شهدت الأسواق المالية أخيراً حدثين لافتين: الأول في كانون الأول ديسمبر عندما انهارت سوق الأسهم المكسيكية، ما أدى الى خسائر بمليارات الدولارات لرجال الأعمال والمستثمرين الأجانب الذين ركزوا توظيفاتهم في هذه السوق التي شكلت في خلال السنوات الماضية احدى أكثر الأسواق الناشئة جاذبية. ومع ان غالبية الخسائر التي نتجت عن انهيار السوق المكسيكية لحقت بصورة رئيسية بمستثمرين أميركيين بالدرجة الأولى، نظراً لضخامة الاستثمارات الأميركية في هذه السوق، الا ان الاعتقاد السائد هو ان استثمارات متفاوتة من مصادر اخرى، من أوروبا الغربية، ومن الشرق الأوسط، قد تعرضت هي الأخرى للخسائر، وان بأرقام غير محددة نظراً لطبيعة الشركات التي تتولى ادارتها، وكان السؤال الرئيس الذي أثاره انهيار السوق المكسيكية يتركز حول جدوى الاستثمار في الأسواق المسماة ناشئة، لتمييزها عن الأسواق المالية التقليدية في نيويورك ولندن وباريس وطوكيو وغيرها. أما الحدث الثاني فتمثل في الانهيار الذي أصاب بنك "بارينغز" البريطاني، والتداعيات المالية التي أعقبته في الأسواق المالية العالمية، اضافة الى الانعكاسات المباشرة التي أصابت النظام المصرفي البريطاني، وهو نظام معروف بتقاليده العريقة، ويخضع لمراقبة متواصلة من قبل السلطات النقدية والهيئات الرقابية التابعة لها. واذا كان الكثير من الصفحات المخفية لملف هذا البنك، لا زال ينتظر جلاء الملابسات التي أحاطت بعملية الانهيار، فإن الشيء الأكيد، هو ان الثقة الخارجية بالأسواق العالمية قد تعرضت لنكسة جدىدة تعيد الى الاذهان، الانعكاسات التي خلفتها حادثة الاثنين الأسود في سوق نيويورك قبل سنوات، وكان أبرزها هروب العديد من الرساميل والاستثمارات الى مناطق وأسواق اخرى. تأثير الحدثين ومع ان لا رابط مباشراً بين ما تعرضت له سوق الأسهم المكسيكية وانهيار بنك "بارينغز" الا ان خبراء ماليين خليجيين يقولون ان الحدثين قد يشكلان حافزاً اضافياً لتشجيع الرساميل العربية في الخارج، على العودة الى أسواقها الوطنية بعدما تحسنت مساحات الاستثمار في هذه الأسواق، اضافة الى توسع فرص التوظيف فيها، في ظل سياسات التخصيص التي تتجه غالبية دول المنطقة الى تطبيقها، وتطوير التشريعات المالية والقانونية. وبحسب التقديرات نفسها، فإن دولتين خليجيتين هما السعودية والامارات قد استعادتا في سنة واحدة ما يصل الى 18 مليار دولار، تمثلت في رساميل تم تحويلها من الخارج الى المصارف الوطنية لتوظيفها، اما في مشروعات انتاجية، أو لاستثمارها في أسواق الأسهم المحلية. الى ذلك، فقد أظهرت تقديرات أعدها صندوق النقد الدولي حديثاً، ان الأصول التي تملكها المصارف الخليجية في الخارج قد تراجعت بما نسبته 10.5 في المئة في خلال النصف الثاني من العام الماضي وهي آخر تقديرات متوافرة، بالمقارنة مع ما كانت عليه هذه الأصول في الفترة نفسها من العام 1994 التي تراجعت من 10.3 الى 36 مليار دولار في نهاية حزيران يونيو الماضي. وطبقاً للتقديرات نفسها، فإن المصارف السعودية تصدرت لائحة المصارف الخليجية التي قلصت أصولها في الخارج، بهدف توظيفها في السوق المحلية، اذ تراجعت قيمة هذه الأصول من 22.56 الى 20 مليار دولار، ما نسبته 11.6 في المئة في خلال سنة واحدة. كما قلصت المصارف الاماراتية وجودها في الأسواق الدولية من 10.9 الى 8.4 مليارات دولار، ما نسبته 22.9 في المئة، بينما تدنت أصول المصارف القطرية من 1.878 الى 1.788 مليار دولار، ما نسبته 4.7 في المئة. ويفسر صندوق النقد هذا التراجع في الأصول الخارجية للمصارف السعودية والاماراتية والقطرية على انه نتيجة مباشرة للسياسة الجديدة التي بدأت هذه المصارف تطبيقها، وتركز بموجبها على زيادة استثماراتها في الأسواق المحلية، لاعتبارات مختلفة، من أبرزها التقلبات الحادة التي تعرضت لها الأسواق العالمية في خلال السنوات الماضية. وهي تقلبات أدت الى تحميل المستثمرين فيها خسائر كبيرة، كان من الصعب التحكم بالأسباب التي أدت الىها. تحسن مناخات الاستثمار أما السبب الأهم، بحسب تفسير صندوق النقد الدولي، فيتصل بالتحسن الواسع الذي حققته مناخات الاستثمار في الشرق الأوسط، وفي منطقة الخليج بصورة خاصة، في اشارة غير مباشرة الى التشريعات الجديدة التي وضعتها دول المنطقة لحماية الاستثمارات فيها، الى جانب انفتاح مجالات جديدة للتوظيف فيها وتحسن فرص التوظيف في قطاعي الصناعة والعقارات. والاعتقاد السائد، ان زيادة رساميل المصارف العربية بصورة عامة، والخليجية بصورة خاصة تستهدف تفعيل الدور الذي يمكن ان تلعبه هذه المصارف في تمويل المشروعات الجديدة سواء بصورة مباشرة أم في اطار تحالفات مع مصارف أجنبية. وقد برزت الحاجة الى مثل هذا التمويل مع البدء بتنفيذ مشروعات صناعية كبيرة لصالح القطاع الخاص، اضافة الى توجه الحكومات الخليجية الى الاتكال بصورة متزايدة على الاقتراض من المصارف لتمويل المشروعات التي تنوي تنفيذها. هل يؤدي انفجار قضايا مالية خارجية، مثل قضية سوق الأسهم المكسيكية وانهيار بنك "بارينغز" الى تسريع وتيرة عودة الاستثمارات العربية من الخارج؟ من غير الواضح، حتى الآن، حجم الخسائر التي قد يكون مستثمرون عرب تعرضوا لها، الا ان الأكيد هو انها زادت من مخاوف المتعاملين في هذه الأسواق، خصوصاً لجهة محدودية الامكانات المتوافرة لديهم للتحكم بها. الا ان الأصح، هو ان "هجرة ثانية" للرساميل العربية باتجاه أسواقها الوطنية قد لا تكون متيسرة، الا اذا حققت مناخات الاستثمار المزيد من التحسن… وأيضاً المزيد من التطور وهذا هو التحدي الذي يقول صندوق النقد ان الأسواق الشرق أوسطية ستواجهه في خلال السنوات القليلة المقبلة.