ستظل لغة الأرقام ومدلولاتها محور اهتمام المراقبين لنتائج اهم انتخابات وأكثرها إثارة، جرت في عهد الرئيس حسني مبارك. وترجح المؤشرات ان جولة الاعادة التي ستتم في السادس من الشهر الجاري ستتسع لتشمل عدداً كبيراً من الدوائر حيث لم يحصل اي من المرشحين فيها على الغالبية اللازمة، نتيجة كثرة المرشحين وتشتت اصوات الناخبين. وضمن اجواء اتسمت بالتوتر والعنف خصوصاً في الاقاليم، توجه من هيئة الناخبين 21 مليوناً عدد كبير وصفته كل الصحف بأنه غير مسبوق لم يذع رسمياً حتى حينه، الى 36 ألف لجنة انتخابية لاختيار 444 نائباً من بين 3890 مرشحاً حسب آخر بيان رسمي، بعد ان انهى 14 حزباً أبرزهم الوطني 339 مرشحاً، الوفد 182 مرشحاً، العمل 120 مرشحاً، الاحرار 61 مرشحاً، الناصري 43 مرشحاً، التجمع 40 مرشحاً وجماعة الاخوان المسلمين المحظورة 150 مرشحاً، انهو جميعاً حملاتهم الانتخابية لتعبئة انصارهم. وقياساً على السوابق يكون عدد الناخبين هذه المرة أعلى من أي مرة سابقة، لأسباب عدة اهمها اجراء الانتخابات وفقاً للنظام الفردي للمرة الاولى منذ الثمانينات. وكان 5.3 مليون ناخب شاركوا في انتخابات 1984 بنسبة حضور 43.7 في المئة من إجمالي المقيدين وقتها 12.6 مليوناً. وفي انتخابات 1987 أدلى 7.3 ملايين بأصواتهم من بين اجمالي 14.3 مليوناً بنسبة حضور 51 في المئة. وفي انتخابات 1990 شارك 7.3 مليون ناخب بنسبة حضور 44.1 في المئة من اجمالي المقيدين وقتها 16.3 مليون. ومع الساعات الاولى من اذاعة النتائج الاولية، بات في حكم المؤكد ان يفوز الحزب الوطني الحاكم الغالبية الساحقة من المقاعد النيابية. ومع ان غبار المعركة الانتخابية لا يزال عالقاً في الجو، فإن معظم المراقبين انشغل بمدى ما يمكن ان تشكله النتائج النهائية من ضمان للاستقرار العام. وهي القضية التي توليها القيادة السياسية المصرية اهمية اولى في سلم حل المشكلات الاقتصادية الصعبة القائمة، خصوصاً بعدما افادت النتائج كل من يهمهم الامر، خارج وداخل مصر، برسالة من الحزب الوطني مضمونها ان ادعاء البعض بأن الاوضاع تهتز عقب احداث العنف الكبيرة في الاعوام الماضية، وبأن تنافس هذا البعض على التنبؤ بالمشروع البديل، كان ادعاء غير صحيح، ما يعني ان النظام ما يزال ممسكاً بالمبادرة والقدرة على مواصلة حيويته. وأصبح في حكم اليقين ان زعامة المعارضة النيابية او حتى كتلتها المؤثرة، لن تكون من نصيب تيار "الاسلام السياسي" ككل او من نصيب اي طرف ينسب نفسه اليه سواء من الاخوان او العمل او الاحرار. وليس سراً ان اهتمام المراقبين في الداخل والخارج، تركز على ما تحققه جماعة الاخوان التي تقدمت بمرشحين مستقلين فضلاً عن آخرين على قائمة حزب العمل. ولم يكن تمثيلهم في البرلمان مشكلة للحكومة تفوق ما كانت تمثله من أهمية لهم. فمشكلتهم هي الشرعية او عدم الشرعية. والأرجح انها ستظل قائمة. فتصفيتهم دونها مشكلة كبيرة. والمشروعية ايضاً دونها مشكلة كبيرة. ويبدو حتى الآن انه لا مناص من استمرار المشكلة حتى وإن سببت صراعاً لكل الاطراف، فهي واقع حال قد تتعامل معه الحكومة في حيز معين، وعليهم قبوله في دائرة لا يتعدونها. والسؤال الآن اصبح كم عدد المقاعد التي سيحصل الوفد عليها؟ وكم يبلغ عدد مقاعد التجمع والناصري، بعد اعلان النتائج النهائية عقب جولة الاعادة؟ وفي ضوء ذلك ستتحدد نوعية المعارضة في مجلس الشعب، ما يرتب عليه افتراض انها ستكون ليبرالية كما في عام 1984 او يسارية كما في عام 1990، ونوعية الهيئات القيادية التي سيرشحها الحزب الوطني الحاكم لرئاسة وادارة اعمال المجلس النيابي الجديد. والمؤكد انه لن يرتب على احتمال ان تكون المعارضة ليبرالية او يسارية، تغيير - أو ادخال تعديلات - على الدستور القائم. ليس فقط لأن قيادة الحزب الحاكم تستبعد هذا الاحتمال بشكل حاسم وتعتبره "لعباً بالنار"، وانما ايضاً لأن تغيير او تعديل الدستور، شأن اي تشريع مصيري آخر، يتطلب غالبية الثلثين في مجلس الشعب. فضلاً عن ان كلاً من التجمع والناصري لا يبدي حماساً لتغيير الدستور الذي ينص على ما يعتبر انه "مكاسب مهمة"، مثل إعلاء مكانة دور القطاع العام ومجانية التعليم ودور مصر العربي، والنص على تمثيل العمال والفلاحين في المجالس النيابية والشعبية بنسبة لا تقل عن نصف عدد الاعضاء. لكن استبعاد تعديل الدستور، سوف لا يعني عدم التجاوب مع بعض مطالب المعارضة التي تندرج تحت عنوان "توسيع هامش الديموقراطية". من أحزاب المعارضة، التقى كل من العمل والاحرار والاخوان عند شجب ما وصفته ب "التدخل والتزوير" من جانب الحزب الحاكم الذي رد على ذلك بأنه "تبرير للفشل في احراز النتائج التي كانت تأمل فيها هذه الاحزاب لنفسها". ولم يخلُ الأمر عند بقية أحزاب المعارضة الاخرى من شكاوى وانتقادات - بعضها حاد - لما سموه بأعمال البلطجة التي مارسها بعض المرشحين المنافسين. وعلى اية حال فقد اصبح للمعارضة في البرلمان رأي استشاري من دون ان يكون لها حق النقض او عرقلة اصدار اي تشريع يطرحه للتصويت الحزب الوطني وحكومته، في البرلمان. ويمكن الامساك بأبرز مفاتيح المشاكل الرئيسية التي طرحتها انتخابات، فهي كادت ان تستبعد كلياً من المجلس قوى سياسية نشطة لها وجود فعلي في الشارع السياسي، وإن اختلف البعض حول حجمها الحقيقي ودائرة نفوذها الجماهيري. ويتضح هذا من ان الغالبية العظمى من مرشحي الاخوان والعمل لم يدخلوا المجلس الجديد على رغم توقعات محللين ومراقبين في مصر وفي الخارج. وهذه النتيجة ستكون موضع اهتمام وتعليق كثير من المهتمين. وبرأي بعض المراقبين ان عدم تمثيل كل احزاب وقوى المعارضة النشطة، بما يترتب عليه من انعكاسات سياسية ونفسية، قد يضع عثرات في طريق التجربة الديموقراطية ومفهوم الاستقرار. إن أحداث العنف التي مارسها بعض المرشحين وأنصارهم والتي أدت الى مصرع خمسة اشخاص وجرح 61 واقتحام 24 لجنة وإتلاف 31 صندوقاً انتخابياً و13 سيارة وباصاً والغاء الانتخابات في عشر لجان، بلغت درجة غير مسبوقة في انتخابات الاعوام الماضية، على رغم كل اجراءات واحتياطات الامن المشددة، وكان مفترضاً ان يدرك الجميع ان الوضع في الشارع السياسي هو من الدقة بحيث ان اي تحرك غير مسحوب يمكن ان ينقل المعركة من مستوى المناسبة الانتخابية الى مواجهة ساخنة قد تعجز اي قوة عن احتوائها. والثابت ان الانفاق المالي العالي الذي ظهر من بعض المرشحين، كان أبرز اسباب هذا العنف، ذلك انه في حال احتمال فشل هؤلاء المرشحين الذين انفقوا الملايين، فانهم لا يتورعون عن استئجار البلطجية في محاولة يائسة لتعديل موقفهم الانتخابي او العمل بمنطق "علي وعلى خصومي". وهو الذي يتطلب اعادة النظر في الضوابط القائمة لعملية الانفاق الانتخابي. وعلى جانب آخر، تسبب نتائج الانتخابات ومعاركها، في ظهور حساسيات ومرارات لدى بعض احزاب المعارضة، إما بسبب مواقف اتخذها هذا الحزب او ذاك من قضية التضامن في مواجهة صعوبات جسيمة نزلت بالآخر، وإما بسبب الانتقادات التي وجهها هذا الحزب او ذاك الى الحزب الآخر وكانت من الشدة بحيث اعتبرت طعنات شديدة في غمار المعركة. وبات في حكم المؤكد ان الحزب الوطني الذي فاز بالغالبية لن يغير حكومته. فالدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء اوضح غداة انتهاء الانتخابات انه بصدد إعداد بيان الحكومة الذي سيلقيه امام مجلس الشعب الجديد. لكن معلومات مصادر موثوقة افادت بأن الحزب الوطني مرشح لإحداث تغيير في بعض قياداته. والمرجح ان يولي اهتماماً كبيراً بمنصب الأمين العام بحيث يتفرغ له من سيتولاه من دون ان يجمع الى جانبه منصباً قيادياً آخر تنفيذياً او تشريعياً. والمرجح ان يلمع اسم فؤاد بدراوي الذي ألقى وراءه فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد بكل ثقله في الانتخابات في الدقهلية. وتتكهن دوائر حزبية مطلعة بأن يدفع سراج الدين بحفيده بدراوي لاستكمال إعداده كخليفة له في قيادة حزب الوفد. ففوزه من جهة، ومكانته الاجتماعية من جهة اخرى، وعمره الذي لا ينهاز الاربعينات من جهة ثالثة، وقربه الحميم من سراج الدين من جهة رابعة، تؤهله لهذا المنصب في المستقبل من وجهة نظر رئيس الوفد. اما حزب العمل فهو اكثر الاحزاب تشريحاً لوقوع فرز جديد في قيادته. اذ تفيد المؤشرات الاولية للنتائج بأن الفائزين منه لا يزيدون على اصابع اليد الواحدة. ولن يكون بينهم أمينه العام عادل حسين الذي انسحب من لجنة فرز الاصوات مع مرشحين آخرين في الدائرة نفسها وأعلنوا انسحابهم من الانتخابات مبررين ذلك بما وصفوه "التدخل والتزوير الفاضح" ضدهم. ويعزز من توقعات الفرز ان ابراهيم شكري رئيس الحزب كان يبدي في اكثر من مجال تبرمه وانتقاداته للنتائج السلبية التي قادت الحزب اليها سياسات الأمين العام وجماعته، سواء على المستوى السياسي او على المستوى التنظيمي. وفي كل الاحوال فإن الاجتماعات التي ستعقدها هيئات الحزب القيادية لتدارس نتائج الانتخابات، ستكون شديدة الصعوبة بلا شك، ويجمع المراقبون على ان إبقاء الحال في الحزب على ما هي عليه سيتسبب في ضموره. وأما حزب الأحرار فقد اصبح يعاني، خصوصاً بعد نتائج الانتخابات، من تناقضات عدة على كل المستويات السياسية والتنظيمية. وفي مقدمها عجز الحزب عن المواءمة بين تعدد خطابه السياسي، فهو تارة "ليبرالي" وتارة "اسلامي" وتارة "قومي ينتسب لثورة تموز يوليو" حسب ما تقوله صحيفته اليومية. ويرى المراقبون انه ما لم يحل الحزب هذه التناقضات فإنه سائر الى مزيد من التآكل والزوال الذي قد يتخذ اكثر من صورة. اما الاخوان المسلمون، فإن تدني نتائجهم الانتخابية الى الحد الكبير الذي تفيد به المؤشرات الاولية للنتائج، سيعمق من الخلافات المكتومة داخل صفوفهم حتى الآن. ويرشح الجماعة كلها الى فرز جديد ايضاً. فجملة المواجهات الخشنة التي لاقتها الجماعة منذ تقديم عدد من قيادتها الى المحاكمات العسكرية وصدور أحكام بالسجن في حق كثيرين منهم، من جهة، اضافة الى المتاعب التي عاناها مرشحو الجماعة في العملية الانتخابية ووصفوها "بالتدخل والتزوير" من جهة ثانية، وتدني نتائجهم الانتخابية من جهة ثالثة، تدفع بمياه جديدة الى قناة الخلافات المكتومة داخلها. فقد تعددت معلومات مصادر موثوقة عن انشقاق الرأي داخل قيادات ما يسمى "الحرس القديم" او "الشيوخ". وأكثرها تبلوراً تجاه مأمون الهضيبي ومصطفى مشهور، وكلاهما يشغل منصب نائب المرشد العام للجماعة حامد ابو النصر الذي تحول صحته دون ممارسة دوره المركزي القابض. فالهضيبي، الناطق الرسمي باسم الجماعة الذي رشح نفسه في الانتخابات ولم يفز، يستقوي بعناصر تنظيم الداخل وبطابع الاعتدال والقانونية والمرونة الذي يميزه في المواقف والتحرك السياسي وذلك بالقياس الى مشهور الذي يستقوي بعناصر الجماعة الدولية للاخوان الأممية وبطابع التشدد في المواقف السياسية. اما تيار شباب السبعينات الذي اصبح يمثل دينامو الجماعة، سياسياً وحركياً وتنظيمياً، فبدأت عناصره عملية مراجعة سواء في تقويم تجربة قيادة "الشيوخ" باعتبارها "صارت عبئاً"، وأن "دورها انتهى"، وبالتالي يتدارسون امكانات التحديث او "العمل لحسابهم لا لحساب الماضي". وفي حين ظن مشهور انه نجح في ترتيب "الخارج" جيداً، يفكر شباب هذا "الخارج" في مراجعة التجربة ككل في مصر بعد ان أخذت كل هذا الجهد منذ اواخر العشرينات وحتى الآن من دون ان تحقق النجاح المأمول. بل رشحت معلومات عنهم تفيد باحتمال ان يبدأوا من مكان آخر غير مصر المستعصية على التجربة بعد اكثر من ستين عاماً من العمل والمواجهات الشاقة.