تناول الدكتور حسن حنفي في مقاله السابق "الوسط" العدد 157 بدايات تيار الإصلاح الديني ومنطلقاته في الجزيرة العربية واليمن وتونس والعراق ومصر والسودان والهند والمغرب العربي وبلاد الشام... وأوجز أفكار هذا التيار. ويعرض في هذا المقال النتائج وما انتهى إليه هذا التيار. على رغم هذه البدايات والمنطلقات الجذرية الاولى ونظرا إلى تصادم جماعات الاسلام السياسي الحالي وريثة التيار الاصلاحي القديم بدت النهايات غير البدايات وتناقضت النتائج مع المقدمات. وظهرت في شبه الجزيرة العربية دعوات إلى التغيير الإجتماعي. وساهمت الحركة الاصلاحية في اليمن في زعزعة حكم الائمة واستشهد الائمة الاحرار مثل زيد الموشكي. ثم قضت الثورة اليمنية، بقيادة الضباط الاحرار في 1962، على نظام الامامة باسم الحرية والقومية العربية والاشتراكية. وبعد محاولات الوفاق الوطني بين الائمة المحافظين والضباط الاحرار هدأت الروح الثورية، وعمل كل فريق لمصلحته. التيار المحافظ يقنع بالسلفية ونظام الائمة، والضباط الاحرار يقنعون بالحكم، ولا يحلون القضايا الاجتماعية الرئيسية كالفقر والبطالة والأمية حتى اتسعت المساحة بين الفريقين ما يهدد بالانفجار في اية لحظة كما حدث في الجزائر. وحدث الشيء نفسه في ليبيا عندما لم تستطع الحركة السنوسية الاستمرار في دافعها الثوري الاول. واستمر الائمة في الحكم فقام الضباط الاحرار بثورتهم في 1969 لانهاء حكم الائمة والانطلاق بالقومية العربية كما جسدتها الناصرية في ذلك الوقت. ووقع صدام بين الثورة والاخوان فاستُبعِد هؤلاء كلياً من الحياة السياسية واسؤصلوا من الحياة العامة لمصلحة "الكتاب الاخضر" الذي يجعل الدين أحد العناصر المكونة للقومية وليس العكس. وعلى رغم غياب اي جماعة اسلامية نشطة في ليبيا إلا ان المسافة الشاسعة بين الاقوال والاعمال، بين الخطاب السياسي والواقع، يهدد أيضاً بنشأة تيار اسلامي محافظ رافض للقومية والعلمانية. وحدث في السودان الشيء نفسه، اذ لم ينجح حزب الامة، وريث المهدية، في حل مشاكل السودان بعد الاستقلال. ودخل في صراع مع بقية الاحزاب الوطنية والقومية والاشتراكية حتى قام الجيش بانقلاب ابراهيم عبود فوقعت البلاد تحت الحكم العسكري حتى الثورة الشعبية عليه في نيسان ابريل 1987. وحدث انقلاب عسكري آخر على ثورة نيسان الديموقراطية، يدين بالولاء للجبهة القومية الاسلامية فاجتمعت سلطة الجيش مع سلطة الدين، وتوزعت المعارضة خارج البلاد، وظل التوتر قائما في الداخل بين الجبهة القومية والجبهة الديموقراطية، وانتقل الصراع مع مصر. وثمة تنسيق بين مجموع الحركات الاسلامية في السودان وايران والجزائر ومصر وتونس. وحدث الشيء نفسه لمدرسة الافغاني التي بدأت تنحسر جيلا وراء جيل، من الافغاني الى محمد عبده الى رشيد رضا في مصر. وعلى رغم محاولة حسن البنا النهوض بها من جديد لاحقاً بالافغاني الاول ومكملا مشروعه لانشاء حزب اسلامي ثوري إلا ان الصدام بين الثورة والاخوان في 1954 قضى كلياً على التيار الاسلامي الثوري السياسي الاجتماعي، فتحول الى تيار اسلامي سلفي رافض لكل النظم السياسية القائمة، وراغباً في الانتقام منها والثأر لما حدث له من استشهاد لحسن البنا على يدها في 1949 وزعمائها في 1954 ثم تعذيب أعضائها في السجون. وخرج تيار اسلامي جديد يمثله "معالم في الطريق" لسيد قطب يكفر المجتمع، ويضع تقابلا بل تعارض لا يمكن المصالحة بينهما بين الاسلام والجاهلية، الايمان والكفر، الله والطاغوت. بناء احد الطرفين مرهون بالقضاء على الطرف الآخر. ولا يقوم بهذا الصراع ويحسمه لمصلحة الاسلام والايمان والله تطبيقا للحاكم، الا جيل قرآني فريد تحت شعار "لا اله الا الله"، منهاج حياة وتحرير للوجدان الانساني من الطاغوت بفعل النفي الاول "لا إله" قبل الاستثناء الثاني "إلا الله". ومن "معالم في الطريق" ومن مناقشات أعضاء الجماعة في السجون تحت آثار السياط خرجت جماعات ترفض حتى ما بقي من آراء الاخوان المستنيرة الاولى التي عبر عنها ايضا سيد قطب في "العدالة الاجتماعية في الاسلام" و"معركة الاسلام والرأسمالية" و "السلام العالمي والاسلام". خرجت افكار جماعة التكفير والهجرة لشكري مصطفى وكتاب "الخلافة" ما ادى الى اغتيال الشيخ الذهبي في 1976. وانتشرت افكار حزب التحرير الاسلامي لتقي الدين البهاني من الاردن. وظهرت اخيرا جماعة الجهاد التي عبرت عن فكرها في "الفريضة الغائبة" لمحمد عبدالسلام فرج. فهو يكفر المجتمع اعتمادا على فتاوى ابن تيمية في تكفير التتار الذين كانوا يحكمون بالياسة وهي مجموعة من القوانين الوثنية والاسلامية. واستأنف عمر عبدالرحمن بفتاويه التي تدعو الى الخروج على النظم القائمة وضرب السياحة واستعمال العنف، واغتيال المعارضين ورموز الدولة، والاستيلاء على مديريات الامن وكان من حوادثها اغتيال السادات في اكتوبر 1981. وفي الجزائر، بعدما كان الاسلام دافعا ثوريا ابان حرب التحرير، وبعد حكم ربع قرن لجبهة التحرير الوطنية انتشر الفساد، وعمت البطالة، وزاد الفقر، وضاع المشروع الوطني ما سبب في ظهور الاسلام حاملاً المعارضة السياسية وممثلاً في جبهة الانقاذ التي تدعو الى الاسلام التقليدي، وتطبيق الشريعة بمعنى الحدود، وامتثال الاوامر واجتناب النواهي، وتتوعد الديموقراطية، وتعارض الخصوم ما ادى الى انقلاب الجيش عليها وعلى الديموقراطية التي حملتها. وبدأت المعركة بين الاخوة الاعداء، جبهة الانقاذ وجبهة التحرير، كل يستبعد الآخر بمنطق الفرقة الناجية. وفي المغرب تحول تلاميذ علال الفاسي من الاسلام الوطني الاشتراكي الى الاتحاد الاشتراكي والقوى الشعبية، تقدمية علمانية مما سبب ظهور الاخوان المسلمين سلفيين محافظين، وبدأت الحرب بين الاخوة الاعداء كل فريق يعتبر انه المنقذ للوطن وأولى بالحكم واقرب الى الشرعية. وفي باكستان تأسست الدولة في 1948 على شعر اقبال وبقيادة محمد علي جناح، ثم قامت الانقلابات العسكرية يمارس الضباط فيها صنوف القهر والتسلط، انقلابا وراء انقلاب، وهبات شعبية وراء هبات شعبية. انتهى الفكر الاصلاحي الى عكس ما بدأ منه، بدأ بالانسانيات والاجتماعيات دفاعا عن وضع الانسان في المجتمع وحقوق المسلمين الضائعة بين الاستعمار من الخارج والقهر من الداخل وانتهى الى الانحسار في الالهيات، والحديث دائما باسم الله، والمعترض على الجماعات الاسلامية معترض على الله. فالحاكمية لله وليس للشعب، والحكم للشريعة وليس لمصالح الناس، مع ان الامامة عقد وبيعة واختيار، وان امام المسلمين انما يمثلهم ولا يمثل الله، يحكم باسمهم وليس باسم الله، وكيلا عنهم وليس وكيلا عن الله. ويُنادى بتطبيق الحدود بمعنى الردع والتخويف والارهاب، وقطع اليد، والرجم، والجلد والتغريب مع ان الشريعة اعطت المسلمين حقوقهم قبل ان تطالبهم بواجباتهم، وان لا قطع ليد سارق عن جوع او بطالة او عوز او عن ضعف، اذا سرق الشريف ترك واذا سرق الضعيف طبق عليه الحد! وماذا عن درء الحدود بالشبهات؟ بدأ التيار الاصلاحي عقلانيا معتدلا يحاور باقي التيارات، فقد كان الافغاني مؤسس الحركة الاصلاحية صديقا لشبلي الشميل رائد الفكر العلمي العلماني. وغلب عليه الآن التعصب والرفض والمخالفة من دون الاعتدال والتسامح، والاخذ والعطاء، "كلكم راد وكلكم مردود عليه"، وايجاد مساحة الاتفاق مع التيارات الاخرى اكثر من البحث عن نقاط الاختلاف. وحججه بمعظمها نقلية بعدما كان محمد عبده يقول بالحسن والقبح العقليين. وارتد أشعريا في التوحيد والعدل بعدما كان محمد عبده اشعريا في التوحيد معتزليا في العدل. بل انه ارتد عن نظرية العلم عند الاشاعرة التي تجعل الحجج النقلية ظنية، ولا تتحول الى حجج يقينية الا بحجة نقلية ولو واحدة، فالنقل وحده مرتبط بمعرفة اسباب النزول والناسخ والمنسوخ وقواعد اللغة العربية واساليب البلاغة، والتأخير والتقديم، والاضمار، والمحكم والمتشابه، والظاهر والمأول، والمطلق والمقيد، والخاص والعام، والامر والنهي الى آخر ما فصله علماء أصول الفقه. بدأ التيار الاصلاحي بالدفاع عن النظام البرلماني الذي يقوم على تعدد الاحزاب والدستور، وحرية الرأي، والانتخاب، وحرية الصحافة، ومسؤولية الحكومة امام البرلمان، وانتهى الى نوع من الحكم الالهي الذي يقوم على الجدل بين الكل واللاشيء، هدم كل ما هو قائم من اجل اعادة البناء من جديد، من دون تدريج او مراحل، على رغم ان التشريعات الاسلامية انما اتت على مراحل كما هو واضح في الناسخ والمنسوخ. كما يتم التطبيق بتنظيم سري لاحداث انقلاب في نظام الحكم والاستيلاء على السلطة، وبممارسة العنف بما في ذلك الاغتيال، على رغم ان الاسلام أتى هداية للناس تعبيرا عن مصالحهم، وابقى كثيرا من شعائر ابراهيم والقيم العربية، وآخى بين القبائل، واقنع الناس بالحسنى، وجادلهم بالتي هي احسن. ويوم الفتح عاد الرسول الى المدينة سلما لا حربا، وعفا عمن آذوه وحاربوه "اذهبوا فأنتم الطلقاء". فهل يستطيع التيار الاصلاحي الآن ان يتجاوز تلك النهايات ويعود الى بداياته الاولى، انسانيا، عقلانيا، ديموقراطيا، معتدلا، محاورا، وحدة في الداخل في مواجهة اعداء الخارج، "اشداء على الكفار رحماء بينهم"؟ ان مستقبل التيار الاصلاحي مرهون بتجاوز ما حدث له إبان الثورات العربية الحديثة التي ارتبطت في بعض جوانبها بالمشروع الاصلاحي وكان من بين قادتها من ينتسبون الى التيار الاسلامي خصوصاً في الثورة المصرية. ويدل على ذلك فعل "جذور النضال الوطني" في "الميثاق" في 1962، وربط الثورة المصرية بالافغاني ومحمد عبده وقاسم امين وسعد زغلول. وبالتالي تتم المصالحة العلنية التاريخية بين الحركة الاصلاحية والثورات العربية بدلا من ان تظل الاولى سلفية محافظة، والثانية علمانية غربية، والاوطان والشعوب هي الخاسرة.