أجمعت تقارير مبعوث الأممالمتحدة، والقوات الدولية ومبعوثي لجنة الصليب الأحمر الدولي، وفرق المنظمات الانسانية الرسمية وغير الحكومية، ومراسلي وكالات الأنباء في العاصمة الرواندية على أن وحدات عسكرية من "الجيش الوطني الرواندي" أي الجناح العسكري ل "الجبهة الوطنية الرواندية" الحاكمة في البلاد، اقتحمت في 21 نيسان ابريل الماضي معسكر اللاجئين الهوتو في كيبيهو على مشارف الحدود مع بوروندي، وفتحت نيران أسلحتها الرشاشة، واستخدمت مدافع الهاون، وقتلت نحو ثمانية آلاف شخص من قبائل الهوتو من أصل 130 ألف لاجئ كانوا يتكدسون في "المنطقة الآمنة" التي انشأتها القوات ابان تدخلها العسكري في رواندا في 22 حزيران يونيو الماضي في عملية عرفت ب "توركواز" أي "فيروز" بهدف انقاذ ما يمكن انقاذه من ضحايا الحرب الاثنية بين الهوتو والتوتسي. وروى شهود عيان بأن معسكر كيبيهو تحول في غضون يومين فقط الى مقبرة جماعية مفتوحة للاجئين الهوتو في عقر وطنهم رواندا. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي ترتكب فيها مجزرة بشرية فظيعة في رواندا على مدى ثلاثة عقود ونصف عقد من حرب "تطهير عرقي" بين القبائل التوتسية والهوتية، ولكن الأمر الجديد هذه المرة ان المجزرة ارتكبت ضد اناس أبرياء هربوا من الموت الأكيد في كيغالي العام الماضي ووجدوا مأوى في معسكرات اللاجئين تحت حماية فرنسية في البداية، ودولية حتى وقوع الواقعة. ويمكن في هذه الحال التساؤل عن مهمة القوات الدولية وفعاليتها في رواندا، ما دامت المجازر ترتكب أمام سمعها ونظرها. مجزرة مبرمجة لا يمكن لأي طرف دولي أو اقليمي أو محلي ان يقول بروح المسؤولية بأنه أخذ على حين غرة، أو فوجئ بالمذبحة البشرية الجماعية التي تعرض لها اللاجئون الهوتو على يد القوات التوتسية في معسكر اللاجئين في كيبيهو تحديداً، فالأسباب معروفة، وكشف عنها الحزب الحاكم في كيغالي عندما أعلن قراره القاضي "باغلاق" عشرين معسكراً للاجئين الهوتو في شتى أنحاء البلاد قبل نهاية العام 1994، حاضاً 270 ألف لاجئ هوتو على العودة الى قراهم ومدنهم، واخلاء المعسكرات في الفترة المحددة تفادياً لحدوث مواجهة. ويذكر بأن هيئات انسانية غير حكومية تعمل في رواندا احتجت على قرار السلطة في كيغالي، ورفعت تقارير في هذا الشأن الى المنظمات الدولية والحكومات الغربية، لمنع السلطات الرواندية من تنفيذ قرارها، ولكن من دون فائدة. وتجاهل المجتمع الدولي تقريراً وضعه مبعوثه في كيغالي في آذار مارس الماضي يؤكد بشكل واضح ان الحكومة الرواندية "اغلقت" عنوة ستة معسكرات، وأجبرت 40 ألفاً من قبائل الهوتو على العودة الى قراهم تحت حراسة عسكرية مشددة. وفي تقرير رفعته منظمة "اطباء بلا حدود" فإن الحزب الحاكم في كيغالي فرض حصاراً مطبقاً على معسكر كيبيهو ابتداء من 17 نيسان ابريل الماضي ومنع كل سبل الاتصال الخارجي مع اللاجئين، لدرجة ان المبعوثين الدوليين وفرق المنظمات الانسانية الحكومية وغير الحكومية، والمراسلين اجبروا على مراقبة الوضع من بعيد. والأفظع من كل ذلك ان أحداً لم يستطع عمل شيء ما في وجه قرار الحكومة الرواندية القاضي بعدم ايصال الاغاثة الانسانية، وفتح أنابيب المياه الى اللاجئين قبل ان تأتي الاغاثة من السماء كرصاصة الرحمة، على شكل أمطار غزيرة اجتاحت جنوب البلاد ودفعت اللاجئين الى البحث عن مأوى. ويبدو ان حركة اللاجئين - أي نحو 130 ألف شخص - العفوية والجماعية ولدت الخوف والهلع لدى القوات الرواندية التوتسية التي كانت تحاصر المعسكر، فلم تتردد في فتح نيران رشاشاتها ومدافعها لتقتل آلاف، وتجرح المئات، وسقط عدد غير محدد من الأطفال والنساء والشيوخ دهساً، وتمكنت قوة زامبية مؤلفة من 200 جندي تابعين للقوات الدولية من انقاذ 250 طفلاً يتيماً، بينما تسعى فرق الاسعاف الدولية الى انقاذ ما يمكن انقاذه من الأرواح في ظل ظروف صعبة للغاية، زادتها السيول الجارفة تعقيداً. والأدهى، حسبما روى جندي دولي من أصل زامبي لجريدة "لوموند" الفرنسية ان "الجيش الوطني الرواندي أطلق النار على اللاجئين بكل ما يملك من أنواع الأسلحة، ولاحق الجرحى ليقضي عليهم نهائياً، وطارد الفارين بأرواحهم تحت غطاء الأمطار الى الروابي تاركين وراءهم الجثث، والأطفال اليتامى...". ولسوء طالع اللاجئين الهوتو، عمدت الدول المجاورة لرواندا، أي زائيروبوروندي وتانزانيا، الى اغلاق حدودها مع رواندا، باستثناء اوغندا المؤيدة للحزب الحاكم في كيغالي والواقعة في أقصى شمال رواندا، ما حال دون مغامرة الهوتو باللجوء اليها. ويذكر بأن زهاء مليوني رواندي يقيمون في معسكرات اللاجئين في الدول المجاورة، منهم مليون و300 ألف في زائير، و200 ألف في بوروندي، و500 ألف في تانزانيا، و4 آلاف في اوغندا، والسواد الأعظم منهم ينتمي الى القبائل الهوتية التي تمثل 90 في المئة من عدد سكان البلاد المقدر بحوالي 7.1 مليون نسمة، في حين أن التوتسي الذين يسيطرون الآن على مقاليد السلطة في كيغالي يشكلون 10 في المئة فقط. لجوء القبائل الرواندية، سواء كانت توتسية أو هوتية، الى الدول المجاورة ليس وليد اليوم، أو حالة استثنائية، بقدر ما يشكل ظاهرة عامة في تاريخ هذا البلد الافريقي الحافل بالمذابح الجماعية بين الغالبية الهوتية والأقليات التوتسية، وذلك على غرار البلد المجاور والتوأم، أي بوروندي، الذي تقطنه القبائل نفسها بالحجم نفسه وبدرجة الحقد الأعمى نفسه. والثأر القاتل ليس على مستوى فئات أو قرى، وانما على صعيد أجهزة الدولة وهنا، يكمن لب المأساة والمشكلة. وتعود أسباب المأساة الرواندية الى تاريخها القريب. ففي العام 1923 حلت بلجيكا محل المانيا في حكم رواندا. ولإحكام سيطرتها على البلاد لجأت على مدى 39 عاماً، أي منذ 1923 ولغاية استقلال البلاد في 1962، على ترجيح كفة الأقلية التوتسية على حساب الغالبية الهوتية، مولدة عقدة التفوق لدى التوتسي، وعقدة الدونية لدى الهوتي، وحرصت في الوقت نفسه على تسليم السلطة قبل انسحابها من البلاد الى الهوتو كهدية ملغومة أو مسمومة في وجه التوتسي الذين كان الكثيرون منهم ولا يزالون يعتقدون بأنهم جديرون بادارة الدولة أكثر من الهوتو. وبعد خروج بلجيكا على الأقل رسمياً في عام 1962، بدأت فرنسا تعير اهتماماً خاصاً برواندا كونها بلداً فرنكوفونياً في منطقة "البحيرة الكبرى" التي تدور الى حد كبير حول محور زائير في هذا الجزء من القارة السوداء. وأبرمت باريس اتفاقات ومعاهدات مع كيغالي، لا سيما مع نظام الرئيس الراحل جوفينال هابياريمانا الذي سمح لها باقامة قاعدة عسكرية في كيغالي العاصمة، وفي المقابل تولت فرنسا مهمة تدريب وتسليح "الحرس الجمهوري" علاوة على تدخلها العسكري المباشر في رواندا عام 1990، و1993 لإنقاذ نظام هابياريمانا من هجمات "الجبهة الوطنية الرواندية" التوتسية. وبالعودة الى "دورة اللجوء" المقرونة ب "دورة المذابح" الجماعية، تجدر الاشارة الى أن الصدامات الدموية بين الهوتو والتوتسي اندلعت في تشرين الثاني نوفمبر 1959، أي قبل ثلاث سنوات من الاستقلال، وتكررت بصورة كبيرة وحادة في نهاية عام 1963، أي بعد مرور سنة واحدة على رحيل المستعمر البلجيكي، وذهب ضحيتها بين 10 آلاف و20 ألف هوتي وتوتسي. وبردت الى حد ما حرارة الحرب بين التوتسي والهوتو على مدار 27 سنة، قبل أن تشتعل في تشرين الأول اكتوبر عام 1990، عندما حاولت قوات توتسية تتألف من حوالي 15 ألف مقاتل تحت لواء "الجبهة الوطنية الرواندية" شق الطريق صوب كيغالي، لكنها تراجعت أمام القوات الفرنسية المرابطة هناك، ودفع التوتسيون غالياً ثمن تلك المحاولة الفاشلة لإسقاط سلطة الرئيس الراحل هابياريمانا، لأن الجيش الحكومي الرواندي المؤلف حينذاك في غالبيته الساحقة من الهوتو، على عكس اليوم، ارتكب جرائم بحق المواطنين التوتسي من دون أي ذنب، غير انتمائهم العرقي. وتكرر السيناريو نفسه في مطلع عام 1993، حين حاول التوتسيون اطاحة حكومة الهوتو في كيغالي مرة أخرى، واخفقت مساعيهم أمام عقبة القوات الفرنسية، وكالعادة انتقم الجيش الحكومي من الأبرياء التوتسي فاتحاً أمامهم أبواب المقابر الجماعية، واللجوء الى الدول المجاورة. ولقطع الطريق على المحاولات العسكرية التوتسية للوصول الى السلطة، ولوقف مسلسل ابادة التوتسي على يد الجيش الحكومي الهوتي، قامت منظمة الوحدة الافريقية وتانزانيا واوغندا والولايات المتحدةوفرنساوبلجيكا وبريطانيا بمساع ديبلوماسية بين الاخوة الأعداء في رواندا، توجت بإبرام اتفاق في آب اغسطس عام 1993 بين الحكومة الهوتية والمعارضة التوتسية في مدينة اروشا التانزانية، يقضي بوقف النار وعدم اللجوء الى السلاح لحل الخلافات، ووضع آلية تناوب السلطة سلمياً، ووضع مشروع لعودة اللاجئين الى ديارهم. ومرة أخرى لم يكن السلام على موعد مع رواندا، اذ تم اسقاط طائرة الرئيس جوفينال هابياريمانا في 6 نيسان ابريل عام 1994، في ظروف ما زالت غامضة، وكان ذلك مدخلاً لحرب أهلية جديدة وطاحنة بين الهوتو والتوتسي، أدت للمرة الأولى منذ استقلال رواندا الى استيلاء التوتسي على السلطة في 4 تموز يوليو 1994، بقيادة الجنرال الشاب بول كاغاميه الانكلوفوني في بلد فرنكوفوني، الأمر الذي أغاظ باريس، التي لم تعد قادرة على قلب موازين القوى في رواندا، لا سيما ان الأزمة أخذت بعداً دولياً، فحاولت حكومة ادوار بالادور الخروج من المستنقع الافريقي بأقل قدر من الخسائر. معركة التوتسي وحرب الهوتو ويدرك التوتسي قبل غيرهم ان معركة كيغالي حسمت موقتاً لمصلحتهم، فيما تظل حرب رواندا مفتوحة على المجهول، لأن 10 في المئة من سكان أي بلد لا يمكنهم فرض قانونهم الى ما لا نهاية على 90 في المئة من المواطنين، خصوصاً في مجتمع محكوم بالأحقاد التاريخية. لذلك تحاول القيادة السياسية والعسكرية التوتسية الهرب الى الأمام بفتح معارك خاسرة سياسياً وانسانياً ضد اللاجئين باغلاق، أو بالأحرى "تجفيف معسكراتهم"، لقتل أو اجهاض أية معارضة هوتية، مستغلة بروز بوادر نشاط بعض الوجوه السياسية الهوتية هنا وهناك، ما أدى الى نتائج عكسية وعمق الفجوة بين ابناء البلد الواحد. على الصعيد الافريقي اتهمت زائير القوات الحكومية الرواندية بعمليات قتل في معسكرات اللاجئين الروانديين داخل زائير الذين يربو عددهم على مليون ونصف مليون شخص. فقد تسللت وحدة عسكرية رواندية رسمية خلسة الى عمق الأراضي الزائيرية في 16 نيسان ابريل الماضي وهاجمت أقرب معسكر، فقتلت ما لا يقل عن 35 لاجئاً، وجرحت العشرات منهم. واحتجت السلطات الزائيرية لدى الحكومة الرواندية، وحذرتها من مغبة تكرار مثل هذه الحوادث، وارسلت تعزيزات عسكرية الى مناطق تواجد معسكرات اللاجئين، وعلى مشارف الحدود بين البلدين. وقامت الحكومة الكينية من طرفها بطرد جاك زيزا الذي كان يدير شؤون السفارة الرواندية في نيروبي منذ كانون الثاني يناير الماضي. ورفض دانيال كويش الناطق الرسمي باسم مكتب رئيس الدولة الكيني التعليق على الأسباب الكامنة وراء ابعاد المسؤول الرواندي الوحيد في نيروبي. وكانت العلاقات بين البلدين شهدت تدهوراً في الفترة الماضية بعد استقبال حكومة الرئيس أراب موي عدداً من كبار المسؤولين في الحكومة الرواندية السابقة، ومن بينهم أفراد أسرة الرئيس الرواندي الراحل هابياريمانا. ومهما يكن من أمر العلاقات الرواندية - الدولية أو الرواندية - الافريقية، لا يبدو ان هذه العلاقات قادرة على وقف المأساة، فيما ملايين اللاجئين يلاحقهم "غضب السماء" على شكل فيضانات، وأحقاد البشر، على شكل مجازر.