في الصحراء الغربية نفد صبر الاطراف الرئيسية المعنية بهذه المشكلة : المغرب وجبهة "بوليساريو" والأممالمتحدة . كل طرف يتهم الآخر بعرقلة عملية التسوية . وتتهم الاممالمتحدة المغرب و"بوليساريو" بأنهما وراء العرقلة . ويثير ذلك الجزائر فتتدخل بتوجيه تحذير الى المغرب مؤكدة استمرار وقوفها وراء "بوليساريو" التي هددت أخيراً "بالعودة" الى حمل السلاح إذا رجحت كفة الموقف المغربي الذي يقضي بعطيل الاستفتاء. ولمناسبة الذكرى العشرين للمسيرة الخضراء التي انطلقت في 6 تشرين الثاني "نوفمبر" 1975 من المغرب باتجاه الصحراء بقيادة الملك حسن الثاني ، أعدت "الوسط" تحقيقا ميدانيا في الجانبين اللذين انكمهما النزاع : اللاجئون وسكان المدن الصحراوية . وتبدا في هذا العدد بعرض الموقف من المناطق الخاضعة للسيطرة المغربية في الصحراء . واستطلاع آراء قادة جبهة "بوليساريو" الذين عادوا الى الصف المغربي. كيف هي الصحراء تحت السيادة المغربية؟ وما الذي تحقق بعد مرور عشرين عاماً على "المسيرة الخضراء" التي كانت الحدث الأهم في المغرب منذ استقلاله، مثلما كانت ايذاناً ببدء مرحلة سياسية شائكة، مغربية ومغاربية، ما زالت تتوالى فصولها؟ وبم يفكر الصحراويون؟ ما هي طموحاتهم وأحلامهم بعد الاستقرار واندماجهم في الحياة الجديدة، نواباً برلمانيين، عمالاً محافظين وقادة اداريين في مختلف القطاعات، واطباء ومهندسين وفنانين مبدعين؟ هذه الأسئلة وغيرها، تأخذك وأنت في الطريق من الدار البيضاء الى مدينة العيون، ذلك ان جيلاً جديداً وتاريخاً جديداً ولدا معاً منذ تلك اللحظة التي انطلقت فيها مسيرة 350 الف مغربي بهذا الاتجاه الذي باتت تقطعه اليوم الطائرات النفاثة، ومئات السيارات والشاحنات من كل مكان اذ اضحت العيون - كبرى مدن الصحراء بل عاصمتها - رمزاً لوحدة التراب للمغرب. أولى الاجابات تجدها في مطار العيون، فمن رقعة ترابية مهملة ابان الاحتلال الاسباني أضحى احدث المطارات المغربية، اذ أعيد بناؤه وفق المواصفات الفنية الحديثة المطلوبة، ولم تعد خدماته تقتصر على الطائرات المغربية، خصوصاً بعدما حلت في المنطقة بعثة الأممالمتحدة المكلفة تنظيم استفتاء الصحراء المينورسو العام 1991. مدينة جديدة ان العيون اليوم مدينة جديدة تنبعث على انقاض تلك الواحة المسترخية على طول الضفة اليسرى للساقية الحمراء فوق الهضبتين المتجاورتين، بعدما قامت بوظيفة مربط لجيوش الادارة الاستعمارية وموظفيها. مع الخصائص الحضرية التي أخذت تتوافر فيها، برز للمرة الأولى طابعها البحري، على رغم بعدها عن ساحل الأطلسي بنحو 20 كلم، اذ ساهم التطور العمراني في اقامة أحياء كبرى جديدة، وربط بين الوحدات السكنية، وتوسيع شبكات الطرق. وفي السابق لم تكن شبكة الطرق الصحراوية تمتد أكثر من 70 كلم من الطرق المعبدة، في حين كانت بقية الطرق غير صالحة، أما الآن فهناك 6000 كلم من الطرق المعبدة، في اطار مشروع كبير للمواصلات عبر الصحراء. تحولات عميقة يقول خليهن ولد الرشيد وزير الشؤون الصحراوية السابق ورئيس المجلس البلدي لمدينة العيون حالياً: "واكب استرجاع الأقاليم الصحراوية نمو اقتصادي وتطور اجتماعي ساهما في ارساء حياة اجتماعية جديدة مرتكزة بطبيعتها على القاعدة العشائرية التقليدية، لكنها منفتحة أيضاً على متطلبات العصر. وبشهادة الجميع، بمن فيهم المراقبون الأجانب، حققت الدولة المغربية انجازاً ضخماً على رغم قسوة الظروف المناخية والجغرافية. وصاحبت هذه المساعي تحولات اجتماعية عميقة، فلم تعد أنشطة السكان تنحصر بالترحال. بل أصبح عدد المقاولين بينهم يزيد يوماً بعد يوم. ونفذ عشرات منهم مشاريع صناعية بمشاركة آخرين من مدن الشمال المغربي، وتمكنوا من اكتساب تكنولوجيا عصرية وتنمية تقنيات جديدة، خصوصاً في ميدان الصيد البحري الذي يوفر رصيداً هائلاً على صعيدي الاستثمار والتعاون. وعاد ولد الرشيد، بصفته الرئيس المؤسس لحزب الاتحاد الوطني الصحراوي الذي حُل بعودته الى المغرب عام 1975، بذاكرته الى بعض المحطات المهمة والظروف والملابسات التي صاحبت تصفية الاستعمار الاسباني، فقال: "في 16 تشرين الأول اكتوبر 1975 أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها في قضية الصحراء واعترفت بأنها ليست أرضاً من دون سيد، اذ بين الصحراء والمملكة المغربية روابط قانونية وعلاقات بيعة. وفي اليوم نفسه أعلن الملك الحسن الثاني تنظيم "المسيرة الخضراء" التي انطلقت في 6 تشرين الثاني نوفمبر 1975. وفي 14 تشرين الثاني وقعت في العاصمة الاسبانية "اتفاقية مدريد" التي تقرر بموجبها ان ينتهي الوجود الاسباني في الصحراء قبل حلول 28 شباط فبراير 1976. وبعد أقل من شهر صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على الاتفاقية. ولكن لماذا دخلت قضية الصحراء متاهات السياسة ودهاليز الأممالمتحدة، على رغم كل هذه الحيثيات والوقائع الثابتة؟ يرد خليهن ولد الرشيد: "تابع اعداء وحدتنا الترابية مناوراتهم واعمالهم العدوانية، ففي 1976 اصطنع كيان وهمي يتخذ من تندوف مقراً له، مركزاً ومخيماً للاجئين والمحتجزين من الصحراويين، ويسيّره أشخاص من أصل مغربي أو موريتاني، ضلوا الطريق وخانوا أوطانهم. اضافة الى مخيمات تتكون غالبيتها من آلاف من سكان الدول المجاورة كالنيجر ومالي وموريتانيا الفارين من الجفاف الذي لحق بأراضيهم طوال سنوات عدة. وتمادت الجزائر في زرع الشك في نفوس بعض مسؤولي العواصم في صلاحية المسلسل الذي أدى الى استرجاع الأقاليم الصحراوية. ومن اجل التصدي لهذه الحملات المغرضة، قرر الملك الحسن الثاني، أثناء انعقاد القمة الافريقية في نيروبي في حزيران يونيو 1981، استجابة لرغبة كثير من رؤساء الدول العربية والافريقية، اللجوء الى اجراء استفتاء لتقرير المصير". ويشدد ولد الرشيد على "ان المغرب واثق من حقوقه ويؤمن ايماناً راسخاً بأن الاستفتاء مناسبة جديدة ليؤكد سكان الصحراء مرة اخرى تمسكهم الوثيق بمغربيتهم". احصاء اسباني ناقص تلك الثقة عبّر عنها الصحراويون على اختلاف فئاتهم ويشمل ذلك عشرات الآلاف من الموجودين في مخيم الوحدة من الذين اغفلتهم السلطات الاسبانية فلم تضمهم الى احصائها الذي أجرته العام 1974. ولم يعد هناك من يجادل في حق المغرب بالصحراء، وحق أهلها في المشاركة في الاستفتاء في وقت تستمر عملية اعداد القوائم النهائية للناخبين. وقال ابراهيم الدويهي رئيس المجلس الاقليمي للعيون وعضو المجلس الاستشاري لشؤون الصحراء "كان الموقف المغربي واضحاً من هؤلاء الذين لم يشملهم الاحصاء الاسباني، فليس هناك استفتاء من دونهم، اذ كان بعضهم موجوداً في شمال المغرب، نتيجة حملات الطرد التي قادتها اسبانيا على مراحل عدة منذ أوائل القرن حتى 1975. واذا كان الخصم يجادل في ذلك، فإن الجزائر هي التي تجادل في حقيقة الأمر، لأن بوليساريو ليست سوى نبتة جزائرية. نحن متشبثون بموقفنا، وقد استطعنا تجاوز الكثير من نقاط الخلاف مع الأممالمتحدة ولم يبق سوى الجوانب الاجرائية وتحديد الموعد النهائي للاستفتاء". وفي مجلس شيوخ القبائل الذين يلتفون حول أكواب الشاي الأخضر الممزوج بنكهة النعناع تتداخل الأحاديث عن حياة الترحال، وسنوات القحط والجفاف قبل ان تسود مظاهر الاستقرار الجديدة، وتتطور خدمات التعليم والصحة والنقل، ويأخذك حديث حسن الكرشة عن قبيلته "الركيبات" التي تنتشر من المغرب حتى موريتانيا، وعن مطارحها، خصوصاً انه احد الشهود على تاريخ الهجرة من الشمال الى الجنوب، ومن الجنوب الى الشمال، عندما كانت مواجهة الاستعمار الاسباني تتطلب هذه الهجرة كراً وفراً. قال الكرشة لپ"الوسط": "ان عملية "ايكوفيون" التي نفذتها قوات مشتركة فرنسية - اسبانية ضد جيش التحرير المغربي العام 1958، أدت الى اذابة سكان هذه المنطقة، اذ لم تبق في الصحراء سوى قلة من السكان. تشتت الأفراد ونُفي آخرون أو طردوا، وعندما اجرت السلطات الاسبانية تعداد 1974 أحصت 74 الفاً فقط واستثنت جميع المبعدين أو الذين اضطرتهم تلك العملية العسكرية الى الهجرة شمالاً. وأنا هنا ليس لتحرير الصحراء فهي تحررت عام 1975 وانما للمشاركة في الاستفتاء". وذكر الطالبي محمد علي من قبيلة آية لحسن: "شهدت معركة السيد العام 1957 ضد الاستعمار الاسباني، ثم معركة الدويشرة في حزيران يونيو 1958 وهي المعركة التي قابلت فيها القبائل الصحراوية الفيلق الثالث عشر الاسباني، وأنزلت به خسائر بشرية فادحة قدرت بأكثر من ألف قتيل، كما غنمت كميات كبيرة من السلاح والذخيرة. وكانت تلك المعركة تتويجاً لمعارك عدة سابقة كمعارك الدورة والبلايا والمليح وتفاودات والسمارة والفوقانية والقلات والعرقوب، خاضها جيش التحرير الذي ضم مقاتلين من مختلف أنحاء المغرب وليس من الأقاليم الصحراوية وحدها. بل ان قائد معركة الدويشرة صالح بن عسو مغربي لكنه ليس من الصحراء، ما يؤكد وحدة الشعب والتقاء أهدافه على اجلاء المستعمر". وعزّز ابراهيم الليلي، المقاتل السابق في جيش التحرير تلك الشهادة بقوله: "انا من مواليد المنطقة، لكنني عندما قاتلت في جيش التحرير كنت أقاتل من اجل وحدة المغرب. وقد سفكت دماء زكية لتحقيق هذا الهدف. تعرضنا نحن المغاربة للظلم في السابق، غير اننا نظلم اليوم بسبب انكار بعضهم لحقنا في الصحراء، ولو تمعن هؤلاء في تاريخنا لأقروا بعدم ضرورة الاستفتاء للتأكد من حقيقة انتماء الصحراء الى المغرب". ويرى المغاربة ان الوقائع التاريخية وحدها دليل ذلك الانتماء، اذ الواقع الحالي أكبر شاهد على مدى الارتباط بين اجزاء المغرب، من أقصى الشمال حتى تخوم الصحراء، فجميع الخطط التنموية المتعاقبة أدمجت المنطقة في النسيج المغربي العام، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. وهكذا توافرت للصحراويين الرحل فرص الاستقرار في المدن والقرى. وهو استقرار ضروري أسفر عن تطور الأقاليم الصحراوية، التي كانت حتى وقت قريب أراضي شبه قاحلة وموحشة، يعيش سكانها فقراً تاماً، ولا يتمتعون بأبسط الحقوق السياسية، وليست لديهم وسيلة للتعبير. فيما تميزت السنوات التالية لاسترجاع الصحراء بمشاركة الشباب الصحراوي في المؤسسات السياسية سواء على صعيد المنطقة أو على الصعيد الوطني، خصوصاً الانتخابات المحلية والتشريعية منذ 1975. فضلاً عن ان كثيرين منهم تسنموا مناصب رفيعة في الدولة. وكانت أبرز النتائج بعد كل هذه السنوات، عودة عدد كبير من القادة المؤسسين لجبهة "بوليساريو" الى المغرب، الى حد بات يهدد مستقبلها السياسي بعد فقدانها الدعم العسكري نتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، وهو ما اعتبر انتصاراً كبيراً للديبلوماسية المغربية. وقال حسنة المديميغ أحد مؤسسي "بوليساريو" وممثلها في جزر الكناري حتى عودته الى المغرب العام 1992: "انهيار المعسكر الاشتراكي الذي كان يعد مصدر الدعم العسكري للجبهة أحد أسباب عودة عدد من قادتها البارزين، فهناك أولاً العفو الملكي عن العائدين، اضافة الى الوضع الجزائري المتدهور الذي كان وراء الصراعات المتفجرة في أوساط الجبهة، والانشقاقات التي بدأت تأخذ طابعاً علنياً منذ انشقاق 1988، وينبغي ان يذكر ان قادة "بوليساريو" خليط من قبائل عدة، بل انهم في الواقع يمثلون قبائل معينة، الأمر الذي فتح باب الصراع بينهم. وتضافرت تلك العوامل على اضعافهم، وبالتالي تآكلهم من الداخل". وأشار الى أبرز قادة "بوليساريو" العائدين، وذكر منهم عمر الحضرمي عضو اللجنة التنفيذية للجبهة وممثلها في الأممالمتحدة، وابراهيم حكيم وزير خارجية الجبهة وسفيرها لدى الجزائر، ونورالدين أحمد بلالي ممثلها في كل من ليبيا وسورية، ومولاي ولد عباس أحد قادتها العسكريين، ومصطفى البارزاني عضو مكتبها السياسي، وكجمولة بنت أبي رئيسة اتحاد النساء الصحراويات التابع للجبهة، وغيرهم ممن شكل انشقاقهم نزفاً مستمراً في جسد "بوليساريو".