تنجز رواندا الميجر جنرال بول كاغامي 46 عاماً المواعيد الانتخابية المضروبة على طريق الخروج من المرحلة الانتقالية منذ 1994، تاريخ حرب الإبادة الأهلية والعرقية موعداً بعد موعد. ففي آذار مارس 2002 أجرت السلطات انتخابات محلية جددت مجالس البلديات والأقضية المعينة أو المستمرة بحكم التقليد. وفي 25 آب أغسطس المنصرم اقترع 4،94 في المئة من خمسة ملايين ناخب رواندي تعد رواندا نحو 9 ملايين نفس للرئيس المتربع في سدة الحكم منذ 1995، وكان نائب الرئيس في أثناء العام الذي سبقه. فنصبت اللجنة المركزية للانتخابات كاغامي، في 26 منه، أول رئيس يرئس رواندا من طريق الاقتراع الشعبي المباشر والعام والتعددي حصل منافس الرئيس على 5،3 في المئة من الأصوات. وكان قبله الرؤساء يستولون على الرئاسة، أو تنصبهم الأحزاب الحاكمة والواحدة رؤساء. وهذا حصل له في العام 2000. ويتوقع إجراء الانتخابات النيابية العامة في 29 و30 أيلول سبتمبر، وفي الثاني من تشرين الأول اكتوبر الآتي. ويوكل حكم الرئيس المتجدد الى الانتخابات المتعاقبة هذه التمثيل على استقرار سياسي ودستوري شرعي يشترطه ممولو رواندا وشرق افريقيا عموماً منطقة البحيرات الكبرى ودولها، وهي بورونديوكينياوأوغندا ورواندا وتنزانيا، والكونغو الى الغرب منها مقدمة ضرورية للاستثمار في برامج اقتصادية كبيرة مثل استخراج غاز الميتان من بحيرة كيفو على حدود رواندا والكونغو، أو الإسهام في تجهيز المنطقة بشبكة معلوماتية واسعة. ويتولى الممولون، وهم الاتحاد الأوروبي ووكالات الأممالمتحدة في المرتبة الأولى، نصف اعتمادات ميزانية الدولة. ويتعهد بعضهم تمويل "مناسبات" طارئة، على شاكلة الانتخابات الرئاسية قبل نحو الشهر. فهذه تولت بلجيكا، في إطار الاتحاد الأوروبية، تكلفتها. خطة استقرار ويُفترض في الانتخابات أن تتوج، من وجه آخر، سيرورة استقرار إقليمية ملحة، غداة انسحاب القوات الأوغندية من الكونغو على ثلاث مراحل في 1999 - 2000، ودوام التوتر في العلاقات الأوغندية والرواندية، والبلدان جاران قريبان ومشاطئان لبحيرة فيكتوريا، في 2001. ودب الخلاف بين البلدين على رغم إجلاء موسيفيني، الرئيس الأوغندي، قواته عن المسرح الكونغولي، وتركه للقوات الرواندية، جراء تهمة موسيفيني زميله الرواندي - وكان هذا مساعده إبان حربه على سلفه ولاجئاً سياسياً و"قومياً" ببلده - بتمويل حملة منافسه على الرئاسة قبل عامين. واتهم كاغامي جاره الأوغندي بإيواء معارضيه والهاربين من جيشه. وكادت الحرب بين البلدين المنهكين والمتصدعين تنشب لولا وساطة بريطانية أدت الى جمع الرئيسين المحاربين مرتين، آخرهما في أوائل العام الماضي. وينكر جيران رواندا على رئيسها وقواته العسكرية تمسكه باحتلال أراضٍ واسعة من الكونغو، في منطقة كيفو، بذريعة مطاردة قوات اللاجئين من قوم الهوتو 85 في المئة من سكان رواندا، المتربصين شراً على زعمه بمواطنيهم الروانديين من قوم التوتسي، والرئيس كاغامي من التوتسي 14 في المئة من السكان، بعد خسارة 600 - 800 ألف ضحية في نيسان/ أبريل - حزيران/ يونيو 1994. وتقوم القوات الرواندية، وهي من التوتسي قوم الرئيس وأعوانه، بمحاصرة مخيمات اللاجئين الهوتو، والإغارة عليها بين الوقت والوقت، خشية تسللها الى رواندا، بلدها، وإنشائها قوات مسلحة وتحريكها الثارات والنعرات من جديد وكانت قوات بول كاغامي قتلت، في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، 200 ألف هوتو، في غاراتها على مخيماتهم في الكونغو. ولكن "عمل" القوات المسلحة الرواندية في الكونغو لا يقتصر على إحباط خطط الهوتو، وتعقبهم، والثأر للتوتسي من مجازرهم فيهم. فإلى هذا تضطلع قوات كاغامي بأعمال نهب منظمة وواسعة في الغابة الكونغولية العنية. ونصبتها أعمالها العسكرية و"الاقتصادية" و"المدنية" فهي تتولى "الإدارة المدنية" على جزء من السكان التوتسي اللاجئين الى الكونغو، الى بعض الهوتو المقيمين منذ زمن في الجوار قطباً سياسياً محلياً. فلم تتورع، في أيار مايو 2002، عن مساندة قوات التجمع الديموقراطي الكونغولي، إحدى حركات المعارضة المسلحة، وحمايتها من ملاحقة قوات كينشاسا جراء ارتكابها مجزرة في كيسانغاني أودت بعشرات الكونغوليين. وندد الاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة بالمجزرة، وحمّلا السلطة الرواندية المسؤولية عنها، وجددا الدعوة الى جلاء القوات الرواندية عن أراضي الكونغو، والى عودة المهجرين الهوتو الى رواندا. ولم تتستر دول الجوار المؤتلفة في منظمة "التعاون الشرق أفريقي" على حذرها من رواندا، وتحفظها عن سياستها في شرق أفريقيا وجوارها. فجددت رفضها طلب بول كاغامي الانضمام الى المنظمة، وأبقتها خارجها. ويجمع الاتحاد الأوروبي والهيئة الدولية والمنظمة الافريقية الاقليمية على أن معالجة الاضطرابات الأهلية، القومية القبلية الإتنية و"العرقية"، بشرق أفريقيا لا تستقيم إلا بسياسة عامة تعيد المهجرين الى بلادهم وأراضيهم ومراعيهم وسواحلهم من غير المغامرة بتعريضهم لأعمال انتقامية جماعية أو فردية قريبة من الإبادة، ومن غير رسم الحدود بين دول المنطقة رسماً جديداً يتهددها، بدوره، بالنفخ في اضطراباتها ومنازعاتها. وإلزام رواندا خصوصاً، وهي مسرح مجازر "المئة اليوم" في ربيع 1994 وبؤرة اضطراب اقليمية، بالانتخابات على مختلف مراتبها، من البلدية الى الرئاسية وأخيراً النيابية، جزء من خطة إرساء الاستقرار التي تضطلع بها الهيئات الدولية والإقليمية الافريقية. فهذه الهيئات تعول على العاملين الاقتصادي والسياسي في سبيل حمل السلطة الرواندية على الانكفاء داخل حدود دولتها، وإعادة الشتات القومي القبلي المهاجر والمهجَّر والتأليف بين أقوامه، وقطع دابر التدخل الفظ في دول الجوار القريب ومنازعاته. وشرط تحقيق البرنامج الطموح هذا - وهو لا بد منه في سبيل الحؤول بين دول شرق أفريقيا وشعوبها وبين التصدع والإقامة على حروب قومية قبلية دامية ومتسعة - قيام هياكل وأبنية سياسية داخلية قادرة على التحكيم في المنازعات وفضها قبل استفحالها. وفي غضون العقد المنصرم، غداة المجازر التي لم تنتزع لا من القوى الدولية ولا من القوى الاقليمية الضعيفة التدخل القمين بالحجز بين المتقاتلين، أولت الهيئات الدولية الإدارة الاقتصادية معظم رعايتها. فتدنت نسبة المعوزين والمحتاجين، وهم من يبلغ عائد واحدهم اليومي أقل من دولار أميركي في اليوم، من 70 في المئة من السكان الى 58 في المئة. واستعادت الزراعة - وهي مصدر معاش 93 في المئة من الروانديين الذين يقتصر من يقيم منهم في المدن على 1،6 في المئة - بعض حيويتها. وتزعم الاحصاءات الرسمية ان الناتج الإجمالي المحلي زاد 9،9 في المئة، في 2002. ونسبة نماء الناتج الرواندي بلغت، في الأعوام 1995 - 2000، متوسط 5،8 في المئة. وهي تفوق نظيرها في البلدان المجاورة بين ثلاثة الى أربعة أضعاف في كينياوأوغنداوتنزانيا وبين أقل من عشرة أضعاف بقليل بوروندي. وتعزو الهيئات الدولية، وتوافقها السلطات المحلية رأياً هي مصدره، "النماء" هذا وهو قرينة على استئناف النشاط الانتاجي بعد تقهقر شديد فوق كونه ثمرة زيادة فعلية، الى الاستقرار السياسي والأمني الذي يرعاه كاغامي منذ انتصاره على نظام الهوتو، ودخوله كيغالي العاصمة، في تموز 1994 وراء قناع رئيس اسمي وموقت من الهوتو. والحق ان الاستقرار هذا - وسبق القول ان مقتل 200 ألف من الهوتو في الكونغو انتهك هذا الاستقرار - إنما هو ثمرة تسلط سياسي وأمني وإداري وإعلامي وثقافي قومي قبلي خانق على الدولة والمجتمع الروانديين. فلا يترك هذا التسلط شاردة أو واردة من غير "ضبطها" أو مراقبتها. "طبقة - قوم" فالرئيس العتيد ورث من فتوته وشبابه نازعاً ثقيلاً الى الإدارة الاستخبارية والبوليسية والايديولوجية. فهو ولد عشية "الثورة الاجتماعية" التي عصفت، في 1959، برواندا. وبمقتضى "الثورة" هذه زعمت نخب قوم الهوتو، قبيل استقلال رواندا وبورونديوالكونغو عن بلجيكا، أن الاستقلال الوطني لا يُنجز حقاً وفعلاً إلا باستيلائها هي على السلطة، باسم جماهير الهوتو الفقراء والمحرومين والمسحوقين. وأما العدو الذي خلف المستعمِر السابق والراحل فهو "طبقة - قوم" التوتسي، المتحدرين من "الإقطاعيين" و"الملوك". وهؤلاء هم قلة أقلية أهلية اضطلعت طوال قرنين سبقا الاستيلاء الأوروبي المتأخر على بعض شرق أفريقيا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، بإنشاء أبنية سياسية ثابتة ومركزية على تخوم دوائر الزراعة والصيد المائي والرعي والمواصلات النهرية والتعدين. فالداخل الأفريقي الشرقي، على خلاف مزاعم تثبته على حال تنفيه من الكتابة والتاريخ والمدينة والتعدين وتخرجه منها جميعاً، شهد أطواراً سياسية ودينية وانتاجية متقلبة أدى بعضها، من طريق الهجرات والمواصلات والأحلاف والمراكمة، الى ظهور مبانٍ سياسية واجتماعية ودينية وثقافية يقربها بناؤها من الممالك، على ما تعرف وتسمى في بلاد أخرى. وحكم قوم التوتسي إحدى هذه الأبنية، أو الممالك، وكانوا وراء نشأتها الى الغرب من بحيرة فيكتوريا، شأنهم شأن الهيرو والروغوري والبوشينغو والموهامبوي... على ما يذهب اليه المؤرخ الفرنسي جان - بيار كريتيان. وعلى مثال مذهب في التأريخ والتحليل أخذت به دوائر "علمية" أوروبية، معظم "علمائها" من المبشرين والضباط المتقاعدين أو العاملين، حُمل الفرق بين أهل القوة المسيطرين وبين أهل الضعف المغلوبين على "صفات" ثابتة في أعراق. ونُسبت السيطرة والغلبة، شأن الانقياد والطاعة، الى "الصفات" المزعومة هذه. وجُمعت قسمات جسمانية وعضوية الى "الصفات" المعنوية المفترضة. وعلى هذا استُقدم قوم التوتسي - وهم يميلون الى بعض الطول والرشاقة قياساً على متوسط الهوتو من غير أن يكون ذلك فرقاً عاماً وظاهراً - في التواريخ المصنوعة والمنتحلة، من أثيوبيا الحبشة. فهذه تنهض مثالاً ناجزاً وعظيماً على القوة والثراء والسعة والفتح والظلم، على ما يتوهم أقوام آخرون. وأقبلت النخب المتحدرة من الهوتو، وهم كثرة أهل رواندا على ما مر ومعظمهم من أهل المراتب الدنيا أو الضعيفة، على "التاريخ" المصنوع هذا. وأوَّلت وعللت من طريقه الفروق الاجتماعية والسياسية في رواندا، بعد أن زادت عليه حلف التوتسي مع الفتح البلجيكي. فاستوى التاريخ الرواندي واضحاً وجلياً ومتصلاً. وإذا به من ألفه الى يائه تاريخ "مظلومية" الهوتو واضطهادهم واستغلالهم عن يد قلة طارئة وأجنبية قدمت من أثيوبيا واستولت على البلد عنوة، وأقامت مملكتها وسلطانها على رقاب المحليين و"جماجمهم" على ما كان كتّاب الخَراج يقولون بالغصب والعنف. وصبغ غصبها وعنفها التاريخ السابق كله. فإذا به تاريخ وباء ومرض. وحين فتح الأووبيون البلاد انحازت هذه القلة إليه، وحفظت امتيازاتها من طريق التملق وخدمة الفاتح. وفي ضوء هذه الرواية البسيطة والقاطعة للتاريخ لم يبقَ إلا الفصل الصارم بين القومين. ويرتب هذا نفي الهوتو الذين يخالطون التوتسي، على وجوه المخالطة كلها: عملاً وسكناً وزواجاً، من القوم والأهل الهوتو وإلحاقهم بالعدو "العرقي"، وجعل حكمهم حكمه. وحكمُه، أو الحكم فيه هو إعادته الى أثيوبيا. وإذا تعذر ذلك، وهو متعذر، فقتله واجب حيث وجد وحيث حل، هو ومن مال إليه أو اعتدل في عدائه له. فاستبق الهوتو الاستقلال في 1962 بمجازر في 1959، ثم بمعارضة الفيديرالية، ثم بالامتناع من قيد أسمائهم في سجلات الانتخاب. وفي 1957، وهي سنة ولادة كاغامي، أذاع تسعة مثقفين هوتو، درسوا على "الآباء البيض" وهم سلك رهبنة في مدارسهم الكاثوليكية، بياناً اشترطوا فيه للإقرار بالاستقلال "الحقيقي" إلغاء "نظام الإقطاعية التوتسي". ونددوا باحتكار هؤلاء التعليم والمراتب الإدارية. ونسبوا الى جملة التوتسي ومجموعهم الاستفادة من "السيطرة الحامية" نسبة الى حام "الأثيوبي"، ولد نوح النبي والولاء للأجنبي. وذهب "بيان الباهوتو" هذا الى أن أولاد الزيجات المختلطة ينبغي أن يحكم الأطباء في نسبتهم العرقية "الصحيحة"، وألح في تدوين "العرق" في أوراق الهوية الثبوتية. ورد فريق من وجهاء التوتسي، في 1958، على "بيان الباهوتو". فنفوا كل رابطة بين قومهم وبين قوم الهوتو، وقصروا على الباتوتسي وحدهم انشاء الدولة الرواندية. وعلى رغم نشوء أحزاب مختلطة، أو جبهات سياسية من أحزاب القومين انضم التجمع الديموقراطي الرواندي، من الإصلاحيين التوتسي، الى أحزاب من الهوتو، انفجرت الاستفزازات المتبادلة في خريف 1959 هجمات اضطلع بعض قادة الهوتو بتأطيرها وتنظيمها وتوجيهها الى جماعات من التوتسي. فأُحرق الآلاف من "الأكواخ"، وقتل المئات من التوتسي، وأجلي معظمهم عن الشمال. وهرب نحو ثلثهم، أي 150 ألفاً، الى بلدان الجوار. وكان أهل كاغامي بين الهاربين اللاجئين الى أوغندا. فقتل التوتسي قادة من الهوتو. وحملت انتخابات 1961 النيابية، عشية الاستقلال، الحزب القومي القبلي "بارميهوتو" الى السلطة. وجمع حزب "البارميهوتو" بين القتل الجماعي والتهجير الجماهيري وبين ما سماه المثقفون الهوتو، من غير تردد، "التوعية" أو اكتساب الوعي بالهوية القومية القبلية من طريق قتل العدو. واتفق ذلك عمداً مع إرساء التنظيم الإداري على "الرئاسات" أو "المشيخات" الأهلية القبلية، ومع حرص السلطات الجديدة على إلحاق "المواطنين" ب"مشيخاتهم"، والفصل بينهم على أساس هذه المشيخات. وتوالت المنازعات، ومعها موجات التهجير، في 1964، ثم في 1973، وفي أواخر العقد التالي، قبل انفجار 1994 الكبير والفظيع. وتوسل حزب "البارميهوتو"، وهو المتحدر من بيان التسعة، بحملات التوعية هذه الى احتكار السياسة والسلطة. فنصب نفسه، في 1966، حزباً حاكماً، وحظر التحزب على غيره. فانقلب قائد الجيش، هابياريمانا، وهو من الهوتو المعتدلين، على الحزب وقائده، كاييباندا، في 1973. وفي 1978 سن دستوراً أقر نظاماً رئيساً، وحزباً واحداً. وأيدت الكنيسة الحزب الجديد، وندبت راعي أبرشية كيغالي، المطران نسينغييومفا، الى لجنة الحزب الحاكم والواحد المركزية. وقايض النظام إعلان الكنيسة مباركته ب"نظام أخلاقي" محافظ ومتزمت. وسلط رقابة شديدة على الثقافة الرواندية، والمشافهة معينها الغني على قول بعض دارسيها، قمعت أصواتها وموسيقاها ورقصها، وأحلت محلها الموسيقى "العصرية" الزائيرية. وأبقى الحزب الواحد الجديد على صيغة "التاريخ" السابقة. وأقر "المشيخات" الهوتو على نفوذها وحكمها وانفرادها بالسلطة. وزعم أن الديموقراطية الرواندية تامة، ولا تحتاج الى استتمام أو إغناء: فالسلطة بيد الكثرة الشعبية، وعلى التوتسي الرضا ب9 في المئة من مقاعد المدارس ووظائف الإدارات على نحو ما على الهوتو في بوروندي الإذعان لحكم التوتسي و"أمنهم". استباق التغيير ويؤرخ مراقبون ابتداء التغيير في شرق أفريقيا بدخول موسيفيني، على رأس أنصاره، كمبالا، عاصمة أوغندا. وكان كاغامي في الصف الأول من حركة موسيفيني هذه. ففي 1986 آذن انتصار هذا العسكري على الفوضى المروعة التي خلفها عيدي أمين وراءه بانعطاف في الأحوال السياسية الاقليمية والمتصلة اتصالاً وثيقاً. وسعى موسيفيني في الخروج من دوامة المنازعات والثارات القومية القبلية والأهلية من طريق إرساء دولة قانون عامة لا تقتصر على آلة قمع ومنافع بيد قوم من الأقوام. ونجم عن هذا السعي، حال ابتدائه والإعلان عنه، فشو الأزمات في أنظمة الحكم المجاورة و"الشقيقة". فاضطربت سلطة موبوتو المطلقة في زائيرالكونغو من قبل ومن بعد. وخشي هابياريمانا برواندا أثر دعوة موسيفيني في الروانديين. وفي 1988 أقدمت عصابات من المزارعين الهوتو، في بوروندي، على قتل عائلات من التوتسي في ضيعتين قريبتين من الحدود مع رواندا. فانفجرت الثارات على جهتي الحدود. وسقط الضحايا بالآلاف. وهرب عشرات الآلاف من الهوتو الى رواندا. ولكن صدى الانعطاف الأوغندي لم يقتصر على شيوع الاضطرابات. وهذه أي الاضطرابات يلازم انفجارها وانتشارها وقوع الأزمات في الأنظمة الديكتاتورية والمستبدة. فنصبت انتخابات مباشرة، في صيف 1993، مدنياً على رأس الدولة في بوروندي. وهو أول رئيس من هذا الضرب. وعلى رغم تحدر الرئيس الجديد، ملكيور نداداي، من الهوتو، ضحية المجازر الأخيرة، ألف حكومة ثلث وزرائها من التوتسي. وفي 1990 هاجم آلاف من الجنود الروانديين الذين قاتلوا في صفوف منظمة موسيفيني العسكرية، ومعظمهم من التوتسي، الشمال الشرقي الرواندي. وكانوا خرجوا الى العلن في 1987، غداة انتصار حركة موسيفيني، ذراعاً عسكرية للجبهة الوطنية الرواندية التي لم يلبث ان تزعمها بول كاغامي بعد مقتل رئيسها ومؤسسها. وهي الحزب الحاكم اليوم وحده تقريباً، في كيغالي، عاصمة رواندا. ودعا برنامج الجبهة الى بناء الدولة الرواندية بناء جديداً على أسس وطنية، أي مختلطة الأقوام، وعودة المهجرين التوتسي واللاجئين في بلاد الجوار الى وطنهم الأصلي. وأيد مؤتمر الشتات الرواندي في 1988، بواشنطن، البرنامج هذا. وانضم بعض زعماء الهوتو المعتدلين الى الدعوة. وكان بين المنضمين من اضطلعوا بأدوار متفرقة في النصف الثاني من التسعينات. وشقت هذه الحركات الطريق لحل سياسي تصوغه المفاوضات في البلدان الثلاثة المتصلة بوروندي ورواندا وزائير. وترجَّح الحكم الرواندي بين انتهاج طريق المفاوضات وبين التوسل خفية بالاستفزاز والتعبئة القوميين القبليين. وساندت السياسة الفرنسية، وعلى رأسها فرنسوا ميتران، الترجح هذا في البلدان الثلاثة. وسوغت ترجحها وترددها باحترام الموازنات المحلية التي انتهى إليها الوطنيون وارتضونها على مثال لبناني وسوري وفلسطيني وعراقي، وبمصالحها الاقتصادية وحمايتها من النفوذ الأميركي الطارئ والمتعاظم الاهتمام بهذا الشطر من أفريقيا. ونشطت المعارضة الداخلية، الرواندية، ل"آل" الرئيس و"بيته"، وهو من شمال البلاد. وانخرطت فيها نخب من الوسط والجنوب، جمعت بعض من حرمهم "الآل" امتيازاتهم الى بعض الطامحين الى حياة اجتماعية عصرية شرطها تخطي المسألة القومية القبلية. واضطر النظام الى قبول بعض الاصلاحات مثل حرية الصحافة وإنشاء الجمعيات والأحزاب. فنشأت أحزاب، بعضها بعث من جديد، غلبت عليها جماعات أهلية أو فئات اجتماعية، بعضها مختلط. وأدت تظاهرات حاشدة الى تشكيل حكومة ائتلافية. وفي الوقت نفسه عقد قطبا المعارضة، معارضة الهوتو الداخلية ومعارضة الجبهة الوطنية المسلحة كاغامي، مفاوضات أفضت في تموز 1992 الى وقف اطلاق نار، وفي كانون الثاني يناير 1993 الى اتفاقات سياسية، والى تسوية عسكرية في صيف العام نفسه. وهذه "العملية السياسية"، أو السيرورة، هي ما دمره فعلاً اغتيال الرئيسين الرواندي والبوروندي، والاثنان من الهوتو، في طائرتهما، في 7 نيسان ابريل 1994. وكان الاغتيال فاتحة حرب الإبادة التي شنها الهوتو على التوتسي، وقتلت 600 الى 800 ألف توتسي، قبل أن تقتل 200 ألف هوتو بين الكونغو ورواندا في السنوات التالية. وفي غضون السنين الأربع الأولى من التسعينات كانت المجازر المتعمدة والمنظمة الأداة الفضلى لقطع مفاوضة، أو حرفها عن موضوعها ومداهمتها بمسألة ملحة وجديدة، والباعث الأقوى على تمترس مفاوض بأقصى مطلب من مطاليبه والمقارنة بين "العملية السياسية" هذه وبين "العملية السلمية" الفلسطينية الإسرائيلية، لا تخلو منها مقالة تناولت الأولى بالتحليل. فسبقت مجازر بالجنوب الشرقي من رواندا، في آذار مارس 1992، مشاركة المعارضة في الحكومة الإئتلافية. وتوالت الهجمات الدامية بشمال البلاد من صيف 1992 الى أوائل 1993 بينما المفاوضات في تنزانيا تتطرق الى المسائل الدقيقة. ولابست أعمال القتال، وهي أعمال قتل على المثال الشرق أوسطي كذلك، موجات تهجير واسعة ملأت إحداها كيغالي، في أواخر 1992، بمليون مهجر. وتوجت المئة يوم الدامية هذه "السياسة" الفظيعة. ولم ينفع انتشار قوات الأممالمتحدة في رواندا، منذ تشرين الثاني نوفمبر 1993، في الحؤول بين الهوتو - وهم انتظموا في شبكة شعبية عريضة أسهم المثقفون والصحافيون والكهنة والراهبات، الى السياسيين والعسكريين، في إنشائها إنشاءً محكماً - وبين مطاردة التوتسي وحصرهم في الكنائس، في أحيان كثيرة واغتيالهم عائلات وقرى بالفؤوس والسواطير والسكاكين. ولم يحرك المجتمع الدولي ساكناً في أثناء المجازر. ولم تنفع مناشدات الجمعيات غير الحكومية في حمل الدول الأجنبية على حماية الروانديين. وكان "حق التدخل"، على ما جرى صوغه في ضوء حوادث العراق في شتاء 1991 وربيعه، غرضاً لمطاعن كثيرة لم تنفك عنه تراه مطية متجددة من مطايا الاستعمار وذرائعه. ويرجع كاغامي اليوم الى رسم سياسي يشبه الرسم الاستبدادي الذي لابس المآسي الأفريقية في العقود الأربعة الأخيرة، من غير مجازرها الدابة والمتربصة، ما خلا مجازر الكونغو. وفي السجون 120 ألف متهم، دين منهم عشرة آلاف. ولم يلاحق عملياً من قتلوا الهوتو. فرعى الرئيس الذي يحوطه كبار رجال الأمن انتخابات رئاسية أشبه بانتخابات الحزب الواحد. فحيل بين مرشح المعارضة - وهو من الهوتو، وكان رئيس حكومة كاغامي الأولى طوال عام غداة دخول هذا على رأس جبهته ومسلحيها كيغالي في صيف 1994 - وبين إنشاء حزب يتولى خوض الانتخابات. وطاردت أجهزة الأمن، المرشح وأنصاره. واغتيل أحد هولاء الأنصار في 15 آب أغسطس بشمال البلاد، على ما أعلنت كوليت فليش، رئيسة لجنة المراقبة التي انتدبها الاتحاد الأوروبي وتولى كاغامي نفي الخبر. وقسر المشرفون على الأقلام الناخبين على البصم نظير اسم المرشح الذي اقترعوا له. وسبق الدورة الانتخابية خطف أحد مراقبي جمعيات حقوق الإنسان، وسلبه ملفاته وحاسوبه قبل إلقائه مخدراً على قارعة الطريق. وسبقتها أعمال خطف طاولت معارضين ومنشقين ولاجئين الى بورونديوكينيا، بعضهم "اختفى". وسنت السلطة قانوناً يعاقب تسمية الانقسامات القومية القبلية، أي الإلماح الى "مسألة" الهوتو عملياً، بالسجن المؤبد. واتهمت اللجنة الانتخابية المركزية منافس بول كاغامي، فوستين تواغيرامونغو، بإثارة النعرات "التقسيمية" أو "الانشقاقية"، في أثناء الحملة. وهذا لا يحمل المعارضين الآخرين على النشاط أو الظهور. ولا يرعى نشوء طاقم سياسي بديل. فالرئيس "شاب" نسبياً. ويحوطه طاقم من رفاق السلاح في البر الأوغندي، كلهم تقريباً من "الأمنيين" وقادة الاستخبارات القساة. ويرد الرئيس المزمن، وهو يتحدر من نسل "ملوك" التوتسي، على الانتقادات التي تتناوله بالتذكير بالمأساة التي حلت بقومه، وبرواندا وجوارها، وبشلل المجتمع الدولي والاقليمي إبان الفظائع وارتكابها. ويذكر ب"السلم الأهلي" الذي يسود البلاد منذ نحو العقد. ويعزو السلم، وتحسن الأحوال المعاشية، وعودة معظم الهوتو الى ديارهم، الى حكمه وسلطته. ولكنه يطلب مقايضة هذه السياسة، ونتائجها لا تنكر، بالصمت والسكوت عن جنوح السلطة الى قمع وقهر عامين، وتوسلها الى الاستقرار بالإمعان في تجنب المشكلات والمسائل التي كانت في أصل الاضطرابات الأهلية والاقليمية. فكاغامي، كذلك، يزعم أن "الضغط عليه لا يفيد"، وأن المطاليب السياسية الدولية والاقليمية غطاء تدخل في الشؤون الداخلية. * كاتب لبناني.