في شقة صغيرة في حي بملكو وسط لندن، لا ينقطع جوناثان برادلي 36 عاماً عن التفكير في المستقبل الذي ينتظره والاسم الذي سيختاره اذا نجح في التخلص من قرار التبني الذي ارتبط به بعدما ترعرع في كنف أسرة يهودية في مدينة ليفربول. محكمة الاستئناف العليا في بريطانيا رفضت طلب الشاب المولود لأب مسلم كويتي وأم كاثوليكية بريطانية الغاء تبنيه... لذلك لم يعد امامه سوى متابعة القضية وطرحها، ربما، أمام المحكمة الاوروبية في ستراسبورغ. ومع ان القضاة ابدوا تفهماً لطلبه ولرغبته الا انهم أصروا على رفض نقض تبنيه، لان ذلك قد يفتح الباب لعشرات الآلاف من امثاله الذين تتبناهم عائلات بريطانية، لالغاء قرارات تبنيهم. وما يحاول جوناثان برادلي الاصرار عليه هو ان العملية من أولها لم تكن صريحة. وان الحقائق التي توصل اليها بعد بدء رحلة البحث عن طفولته كشفت ان اسمه جوناثان برادلي وليس إيان روزنتال وان أمه ليست بريطانية يهودية وان والده ليس سورياً يهودياً، وان دار الحضانة التي تولت رعايته اخفت الحقيقة وابلغت أسرة يهودية انه يهودي الأمر الذي شجعها على اتخاذ قرارها بتبنيه وهو في الاسبوع الثالث من عمره. وما يتطلع اليه جوناثان حالياً هو ان يعيش حياة طبيعية، وان يحمل الجنسية الكويتية والانتقال الى بلد والده الذي احتل لسنوات مناصب حكومية عليا. ويقول انه عانى بسبب أصله العربي من دون ان يدري أي شيء، واتهم بالعمالة للعرب بسبب ملامحه. "الوسط" قابلته في منزله حيث كان يهتم بطفله الرضيع وروى لها سيرته طفلاً وشاباً: كيف بدأت قصة "روزنتال" الكويتي؟ - في العام 1990 بدا واضحاً لي تماماً ان الطريقة التي تم فيها التبني تستدعي قيامي بعمل شيء ما لتصحيح الاوضاع. ولعل أبرز الحوافز التي دفعتني الى ذلك، هو انني تقدمت بطلب للحصول على وظيفة في أبو ظبي في وقت لاحق من العام نفسه، لكن طلبي رُفض على رغم ان الوكالة التي كانت تشرف على عملية التوظيف في حقل التعليم اخبرتني ان مؤهلاتي تعطيني الافضلية على غيري من المرشحين. وما حصل في عملية رفض طلبي هو ان مكتب التوظيف اتصل بي واعتذر عن عدم اجراء مقابلة معي في خصوص الوظيفة، قبل 24 ساعة من موعد المقابلة، ولم يشرح لي المسؤولون فيه. لكنني استنتجت انهم لاحظوا انني كتبت في الطلب انني درّست اللغة الانكليزية في أحد معاهد تل أبيب، ما دفعهم الى شطب اسمي من لائحة المتقدمين بسبب قرار المقاطعة العربية. هذه القضية شكلت لدي اقتناعاً بأنه يستحيل عليّ الحصول على فرصة عمل في العالم العربي ما لم ألجأ الى الغش والخداع لدى تعداد مؤهلاتي في اي طلب وظيفة اتقدم به. ورأيت من الضروري، كوني كويتياً دفعتني الظروف التي عشتها الى اعتناق اليهودية بسبب تبني أسرة يهودية لي ان اصحح الوضع وألغي قرار التبني، تمهيداً للحصول على الجنسية الكويتية التي يحملها والدي، وتالياً على الحقوق المترتبة على ذلك وفي مقدمها ان أكون مسلماً. متى عرفت أنك طفل بالتبني؟ - منذ صغري، اعلمتني الأسرة التي تربيت في كنفها انها تبنتني. ولكن عندما عرفت انني عربي كويتي كنت في الثامنة والعشرين. تلقيت علومي في مدارس يهودية في بريطانيا، وأمضيت عطلاتي المدرسية في اسرائيل، وتعلمت العبرية. لجمال عينيه! كنت في السابعة أو السادسة من عمرك عندما علمت تبنيك؟ - قد يكون أقل من ذلك بكثير، لأن في مخيلتي ما يذكرني بأنني ربما كنت في الرابعة أو حتى الثالثة ونصف. وقالوا لي انهم اختاروني من بين مجموعة من الاطفال بسبب جمال عيني، وان الاسرة التي تبنتني قالت ذلك للمشرفين الاجتماعيين في الحضانة التي كانت تشرف على تربيتي. والحقيقة التي عرفتها لاحقاً كشفت لي ان دار الحضانة اتصلت بالأسرة اليهودية وعرضت عليها طفلاً يهودياً في العام 1959. ما اسم دار الحضانة؟ - دوريس كورت في مدينة مانشستر. كم كان عمرك يومها؟ - ثلاثة أسابيع. ما الذي دفع والدتك الى وضعك في حضانة والتخلي عنك؟ - في ذلك الوقت لم تكن في لندن جالية عربية كبيرة كما هو الحال اليوم، لتعطيني لأسرة عربية تتولى رعايتي، فاتصلت براهب كاثوليكي نصحها بحملي الى دار لرعاية الاطفال في مانشستر. وهناك أبلغت والدتي الدار ان والدي من منطقة الخليج العربي وتركتني وعادت الى لندن... ولم تعرف ما حصل بعد ذلك، الا حين رأيتها بعد 28 عاماً لأخبرها ان عائلة يهودية هي التي تبنتني. ولم تفهم لماذا حصل ذلك، خصوصاً انها لم تخبر الدار ان والدي يهودي مثلاً. وهذا ما جعلني اقتنع بأن المسؤولين في دار الحضانة هم الذين اختلقوا رواية غير حقيقية عن هويتي. لقد أبلغوا العائلة اليهودية ان والدي يهودي سوري وبدّلوا خلفية والدتي واسم بلدتها الأصلية. ولا أدري ما الذي دفعهم الى ذلك. نُقلت الى دار الحضانة على اساس انني ابن عربي مسلم وأم انكليزية كاثوليكية وخرجت منها على اساس انني يهودي! من أي مدينة بريطانية والدتك؟ - من يوركشاير، لكنها تعيش حالياً في لندن. رحلة البحث كيف بدأت تتعرف الى الحقيقة؟ - لم يخبروني بشيء. بدأت رحلة البحث عن والديّ الأصليين بنفسي، عندما كنت في التاسعة عشرة. في العام 1975 عُدّل القانون في بريطانيا بما يُتيح للأطفال بالتبني الحصول على معلومات عن هويات ذويهم الاصليين. وهذا ما دفعني الى بدء رحلة البحث عن أهلي الاصليين. في بادئ الأمر ابلغتني دار الحضانة ان والدتي لم تكن يهودية، وان والدي يهودي سوري. ولا أخفي انني شعرت بارتياح، لأن ذلك يعني انني لم أكن يهودياً حقيقياً، خصوصاً ان اتباع الديانة اليهودية يفرض ان تكون الأم يهودية... فيتبعها أولادها في الدين. ترعرعت في بيئة صهيونية. كنت صغيراً في حرب الأيام الستة 1967، وكذلك في حرب يوم الغفران حرب تشرين الأول/ اكتوبر في العام 1973. لكن ما لا انساه اننا كنا مع الجانب الاسرائيلي لأن الجانب الآخر هو الشيطان. وشعرنا بالسعادة لأن اسرائيل ربحت الحرب. بعد سن الواحدة والعشرين بدأت اعيد النظر في دعمي الاعمى للصهيونية وبدأت بالتعاطف مع الفلسطينيين. وكان ذلك واضحاً على مدى ثلاث سنوات من خلال جدلي مع زملائي ورفاقي. ماذا كان رد فعلك وتأثير ذلك في علاقتك مع ذويك بالتبني عندما عرفت جانباً من الحقيقة عن ولادتك؟ - زارني والدي بالتبني اثناء دراستي الجامعية في مدينة ليدز. وفيما كنت أعد له الشاي في المطبخ، وجد في خزائني شهادة ميلادي. فجن جنونه، وثار غاضباً لذهابي الى دار الحضانة، وقال لي يومها انني لو طلبت مساعدته لمعرفة أهلي الحقيقيين لما تردد في مساعدتي، وكان ذلك اليوم المرة الأخيرة التي دار فيها بيننا مثل هذا الحوار. متى حصل ذلك؟ - في العام 1978، بعد بضعة أشهر من اتصالي بدار الحضانة. هل أثر ذلك في تعامل الاسرة معك؟ - لم أكن أمضي عطلاتي الدراسية معهم. كنت أذهب لتمضية عطلتين معهم فقط احداهما لمناسبة رأس السنة اليهودية والاخرى لمناسبة عيد الفصح اليهودي. كان اهتمامي بعد ذلك ينصب على دراستي وقضاء وقتي مع أصدقائي. وكنت احياناً كثيرة أجادل في المفاهيم الصهيونية للقضايا. وبدأ اصدقائي يلمسون برودة تعاطفي مع الحركة الصهيونية وتفهمي العمل الفلسطيني. كان أهلي كثيراً ما يجبرونني على السكوت عندما كنت اتفوّه بأشياء عن اسرائيل لا تناسب مفاهيمهم. كانوا يطلبون مني ان أكون مقدراً للدور الذي تقوم به اسرائيل من أجل اليهود بعد الذي عانوه على أيدي النازيين. العربية والعبرية ماذا كنت تدرس في الجامعة؟ - العربية والعبرية في ليدز. لماذا كان اتصالك بذويك بالتبني محدوداً؟ - تركتهم وأنا في الثامنة عشرة عندما التحقت بالجامعة، وكانوا هم يتابعونني ويتصلون بي هاتفياً. كانوا كثيراً ما يعملون لاقناعي بافكارهم وطريقة الحياة اليهودية التقليدية، كانوا يحثوني على الزواج من يهودية وانجاب أطفال، لكن عقلي كان متجهاً نحو مجالات أخرى. ما هي الأعمال التي مارستها بعد تخرجك من الجامعة؟ - في العام 1983 عملت في استوديو للموسيقى، مع فرقة فنية جالت في أوروبا. كانت فترة مثيرة في حياتي استمرت حوالي عامين. لماذا اخترت دراسة العربية عندما التحقت بالجامعة؟ - لا أدري، خصوصاً انني اخترت ذلك قبل ان اعرف ان والدي مسلم وعربي كويتي. ربما كانت اهتماماتي بالسياسة الشرق الأوسطية حافزاً كبيراً لمعرفة اللغات في المنطقة ودراستها. متى بدأت تشعر بوجود مشكلة بين العرب واليهود؟ - لم التقِ عربياً واحداً الى ان التحقت بالجامعة. قبل ذلك كان عرفات بالنسبة إلي شراً وجورج حبش شيطاناً، وحتى كل من يحمل اسماً عربياً كان بالنسبة إلي والى اسرتي شراً يجب الابتعاد عنه. كانت القناعة التي زرعها والدي بالتبني في ذهني هو ان العرب أناس لا يمكن الوثوق بهم. كان دعم اليهود البريطانيين لاسرائيل عاطفياً وبلا حدود. واذا حصل ا ن عرضت صورة لجنود اسرائيليين يطلقون النار على أطفال، يتبرعون للقول بلا تردد انها صورة غير حقيقية. لقد استمرت هذه القناعة عند كثيرين حتى غطت صور مجازر صبرا وشاتيلا كل أصقاع الأرض. لم أكن مؤيداً لهذه القناعات العمياء. في اسرائيل ماذا عن زياراتك لاسرائيل؟ - ذهبت الى اسرائيل للمرة الأولى في عطلة الصيف العام 1975، وكنت في السادسة عشرة. استمتعت بجوها الدافئ ومناظرها الخلابة. اقمت في مستوطنة في الجليل تطل على الأراضي الأردنية تسمى الحمادية. وهي واحدة من المستوطنات القديمة والغنية. كان بمقدورنا رؤية الأراضي الأردنية عبر حقول القطن المحيطة بالمستوطنة. ماذا فعلت في المستوطنة؟ - كنت أقود جراراً زراعياً، وأقوم بأعمال مختلفة، كغسل الصحون والعمل في الحقول وقطف الزيتون وغير ذلك... هل حذروك من "الارهاب العربي" اثناء زيارتك؟ - تأخرت طائرتي من لندن الى تل أبيب عندما سافرت، بسبب اشاعات عن احتمال تنفيذ كارلوس عملية ضد طائرة "العال" الاسرائيلية. ولذلك ارجئت الرحلة وبت تلك الليلة في أحد الفنادق القريبة من مطار هيثرو على حساب شركة "العال" الاسرائيلية. ما الهدف من ارسال يهود في مثل هذا العمر الى اسرائيل؟ - ربما لتشجيعنا على الذهاب والعيش هناك في مرحلة لاحقة. واذكر انه في حرب يوم الغفران العام 1973، ارسلت مدرستي متطوعين الى اسرائيل لنحل محل الذين التحقوا بالجيش، في مجال القيام بالأعمال الزراعية. هل كانت مدرستك حكومية بريطانية أم يهودية خاصة؟ - كانت مدرسة باشراف يهودي لكنها تابعة للحكومة. ماذا عن رحلتك الثانية الى اسرائيل؟ - كانت في العام 1986، وكان وعيي السياسي نما وتطور. عندما وصلت الى مطار بن غوريون، اخذوني جانباً وبدأوا باستجوابي بعدما اعتقدوا بأنني جندي اسرائيلي هارب من الخدمة العسكرية الى بريطانيا. وزاد من شكوكهم انني كنت اتحدث العبرية بطلاقة. لكنهم اطلقوني بعد ساعة وطلبوا مني مراجعة وزارة الداخلية. وبعد مدة زادت مشاكلي، اذ مالت بشرتي نحو السمرة بسبب حرارة الجو. وبدأت الحواجز الاسرائيلية بتوقيفي وتفتيشي، اذ ظنت عناصرها انني عربي. كنت أخبرهم انني بريطاني، لكنهم كانوا يصدقون ذلك بصعوبة بالغة. كانوا يتهمونني بالكذب. وكنت يوماً في مكتبة الجامعة في تل أبيب أبحث عن كتاب لنجيب محفوظ حين قال لي شابان اسرائيليان اترك هذه الاشياء! كان الجنود الذين يرافقون الباصات لحراستها من العمليات العسكرية يدققون في أوراقي وامتعتي كثيراً. لم يكونوا يثقون بي. ولم انجح بعد عشرة أشهر من اقامتي في تل أبيب في بناء صداقة مع أحد. وكان هذا مخالفاً لطبيعتي. في شهر أيار مايو من العام 1987 اتصل بي مسؤول في سفارة بريطانيا في تل أبيب ونصحني بالسفر الى بريطانيا. ولم يوضح لي الأسباب لأنني لم اسأل. كان الشيء الوحيد في ذهني لمدة ثلاثة أشهر قبل مغادرتي اسرائيل هو ان أذهب الى اسرتي بالتبني لمعرفة هوية والدي الحقيقية. وبعد عودتي الى بريطانيا بدأت رحلتي بحثاً عن جذوري. ماذا كنت تعمل طوال عشرة أشهر في اسرائيل؟ - كنت ادرّس الانكليزية في ضاحية فقيرة من ضواحي تل أبيب تدعى بيت يام، وهي مليئة باليهود العراقيين واليمنيين. لكن ما ازعجني خلال وجودي هو انني لمست التمييز بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، كانت احدى الطالبات البيض تطلق على اليهود العراقيين مثلاً كلمة "العبد القذر" أو "كوشي" بالعبرية. ولم أكن أصدق ما أسمع! قلت انك اتهمت بالعمالة للفلسطينيين اثناء وجودك في اسرائيل، متى حصل ذلك؟ - خلال الأشهر العشرة التي اقمتها في تل أبيب، كانت سيدة تشرف على النزل الذي كنت اسكن فيه في رامات افيف بضواحي تل أبيب. وكانت غالبية نزلائه من المهاجرين اليهود. كنت اتشاجر مع هذه المرأة لاسباب كثيرة. وذات مرة انتقدتها، فقالت لي "انت تتجسس هنا لمصلحة من"؟ وأجبتها باستغراب: "ليس لمصلحة أحد". وردت عليّ "لا أحد سيصدقك". نظرت اليها باستغراب ومشيت. كانوا يعجبون لمعرفتي العبرية والعربية. وكان ذلك يثير في ذهنهم الاسئلة الكثيرة. كثير من الحوادث الطريفة حصل معي في هذا النزل. شاهدتني امرأة يوماً في النزل أحمل كتاباً عربياً، واخذت تصرخ في المبنى، قائلة "يوجد عربي هنا... يوجد عربي هنا"! لمن كنت تقرأ؟ - لنجيب محفوظ وطه حسين، ولشعراء العصر الجاهلي مثل امرئ القيس وعمر بن ابي ربيعة. هل لديك اصدقاء عرب؟ - نعم، فلسطينيون ولبنانيون ومصريون. وماذا عن اليهود؟ - نعم هناك عدد منهم تفهم وضعي. انني اشارك في كثير من النشاطات التي تشجع التفاهم بين العرب واليهود. العثور على الوالدة كيف عرفت بتفاصيل عملية تبنيك بعد عودتك؟ - في العام 1987 عدت وبدأت رحلة البحث عن والدتي. كان اصراري كبيراً، كتبت حوالي 50 رسالة الى كل من يحمل اسم عائلة والدتي في مقاطعة يوركشاير بعدما حصلت على الاسماء من دليل الهاتف. بعد شهرين وصلتني رسائل عدة من سيدات يتمنين لي فيها التوفيق في الوصول الى والدتي، لكن احدى الرسائل كانت من قريب لوالدتي أخبرني فيها عن والدتي في لندن. كيف عرفت الاسم الكامل لوالدتك؟ - من شهادة الميلاد. ما اسمها؟ - لن أبوح به، لكنها تزوجت، وكتب لها قريبي في الوقت نفسه ليبلغها انه بعث لي بعنوانها في لندن. ومن خلال الاسم والعنوان، اتصلت بشركة الهاتف وسألت عن رقم هاتفها، وبادرت الى الاتصال بها. كانت طبيعية في حديثها معي، وطلبت عنواني وبدأت بمراسلتي. كانت أياماً مثيرة في حياتي، على رغم انها أوحت لي من لهجتها وكأنها كانت على اتصال دائم بي. ربما كانت لا تريد لزوجها ان يعرف قصتي. وعندما التقينا اكتشفت انه لم يسبق لها ان ابلغت زوجها القصة وانها انجبت طفلاً. ماذا كان في رسالتها اليك؟ - خلال يومين كتبت لي أربع رسائل. وقالت في واحدة منها انها كانت تتوقع ان يحصل مثل هذا الأمر. وأنها لا تعرف نتائج ذلك على مستقبلها. واقترحت عليّ الاستمرار في الكتابة الى ان نلتقي. أخبرتها عن حياتي ودراستي، ولم أسألها عن والدي، لأنني اعتبرت ان ذلك أمراً غير لائق بعد 28 عاماً. وكتبت لي في رسالتها الثانية اسم والدي، وقالت انه كويتي الجنسية. قالت ذلك بعدما ارسلت اليها صورتي بملابس التخرج من الجامعة. وكتبت معلقة على ذلك انني اشبه والدي الذي يعيش في الكويت. عندما قرأت اسم الكويت، ذهبت الى خريطة للكرة الأرضية كنت احتفظ بها، وبدأت بالبحث عن الكويت... وبعد بضعة اسابيع التقينا وبدأت بمساعدتي للعثور على والدي الحقيقي. الوالد... بالصدفة كم استغرق الأمر للوصول الى والدك؟ - من ثلاثة الى أربعة أشهر. وكيف وصلت اليه؟ - بالصدفة. قرأت اعلاناً عن وظيفة في الكويت. اتصلت برقم الهاتف، وكان رد السيدة الانكليزية على الخط، انها تأسف لأن المدرسة التي تطلب مدرسين هي للبنات فقط. بعدما اعدت سماعة الهاتف الى مكانها، فكرت قليلاً، وعاودت الاتصال بالسيدة الانكليزية، واعتذرت قبل ان ابلغها اسم والدي وهل سمعت به في الكويت. وتنهدت قليلاً، ثم قالت لي ان زوجها عمل في مكتبه لمدة عشر سنين. وأخذ زوجها سماعة الهاتف وابلغني انه كان يعمل في شركة النفط الكويتية. واعطاني وصفاً كاملاً له ورقم هاتف مكتبه... وفي اليوم التالي اتصلت بوالدي وكلمته. وماذا كان رد فعله؟ - كان طبيعياً، رحّب بي وكان يتوقع اتصالي. وقال لي انه كان يبحث عني. أخبر زوجته بأمري عندما تزوج، وحاولا معاً العثور عليّ. لقد شعر بالارتياح عندما اتصلت به. لقاء الوالدين كيف التقيت والدتك وجهاً لوجه للمرة الأولى؟ - بعد رسالتها الثانية، لم أعد احتمل الانتظار. كنت املك دراجة نارية، وكان يوم جمعة، فقررت زيارتها من دون سابق انذار. توجهت عبر الطريق السريع الى لندن، قرعت باب منزلها وفتح زوجها الباب، فسألته هل والدتي موجودة. فوجئ بالسؤال، وتوجّه لابلاغها. حضرت الى الباب، ويبدو انها كانت مشغولة بتنظيف المطبخ لأنها كانت ترتدي كفوف التنظيف وتحمل قطعة قماش. دعتني الى الدخول وتناول كوب من الشاي. هل كان زوجها يعرف بوجودك؟ - لا، لقد فوجئ. اخبرته بقصتها في الليل، لأنني كنت ابيت في غرفة مجاورة. وفي صباح اليوم التالي، جاء الي وأخبرني انه عرف القصة، وسيحاول ان يكون صديقاً لي. لم أكن أرغب في ان أسبب مشاكل لوالدتي. استغرق الامر عاماً لاتعرف الى والدتي. رسائل طويلة وكثيرة... نزهات معاً، الى المسارح، الى دور السينما. كانت سعادتي كبيرة في العثور على شخص يمت إلي بصلة. هل رأيت والدك بعد اتصالك الهاتفي به؟ - لا، أخبرني انه يأتي عادة لتمضية الصيف في لندن، وانه سيتصل بي عندما يحضر اليها في شهر آب اغسطس من العام 1988. وفعلاً اتصل بي، وكان همه ان يعرف هل أنا ابنه الحقيقي أم لا. ماذا كان شعوره؟ - كان يرتدي ملابس انيقة. قلق بعض الشيء عندما أطل بعدما فتحت لي خادمة فيليبينية الباب، وبدت زوجته سيدة بشوشة ورحبت بي. كان يشبهني تماماً. انفي مثل انفه. تحدثنا في اشياء كثيرة. ماذا كان رد فعله؟ - شعرت بأنه مرتاح. كانت الدموع تنهمر من عينيه. وكذلك أنا. أبلغني انه مسرور برؤيتي. وزوجته؟ - كانت رائعة، وعاملتني على أساس انني الأبن الأكبر للأسرة. هل عرّفك والدك على بقية أفراد الأسرة؟ - يريد مني ان اذهب الى الكويت للقاء العائلة... لكنني احتاج الى بعض الوقت الآن. لكنني أتوق الى الرحيل والعيش في الكويت في وقت لاحق. اخبرني عن اخواني وأختي. قال انهم يدرسون في الولاياتالمتحدة وسألتقيهم في الوقت المناسب. هل حصل ذلك؟ - لا، انهما ولدان وبنت، وأعتقد بأن اعمارهم قريبة من عمري. لا اعرف هل هم في الكويت الآن أم في مكان آخر، ولا اعلم هل يعرفون بوجودي أم لا. لكن شهرة والدك في الكويت تجعل من الصعب على اخوتك عدم معرفة الحقيقة؟ - صحيح، بدليل انني كنت منذ مدة في مجلس العموم البريطاني عندما اقترب مني ديبلوماسيان كويتيان سبق ان شاهدا فيلماً وثائقياً عني، وقالا لي انهما يعرفانني. وعندما ابلغتهما انني لا اعرفهما قالا لي انهما يعرفان والدي. وعندما سألتهما هل يعرفانه فعلاً أجابا: بالطبع كل واحد في الكويت وخارجها يعرف والدك. انك تشبهه تماماً. توتر الوزير ماذا عن اللقاءات مع والدك؟ - كنا نلتقي دورياً الى ان حصل الغزو العراقي للكويت. كان يشعر دائماً بالرغبة في رؤيتي، وكذلك زوجته. كانا يدعوانني الى زيارتهما كلما اتيحت لي الفرصة. وعندما تزوجت ذهبت للعيش في المانيا، وكان والدي في الكويت. وكنت مرتاحاً الى كونه موجوداً حياً. لقد كانت علاقتي به طيبة. وبعد عودتي من المانيا التقيته في أحد الفنادق، وكان عصبياً ومتوتراً وحتى قلقاً. متى كان ذلك؟ - في ربيع العام 1989. لماذا؟ - لاحظت انه بخلاف طبيعته. وقال لي فجأة انه بدأ بالعمل اخيراً مع رئيس الوزراء، وفهمت من كلامه يومها انه بدأ الاهتمام بالسياسة ولا يريد ان أسبب له احراجاً. احترمت رغبته ولم أره منذ ذلك اليوم. وأعتقد بأن من الاسباب التي أدت الى الجفاء في العلاقة معه انني كنت، بعد احتلال العراقالكويت في آب 1990، أتردد على السفارة الكويتية ومراكز تجمع الكويتيين في لندن للاطمئنان الى والدي وزوجته واشقائي. لم أكن اعرف انه وزير في الحكومة. وبعد ثلاثة اسابيع من الاتصال والبحث، اتصل بي شخص يعمل معه وطمأنني الى ان والدي بخير، وترك الكويت مع الأسرة الحاكمة الى المملكة العربية السعودية. وفرحت شخصياً بهذه الأخبار. تابعت أخبار احتلال الكويت ساعة بساعة ويوماً بيوم. شعرت بانني مقطوع عن كل شيء. وعدت نفسي بالذهاب الى الكويت... وفجأة أحتلت! كنت أدرس في أحد المعاهد حيث تقدمت الى جمعية كويتية في لندن عارضاً خدماتي محاضراً في الجامعات لشرح الموقف الكويتي. وعندما وافقوا طلبوا مقابلتي لوضعي في صورة التطورات. وكان بين الاسئلة التي طرحها متطوع بريطاني يعمل مع المنظمين سؤال عن صلتي بالكويت، وقال انه يريد لاسباب أمنية معرفة اسم والدي أو صلتي بالكويت. واجبته: "ان خلفيتي معقدة، لكنني سأبوح لك بشيء أرجو ان يبقى طي الكتمان". وأبلغته ان والدي كويتي وان اسمه هو س. م. لكنهم اتصلوا بي في اليوم التالي ليعتذروا ويرفضوا مشاركتي بعدما عرف كل من في المكتب قصتي. هل حاولت شرح ذلك لوالدك؟ - نعم، لكن محاولاتي باءت بالفشل. حتى سكرتيرته لم تعد ترد على مكالماتي. كتبت له في مناسبات عدة معتذراً ومحاولاً شرح ظروفي. وأنا ما زلت واثقاً بأنه سيتصل بي. التقيا معاً هل حاولت جمع والدك ووالدتك معاً؟ - التقيا في العام 1988، واتفقا على رعايتي رعاية جيدة. ومازحتهما قائلاً: انني بلغت سن الرشد من زمن بعيد. ماذا كان رد فعل والدتك على علاقتك بوالدك؟ - نصحتني بتقدير ظروفه وباعطائه الوقت لاستيعاب ذلك. ولا شك في انه سيسامحني على أي خطأ أو سوء تقدير بدر مني. هل أطلعت والديك بالتبني على هذه التطورات؟ - لا، لقد توفيا في الفترة التي بدأت بالاتصال بوالدي الاصليين. واكتشفت من الرسائل التي كانا يتبادلانها مع دار الرعاية التي سلمتني اليهما انهما كتبا رسائل عدة عبّرا فيها عن غضبهما لأنني لم أكن من أم يهودية. وكتبا في احدى الرسائل التي في حوزتي حالياً انهما لو عرفا انني لست من أم يهودية لما قبلا بعملية التبني منذ البداية... ولكن على رغم ذلك لم يدعاني أشعر بشيء. واكتشفت ان والديّ بالتبني كذّبا أمام المحكمة اذ كتما عمرهما الحقيقي فعمدا الى تصغير سنهما... والا لما سمحت لهما بعملية تبني. كم كانت سنهما؟ - كان عمر والدتي بالتبني 48 عاماً ووالدي 47 عاماً. لكنهما قالا للمحكمة انهما لا يتجاوزان ال 42 عاماً بعدما زورا وثيقتي الولادة. كانت والدتي بالتبني لا تحب غير اليهود. وكنت واثقاً بأنها لو عرفت انني غير يهودي، لرفضت تربيتي وأنا في الاسبوع الثالث من عمري. وهل اتصلت بأي من اقربائك بالتبني؟ - اتصلت بأحدهم عندما انجبت زوجتي طفلة هي في اسبوعها السابع الآن، وقالت انها ستزورني عندما تأتي الى لندن... ولم اسمع غير ذلك. ماذا تعتبر نفسك الآن؟ - أشعر بأشياء متناقضة. انني أحاول البحث عن ذاتي. تقدمت بطلب الى المحكمة لالغاء قرار التبني. من الطبيعي ان أشعر بأنني كويتي لأن والدي كذلك. ومن حقي ان أكون مسلماً لأن والدي هو كذلك، لكنني مع الاسلام المنفتح والمتفهم للديانات الاخرى، وهو في تقديري الاسلام الحقيقي. ماذا تعمل زوجتك؟ - محاضرة في جامعة ميدلسكس. وهل هي يهودية؟ - لا، كانت مسيحية وتخلت عن ديانتها. تزوجنا الصيف الماضي. ماذا عن أخبار والدتك الآن؟ - انها تزورني باستمرار، وفرحت لانجابي طفلة اطلقت عليها اسم دانيا. لكن المشكلة ان زوج والدتي لا يريدها ان تراني. وصلت الى مرحلة كاد زواجها ان ينهار بسببي، لكن الاوضاع الآن جيدة. لا أريد ان اسبب لها أي مشكلة. متى تزوجت والدتك؟ - قبل 28 عاماً. انها متقاعدة في الحادية والستين من عمرها، كانت في سلك التعليم تدرس الفرنسية. كيف التقت والدك؟ - في باريس اثناء رحلة دراسية، كانت تتقن الفرنسية جيداً، وكان والدي يجهلها. ويبدو انه كان يعتمد على لغتها في الترجمة والتنقل. بعد ذلك توطدت العلاقة بينهما وكنت ثمرة هذه العلاقة. كم استمرت هذه العلاقة؟ - حوالي ثمانية أشهر. متى حصل ذلك؟ - في العام 1958. هل حدثتك بشيء عن والدك؟ - قالت انه كان لبقاً وذكياً ومهذباً. كان ساحراً وكانا يخرجان معاً لقضاء أوقات ممتعة. ان عيونها تلمع حين تحدثني عن ذكرياتها معه. كانت مولعة جداً به... أما الآن فانها تعتبر ذلك شيئاً من الماضي.