الروسية، بل تشمل وزير الدفاع الروسي نفسه - الجنرال بافيل غراتشيف - الذي رفع دعوى على الصحيفة لكنها انتهت باقالة الوزير وافتضاح أمره. وقد قتل خولودوف عند انفجار قنبلة وضعت في حقيبة في مكتبه أعطاها له شخص، ادعى انه مخبر سري في احدى محطات القطارات في موسكو. ارتفاع نسبته 500 في المئة وكما كان الحال في مكتب التحقيقات الفيديرالي الأميركي في عهد ادغار هوفر، لم تكن المخابرات الروسية على استعداد للقبول بفكرة وجود جريمة منظمة في البلاد. لكن تصاعد الجرائم بصورة مضطردة، الى درجة ارتفاعها بنسبة 500 في المئة خلال سبع سنوات - حتى في المدن الوديعة مثل فلاديفوستك - وضع نهاية لذلك الاعتقاد الساذج. ومع ذلك فان الأساليب والامكانات التي تتوفر لدى اجهزة الأمن الروسية متخلفة للغاية. ففي مدينة سانت بيترسبيرغ - ثاني اكبر المدن الروسية - يجلس 27 من ضباط المخابرات في غرفة صغيرة، وليس لديهم سوى خمسة هواتف، وشاشة كومبيوتر واحدة. ونظراً لأن سائق الباص في روسيا يحصل على ضعف راتب التحري في ادارة شرطة المباحث، فان الكثيرين يتركون الخدمة مع أجهزة الأمن للالتحاق بالقطاع الخاص. وما يدل على استفحال الجريمة في روسيا أن اجهزة الأمن في سانت بيترسبيرغ مثلاً، لا تحل سوى عشرين في المئة من غموض الجرائم التي ترتكب في المدينة، علماً أن النسبة في واشنطن - التي تعتبر عاصمة الجريمة في العام - تصل الى حوالي 40 في المئة. ويزيد الأوضاع سوءاً تفشي ظاهرة رشوة القضاة على نطاق واسع أيضاً. ويجد عدد كبير من الشركات الآن ان عليه ان يدفع إتاوات شهرية اذا كان يريد ان يفتح فروعاً له في روسيا. من ذلك - مثلاً - ان شركة "كيفن موليغان" الاميركية للسياحة والسفر، مقرها واشنطن، أرادت فتح مكتب لها في موسكو، فتلقت عرضاً بحماية المكتب، في مقابل دفع 800 دولار في الشهر عن كل موظف يعمل في المكتب. لكن الشركات قررت استخدام احدى شركات الحماية الامنية البريطانية التي تستعين بضباط روس متقاعدين ورفضت تماماً التعامل مع المافيا. نشاط عصابات المافيا وتقدر السفارة الاميركية في موسكو ان في روسيا واوكرانيا حوالي 5800 عصابة، ونحو 200 عصابة متفرعة عنها في اوروبا والولاياتالمتحدة واماكن اخرى. ومن اوجه النشاط الذي تمارسه: البغاء في يوغوسلافيا السابقة، لا سيما تأمين بائعات الهوى لدور البغاء في بلغراد وزغرب من فتيات مولدافيا واوكرانيا، واسرائيل ورومانيا، حيث معظم بائعات الهوى من اليهوديات الروسيات والفيليبنيات. كذلك اصبحت المافيا تسيطر على معظم قطاع سيارات الأجرة العمومية في العاصمة التشيكية براغ، كما انها اقتحمت دنيا المصارف في قبرص واميركا. وبشكل لم يثر اي قدر من الدهشة اقتحمت جماعات المافيا الروسية قطاع سيارات الاجرة في نيويورك، حيث يقود سيارات الاجرة عدد كبير من اليهود المنتمين الى طائفة السفارديم. ويشير كير الى ان هذه المافيا تمارس نشاطاً مخيفاً في قطاع تجارة الماس. وقد أدى تعدد نشاطها الى اصطدامها مع عصابات المافيا الاميركية اللاتينية والكاريبية والاميركية الافريقية. وقد يتساءل كثيرون: ما هو حجم نشاط المافيا مالياً؟ يقول مسؤول كبير في مكتب التحقيقات الفيديرالي "ان الاجابة الدقيقة والقاطعة صعبة للغاية، غير انه اذا أُلغي حظر المخدرات فسنكتشف ببساطة انها تجارة يصل حجمها الى نحو 300 بليون دولار سنوياً، اي ما يعادل تقريباً الموازنة المخصصة لوزارة الدفاع الاميركية البنتاغون". ويضيف: "اذا اضفنا الى ذلك العائدات التي تدرها النشاطات غير القانونية التي تمارسها جماعات المافيا كالتهرب من الضرائب والاتجار غير المشروع سنجد ببساطة ان المبلغ سيقفز الى نحو 500 بليون دولار سنوياً في الولاياتالمتحدة وحدها". طقوس الالتحاق بالمافيا وتعود جذور المافيا الروسية الى الخارجين على القانون الذين نأوا بأنفسهم عن المجتمع المتمدن، وقبلوا تحمّل العواقب الناجمة عن تصرفاتهم. وكانوا يواجهون اصلاً مشكلات مستمرة إبّان العهد الشيوعي، وكثيراً ما كانت السلطات تنفيهم الى معسكرات الاعتقال في الاصقاع الباردة والمتجمدة في سيبيريا. وكانوا يتحولون في تلك المعسكرات الى أناس وديعين يقبلون العقوبة دون شكوى، مع انهم ظلوا يرفضون السلطة. وفي الحرب العالمية الثانية رفض معظمهم الخدمة في القوات المسلحة، بل كانوا يعاقبون بأنفسهم من يقبل الخدمة فيها من زملائهم. وكما هو الحال في المافيا الصقلية فإن اعضاء المافيا في روسيا يؤدون يمين الشرف، ويلتزمون معايير سلوكية معينة. وبمجرد استيفاء تلك الشكليات لم يكن يسمح لأحد بالخروج عليها او التخلي عنها. وبلغ من شدة التزام تلك المعايير ان الواحد منهم لم يكن يذرف دمعة واحدة في جنازة والدته. ويقول الرئيس الروسي بوريس يلتسن ان منطقة القوقاز هي المصدر الرئيسي لعصابات المافيا، خصوصاً جمهوريات الشيشان وداغستان والأنغوش واذربيجان وجورجيا. ويشير المسؤولون الى ان كل مجموعة عرقية لها مجالات اختصاص اجرامية معينة: اذ ان الأنغوش يركّزون على تجارة الجلود والفراء، بينما يركّز الشيشان على المخدرات والمواد الغذائية الشحيحة، والاذربيجانيون على المخدرات. والمعروف ان الساعد الايمن للزعيم الجورجي ادوار شيفارنادزه مجرم سابق أمضى سنوات طويلة في السجن، وله الآن ميليشيا خاصة تؤمن الحماية لشيفارنادزه. كما ان اقوى شخصية في منطقة خابروفسك في اقصى شرقي روسيا هو فلاديمير يوتياتيف الذي امضى في السجن 17 عاماً ولكنه يملك الآن ثروة طائلة تشمل احدى محطات التلفزة المحلية.