لا يمكن لأديب، صغيراً كان أم له ألق وهالة، أن يفتقر إلى فكر سياسي يقوّم به الأمور ويقيسها. وما ينطبق على أديب مغمور يندرج فيه مبدع كبير مثل نجيب محفوظ. وبسبب هذه البداهة يكون لنجيب فكره السياسي، ويكون من "تلاميذ المدرسة الساداتية"، كما جاء على قلم الشاعر الكبير نزار قباني، وهو يرد على الروائي المصري الذي أُعجب بقصيدة نزار "المهرولون"، ورفض الموقف السياسي لكاتبها. وقد يبدو جواب قباني - للوهلة الأولى - سليماً، وهو يرسل بخصمه إلى مدرسة السادات ويختار لذاته "المدرسة الناصرية". غير أن الحكم أخطأ الحقيقة، ذلك ان محفوظ ينتمي إلى مدرسة قديمة مغايرة، أو إلى مدرسة حولت عقود الخيبة المتلاحقة نارها إلى رماد. ولعله بامكان القراءة المتعجلة أن تختزل موقف الروائي إلى تعليق يومي عارض، يكون فيه ساداتياً، أو أن تستند إلى مقالة سريعة يكون فيها ناصرياً، أو أن تركن إلى مقابلة يكون فيها نصيراً شديداً لنظام الرئيس مبارك. بل يمكن للقارئ المجتهد أن يعثر، ومن دون جهد كبير، على ما يؤكد موقف الروائي الموزع على ولاءات متلاحقة، تختلف باختلاف الرؤساء والمناسبات. وواقع الأمر أن محفوظ غير هذا، وأن مزاعم القارئ المجتهد واهنة الاركان، حتى لو استندت إلى الوثائق والمقابلات الصحافية الفعلية، ذلك أن منظور محفوظ الحقيقي يتجاوز مواقفه السياسية اليومية. وربما يستطيع قارئ مجتهد آخر أن يُعرض عن المواقف اليومية، وأن يذهب إلى تاريخ بعيد، يفتش في صفحاته عن فكر محفوظ السياسي. وعندها يقدر القارئ أن ينقل محفوظ من "المدرسة الساداتية" أو سواها، إلى أرض حزب الوفد. وبامكان من يقرأ كتاب الراحل الجليل الدكتور عبدالمحسن طه بدر، وعنوانه "نجيب محفوظ: الرؤية والاداة"، أن يعثر على ضالته مستريحاً. يقول الكتاب: "كان نجيب وفدياً متعاطفاً مع الوفد فكرياً، لكنه لا يمارس السياسة العملية، ولكنه يفاجئنا في عام 1943، واثناء الحرب العالمية الثانية، بثلاث مقالات كتبها تأييداً لحزب الوفد وبعض زعمائه". في التاريخ إذاً، ما يدلل على أن محفوظ كان متعاطفاً مع "وفد" الاربعينات الذي لا توافق أفكاره "المدرسة الساداتية" في السبعينات. واذا كانت القراءتان السابقتان تلمسان سطح الظواهر وتخطئان جوهر فكر محفوظ السياسي، فما هو هذا الجوهر، ولماذا هذا السطح السياسي الخادع؟ يستقيم الجواب، ربما، بالوقوف أمام نقاط ثلاث: تمس الأولى منها شخصية الروائي ومزاياه الفردية. وتحتضن الثانية مسار الجيل الفكري الذي تكوّن فيه محفوظ وانتمى إليه. وتتعلق النقطة الاخيرة بالانتاج الأدبي لمحفوظ الذي يتضمن حقيقة الروائي، بعيداً عن مظاهر خادعة. وفي هذه العناصر مجتمعة ما يبني فكر محفوظ السياسي في عناصره المتعددة، وفي هذه العناصر أيضاً ما يُقصي محفوظ عن "المدرسة الساداتية"، بل ينأى به عن مواقفه السياسية المتلاحقة، التي أعلنها، منذ نهاية الخمسينات حتى اليوم. تُخبر النقطة الاولى، المرتبطة بشخصية محفوظ، عن انسان مأخوذ بعمله الأدبي ومعرض عما سواه، وعن انسان يرى في رسالته الأدبية المهد الحقيقي لرسالته الاجتماعية والسياسية. ولهذا، فانه يعطي من التصريحات ما لا يؤرق حياته وعمله، لا عن جبن أو تملق أو تزلف، بل عن ايمان عميق بأن الأدب هو جوهر حياته، وبأن هذا الأدب هو الحامل الصادق لمواقفه وأفكاره. وتوطد هذا الموقف وتزيده استقراراً نزعة زاهدة متقشفة، ترى في عالم الأشياء اليومي عالماً زائفاً، وتبصر في ثنايا الفكر والروح والسريرة عالمآً سامياً وبالغ الكثافة. ولم يكن محفوظ حين صرح مرة: "انني من المستضعفين في الأرض" ينطق زوراً ويلتمس غفراناً، انما كان يفضي بما يعتمل في عقله وقلبه. وتقترب الصورة من الوضوح، وهنا النقطة الثانية، لحظة الاقتراب من مسار الحكم الديموقراطي - الليبرالي ومآله، هذا الحلم الذي اقتبسه محفوظ من السياق الفكري الذي تكوّن فيه، والذي شكل سلامة موسى وطه حسين وعباس العقاد مراجعه الأساسية. وكان هؤلاء التنويريون يرون في الديموقراطية والتعليم والثقافة أساس ارتقاء المجتمع وتطوره، بعيداً عن الثورات العنيفة التي تجهض كل تطور طبيعي. ووصل حلم محفوظ، كما احلام التنويريين غيره، إلى مصير حزين، يختلط فيه الاسى العميق بالاخفاق المتتابع. ولعل هذا المآل، إذ وقع على شخصية تأملية قريبة من التشاؤم، هو الذي دفع محفوظ، وفي أزمنة متتابعة، إلى تصريحات مساومة، سطحها القبول، وباطنها العبث والتشاؤم والقنوط. كأن محفوظ، وقد اضاع حلمه الوطني الكبير، اصبح يلتفت إلى ما تبقى بيسر وقناعة. تمس النقطة الاخيرة، وهي الجوهرية، الابداع الروائي الذي حققه محفوظ، وهو المرآة الصقيلة التي نقرأ فيها فكره السياسي الحقيقي، من دون تجن كبير أو فرضيات خادعة. يقول الفلاسفة: لا حاجة لرجل السياسة أن يضع كتاباً في الفلسفة، لأن فلسفته واضحة في ممارساته السياسية. ويمكن أن يطبق هذا القول على محفوظ وغيره من الأدباء، بغية العثور على الموقف السياسي، بعيداً عن احراج الحياة وعسف السلطة. وأدب محفوظ ناطق بالحلم الذي كان وبالحلم الذي تولى. فعلى الرغم من وعي مأسوي بالوجود لم يفارق محفوظ لحظة، فانه كان في "المرحلة التاريخية والمرحلة الاجتماعية" من أدبه، كما يقال، يدافع عن جمالية الانسان الطليق، ويعتقد أن زمناً قادماً سيأخذ بيد الانسان الحالم إلى دياره الموعودة. غير ان هذا الايمان بدأ بالاهتزاز، منذ نهاية الخمسينات، فهجر الروائي الزمن الاجتماعي الواسع واكتفى بزمن الفرد المغترب الذي روعته آلة السلطة. وبعد هزيمة حزيران تزايد تشاؤم محفوظ، إلى ان دخل في زمن ذهني مجرد يحاور العدالة المستحيلة. كأنه في كتاباته كان يرثي أحلامه المتهاوية تباعاً، أو كأنه كان يكتب سيرة ذاتية حزينة، يمتزج فيها الفردي والجماعي باتقان كبير. ولهذا، فان محفوظ لا ينتمي إلى "المدرسة الساداتية"، بل إلى جيل وطني مستنير، بنى أحلاماً كبيرة وشاهد الانهيار الكبير للأحلام التي كانت. * ناقد وكاتب فلسطيني.