غداة تعيين العميد اليمين زروال على رأس الدولة في الجزائر قبل سنة بالتمام، كانت مهمة الرجل تبدو صعبة ومعقدة، ليس فقط بسبب تشابك الوضع واحتدام الصراعات السياسية، بل لأن الرجل دشن عهده بتركة ثقيلة هي "أرضية الوفاق الوطني" الصادرة عن ندوة قاطعتها الأحزاب المهمة من دون استثناء. وما زاد في تعقيد المسألة ان هذه الأرضية تم أصدارها في الجريدة الرسمية لتصبح بمثابة القانون الذي لا مفر للرئيس الجديد من التزامه وتطبيقه. بعد ندوة الوفاق الوطني بأيام قليلة، التقت "الوسط" سياسياً وديبلوماسياً لامعاً لخص لها الوضع وآفاقه الغامضة في عبارتين اثنتين: "من الخطأ محاولة البناء على فشل"… وكانت "ندوة الوفاق الوطني" التي انعقدت في أواخر كانون الثاني يناير 1994 فاشلة بجميع المقاييس والمواصفات. و"من الخطأ كذلك ان يلزم الرئيس الجديد نفسه بهذا الفشل… وان يصر على ذلك بكل عناد". وقبل سرد حصيلة سنة من "محاولة البناء على الفشل بكل اصرار" من الضروري العودة الى ملابسات تعيين العميد زروال على رأس الدولة خلفاً للمجلس الأعلى للدولة في 27 كانون الثاني يناير 1994. لقد جيء بالعميد زروال كما جيء بكل من بوضياف وكافي قبله، من طرف المجموعة نفسها من كبار الضباط الذين أجبروا الرئيس بن جديد على الاستقالة مساء 11 كانون الثاني يناير عام 1992… أي تلك المجموعة التي نجد في مقدمتها اللواء خالد نزار، واللواء محمد مدين توفيق، واللواء محمد العماري، واللواء محمد التواتي… الخ. وقبيل عرض أمانة الرئاسة على وزير الدفاع، كان الأمر معقوداً على شخصية سياسية معروفة هو السيد عبدالعزيز بوتفليقة رئيس الديبلوماسية الجزائرية طوال عهد الرئيس الراحل هواري بومدين وجزء من عهد الرئيس بن بله قبله. بوتفليقة يربك العسكر وكان بوتفليقة تحت هاجس تجربة سابقيه بوضياف وكافي اللذين كانا أسيري "عصابة الأربعة". لذا بدا متردداً كثيراً… وحتى يدفع نزار ورفاقه الى تجنبه اشترط عليهم الجمع بين رئاسة الدولة وحق النظر في وزارة الدفاع تشبهاً بمثله الأعلى بومدين. ولم يرَ نزار ورفاقه مانعاً من اعطاء بوتفليقة كامل الصلاحيات الرئاسية، ما دام الرجل يشكل واجهة سياسية ممتازة للجيش مثلما كان صديقه بومدين. وقبل 48 ساعة من انعقاد ندوة الوفاق الوطني تعبيراً عن موافقة اللواء نزار ومساعديه، دعي المرشح بوتفليقة الى وزارة الدفاع حيث اجتمع بكبار الضباط والقى فيهم كلمة مؤثرة، أبكت بعضهم حسب شهود عيان… وسهلت مهمة نزار في اقناع زملائه بمبايعته. وهكذا تفرق الجميع مرتاحين مطمئنين للتوفيق في العثور على واجهة سياسية في مستوى صعوبة المرحلة التي تمر بها الجزائر. لكن عشية انعقاد الندوة حدث ما كان متوقعاً "مقاطعة الأحزاب المهمة" أو "الكبار السبعة" لها، ما جعلها تفقد أهميتها في نظر المرشح بوتفليقة الذي لم يعد يرى من ضرورة للمثول أمامها، طلباً لتزكية المشاركين فيها من أحزاب ضئيلة الشأن والنفوذ، وجمعيات اجتماعية ومهنية لا علاقة لها بالموضوع في حقيقة الأمر. وعلى رغم الحاح اللواء توفيق على بوتفليقة في شأن أهمية حضوره الندوة، فقد أصر على تجنبها، مفضلاً تعيينه مباشرة من قبل "المجلس الأعلى للأمن"، حسب سابقة تعيين المجلس الأعلى للدولة قبل سنتين. وجاءت القطرة التي أفاضت الكأس، عندما طلب اللواء توفيق من بوتفليقة المرشح لرئاسة الدولة ان يحتفظ باللواء نزار كنائب له. وهنا أدرك بوتفليقة ان حظه مع العسكر، لن يكون أحسن من حظ كل من بوضياف وكافي قبله. وهكذا طار في الغد الى جنيف تاركاً القوم في "حيص بيص". ووضع انسحاب بوتفليقة "المفاجئ" قادة الجيش في حالة ارتباك، وحسب رواية محدثنا فان هؤلاء القادة أو بعضهم التقوا من جديد في وزارة الدفاع وتشاوروا في الأمر، وبعد أخذ ورد اقترح أربعة من كبار الضباط اسناد الأمر الى اللواء خالد نزار وزير الدفاع السابق. لكن اللواء العماري، مدعوماً بعدد أكبر من زملائه عارض الاقتراح، استناداً الى تعهد المجلس الأعلى للدولة أمام الشعب بالانسحاب فور انتهاء مهمته بكامل اعضائه بما في ذلك نزار. وهكذا تم اسناد الأمانة الى العميد اليمين زروال وزير الدفاع - خلفاً لنزار - منذ 10 تموز يوليو 1993. في كواليس "ندوة الوفاق الوطني" وبعد اعلان انسحاب بوتفليقة صبيحة 26 كانون الثاني 1994، راجت فكرة استبداله بزروال مع اسناد وزارة الدفاع للواء العماري قائد الأركان. لكن أصدقاء زروال - داخل الجيش وخارجه - نصحوه بأهمية الجمع بين رئاسة الدولة ووزارة الدفاع، انطلاقاً من تجربة كل من الرئيسين بوضياف وكافي التي كشفت بوضوح ان جوهر السلطة والقرار ظل في الدفاع ولم ينتقل بصفة ملحوظة الى رئاسة الجمهورية في المرادية، وبناء على هذه النصيحة احتفظ بوزارة الدفاع كذلك. لكن بعد أقل من شهر على تعيين زروال على رأس الدولة - مع الاحتفاظ بالدفاع - وعلى ضوء الخطوة الأولى من "الحوار من دون اقصاء" التي تجسدت في الافراج عن الشيخين علي جدّي وعبدالقادر بوخمخم من قيادة جبهة الانقاذ الحبيسة في سجن البليدة العسكري، ظهرت بوادر فشل الرئيس الجديد في لملمة شتات "السلطة الفعلية" وتوحيد مصدر القرار الأسمى على مستوى رئاسة الجمهورية. لقد أثار قرار الافراج عن الشيخين جدي وبوخمخم ردود فعل في منتهى العنف لدى الجناح الاستئصالي القوي جداً في قيادة الجيش وجهاز الحكومة. فعلى مستوى الجيش قيل يومها ان "حوار زروال" يشكل "تهديداً جدياً لوحدة المؤسسة العسكرية". وعلى مستوى الحكومة استغل الثنائي رضا مالك - سليم سعدي - وزير الداخلية - عمليتي اغتيال المثقفين أحمد عسلة وعبدالقادر علولة ليجاهر برفض "حوار زروال" ويدعو الى "التعبئة العامة" ضد "الارهاب والاصولية". وكان رد فعل "الاستئصاليين" على مستوى الجيش والحكومة يهدف الى تحجيم زروال وتنبيهه الى محدودية صلاحياته، وانه بدوره "مفوض" مثل بوضياف وكافي قبله، من قبل "عصابة الأربعة" التي تمسك بالسلطة الفعلية بقبضة من حديد منذ أحداث تشرين الأول اكتوبر 1988. وعلى رغم ان اقالة حكومة رضا مالك في 11 نيسان ابريل 1994 فُسرت بأنها خطوة جريئة لاستعادة جزء من "السلطة المشتتة" في سياق تهيئة شروط استئناف ونجاح الحوار مع "المعارضة الفاعلة" - بما في ذلك جبهة الانقاذ المحظورة - الا ان الخطوة اللاحقة في مطلع ايار مايو التالي اثبتت عكس ذلك تماماً. لقد فرضت "القيادة الفعلية" - للجيش والبلاد - على زروال تغييراً على مستوى النواحي ووزارة الدفاع، دعمت به مواقعها مثل تعيين العميد سعيد باي على رأس الناحية الأولى البليدة - العاصمة وهو من غلاة الاستئصاليين المقربين من نزار والعماري، و"ابعاد" العميد حسين بن جديد وهو من المقربين الى زروال الى الناحية الثالثة بشار - الحدود الجنوبية مع المغرب. هذا التغيير الذي لم يكن لمصلحة "زروال المحاور" دفع رئيس الدولة الى الظهور بمظهر الاستئصالي في خطاب 18 ايار مايو لمناسبة تنصيب "المجلس الوطني الانتقالي" الهيئة التشريعية للمرحلة الانتقالية. حيث وصف "الجماعات الاسلامية المسلحة" بپ"المجرمين والخونة والمرتزقة". ومنذ ذلك الحين ما انفك زروال يظهر تارة بوجهه "المحاور" وتارة اخرى بوجه "الاستئصالي" الذي لا يختلف عن نزار أو العماري. وهذه "الازدواجية" يؤكدها الشيخ حسين السليماني من أعيان مدينة المدية قم الجزائر الذي قابل زروال في خريف 1993 مبعوثاً من طرف الجماعات المسلحة في الناحية، لجس نبض وتبين حقيقة نياته. وحسب السليماني كان زروال حاداً في رفض أي اتصال بالجماعات المسلحة وذهب الى حد القول: "اذا قتلنا واحداً من الاسلاميين فقط في مقابل عشرة منا فنحن الرابحون في نهاية المطاف". في مطلع آب اغسطس الماضي اغتالت "الجماعة الاسلامية المسلحة" خمسة فرنسيين في حي عين الله دالي ابراهيم من بينهم ثلاثة من عناصر الدرك المكلفين بالحراسة، ووصل الى الجزائر على وجه السرعة وزيراً الخارجية والدفاع الفرنسيان للتباحث مع السلطات. وأعلن وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه بكل صراحة: "لقد ألححت على الرئيس زروال بضرورة التحرك والقيام بأي شيء للخروج من المأزق". وفي 8 آب اغسطس دعا زروال الى جولة جديدة من الحوار الوطني المعلّق منذ آذار مارس 1994. وكانت رسالة الشيخ مدني في 22 آب اغسطس الى كل من الرئاسة والأحزاب المدعوة أكبر مفاجأة في الجولة الجديدة من الحوار،، حيث أكد الناطق باسم "جبهة الانقاذ" المحظورة حبيس سجن البليدة مع أربعة من رفاقه، استعداده للمشاركة في الحوار من دون قيد أو شرط. احراج السلطة لكن هذه الهدية غير المنتظرة غيرت آفاق الحوار تماماً: من حوار لتزكية "أرضية الوفاق الوطني" الى حوار حقيقي، يمكن ان يؤدي الى حلول سياسية بضمانة من "الأحزاب الفاعلة". وأحرج هذا التغيير المفاجئ السلطة التي اضطرت في بداية الأمر الى مجاراة شيوخ الانقاذ الذين وقعوا لها على رسالة مشتركة في 6 ايلول سبتمبر 1994 يتعهدون من خلالها بالمساهمة الايجابية مع كل من السلطة والمعارضة في ايجاد مخرج سلمي للنزاع القائم منذ مطلع 1992. وعلى أساس هذه الرسالة أفرج عن الشيوخ غمازي وشيغارة وعبدالقادر عمر مع نقل الشيخين مدني وبلحاج الى فيلا جنات المغني وسط العاصمة. وعندما شرع الشيخ بلحاج في اجراء الاتصالات الضرورية مع قائد "الجماعة الاسلامية المسلحة" الشريف قوسمي بهدف استدراجه الى الموافقة على رسالة 6/9/1994 كأساس للتفاوض مع السلطة، استغلت أجهزة الأمن هذه الاتصالات للايقاع بقوسمي من جهة واتهام بلحاج بتشجيع الارهاب من جهة ثانية. وبناء على ذلك فاجأ الرئيس زروال عشية الاحتفال بالذكرى الأربعين لثورة فاتح نوفمبر 1994 الجميع، أحزاباً ورأياً عاماً، باعلان فشل الحوار استناداً الى حجج ضعيفة، وطرح "الحوار المباشر" مع الشعب بديلاً له في ظل التحضير لانتخابات رئاسية قبل نهاية العام 1995. وبعد ان كشفت السلطة أوراقها على هذا النحو، سارعت "المعارضة الفاعلة والتمثيلية" الى الرد عليها في اجتماع "سانت ايجيدو" الأول والثاني وتتويج كل ذلك بپ"العقد الوطني"، الموقع في العاصمة الايطالية في 13 كانون الثاني يناير الماضي. ويعتبر "العقد الوطني" الموقع من طرف "خمسة أحزاب مهمة" من أصل سبعة وحزبين صغيرين اضافة الى "منظمة الدفاع عن حقوق الانسان"، بديلاً "لأرضية الوفاق الوطني"… وعلى هذا الأساس يتضمن تذكيراً للسلطة بأمرين: انه لم يعد بامكان السلطة ان تقرر مصير الجزائر وحدها، وأكثر من ذلك ان تبني هذا المصير على فشل. ومعنى ذلك ان السلطة تتحمل مسؤولية عام كامل من المناورات "السياسوية" التي لم تدفع بالوضع خطوة واحدة نحو انفراج حقيقي، يخرج الجزائر من دوامة العنف الرهيب الذي بلغ ذروته يوم الاثنين الماضي بتفجير سيارة مفخخة أمام المحافظة المركزية لشرطة العاصمة خلف عشرات القتلى والجرحى وسجله المراقبون على حساب المأزق السياسي الراهن، الناتج عن رفض أي حوار حقيقي مع المعارضة الفاعلة التي أصبحت جبهة الانقاذ طرفاً مقبولاً ومؤثراً فيها. ويؤكد هذا المأزق ان الرئيس زروال لم يستطع الوفاء بالعهد الذي أخذه على نفسه قبل تعيينه على رأس الدولة: عهد "الحوار من دون اقصاء"، كمخرج وحيد من دوامة العنف والرعب التي تتخبط فيها الجزائر منذ ثلاث سنوات. وبعد اكمال سنة من توليه رئاسة الدولة ما زال المراقبون محتارين في شأنه: في أي خانة يمكن تصنيفه؟ أفي خانة الصقور الاستئصاليين؟ أم في خانة الحمائم الحواريين؟! أنصار زروال لا زالوا يحاولون، بعد تجربة سنة كاملة، اقناع من ينصت اليهم بأن الرجل مع الحوار لكنه لا يزال أسير "عصابة الأربعة" ولا يمكنه التخلص من أسارها الا بعد انتخابه رئيساً. وللتذكير فان أنصار الراحل بوضياف كانوا أيضاً يرددون مثل هذا الكلام لتبرير حديثه عن "التغيير الجذري" وعجزه عن القيام بتغييرات حاسمة في مستوى انتظار المواطنين.