أعتقد أن عبدالمنعم الهوني العضو السابق لمجلس انقلاب الفاتح من ايلول سبتمبر أعطانا فرصة للحديث عن الانقلاب، تلك الحادثة الفريدة في نوعها وفي ظروف وقوعها، والآثار الليبية والعربية والدولية التي ترتبت ولا تزال تترتب عنها. والحق أن المرء لا يتوقع من ضابط بخلفيات ثقافية وسياسية من مستوى معين أن يجري تقويما ثقافيا لحقائق حركة التاريخ، ولو كان طرفا في بعضها. كذلك لا يجب أن تتوقع منه القدر اللازم من الحيدة والموضوعية، فالمشاركة تفرض التبرير، هذا فضلا عن ان كل عضو في مجلس الانقلاب له رواية مختلفة لما حدث. لكن لابد من الاعتراف للهوني بأنه اقتصر فيما قاله على سرد الجزء الذي يعرفه من فصول انقلاب أيلول 1969، وهي فصول تتسم بالغموض والغرابة لدى من لم يعاصرها وحسنا فعل بتجنب الغوص أكثر من ذلك. وأنا أتحدث كمحايد، رغما عن أنني لا يمكن أن أكون محايدا أبداً في شأن يتعلق بشعبنا في ليبيا، وما حدث، ويحدث له. أنا لست من الأسرة المالكة التي أطاح بها انقلاب أيلول بل أحسب أنني أنتمي إلى جيل الطليعة الذي شرع في صنع ليبيا العصرية، وأجهض الانقلاب الشهير مشروعهم العظيم. وإذا كان الانقلاب الليبي مفاجأة لمعظم الليبيين وكثير من العرب فإنه لم يكن كذلك لي شخصيا، أو لجهات في الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا. فبعد خلاف مع المرحوم الملك محمد ادريس السنوسي حول مشروع للنهضة السياسية الليبية دفعت بي الأحداث إلى قبول منصب سفير لبلادي في فرنسا، ولم أتوقف مع آخرين عن بذل الجهد وانتظار الظروف المناسبة لاقناع الملك المرحوم بالعودة إلى تنفيذ المشروع الذي كنت أراه بالغ العظمة. كنت في باريس عندما وصلتني أنباء الاستعداد للانقلاب. كان ذلك في نهاية تموز يوليو 1969. وكنت أعلم بعض الأسماء التي ظهرت فيما بعد في مجلس قيادة الانقلاب، وأجريت إتصالا برئيس الوزراء في ذلك الوقت المرحوم ونيس القذافي وهو للعلم لا يرتبط بأية صلة بمعمر القذافي الذي كان اسمه حتى وقوع الانقلاب معمر أبو منيار، واتخذ لقب القذافي مع ترقيته من ملازم ثان إلى عقيد من قبل مجلس قيادة الانقلاب، تحدثت معه في شأن ما بلغني من أخبار، فأجابني بأن الأمر لا يعدو محاولة ضباط صغار تشكيل تنظيم ساذج، وأنه جرى إنذارهم للالتفات إلى واجباتهم دون أي إجراء آخر. ولنتصور مدى التسامح الذي كان يسود علاقات المجتمع الليبي في ذلك الوقت. علمت آنذاك أن الولاياتالمتحدةوبريطانياوفرنسا نقلت سفراءها في ليبيا خلال تموز 1969، وزارني كل منهم للوداع في باريس. وعلمت منهم جميعا انه لن يعين سفراء بدلهم الا في نهاية العام. وعرفت أيضا من مصدر فرنسي رفيع موثوق به في الأسبوع الثالث من آب أغسطس أن الانقلاب سيقع خلال أيام. وأبلغني المصدر أنه لا خوف عليّ شخصيا، وأن جهات أميركية أبلغت حلفاءها البريطانيين والفرنسيين بأمر الانقلاب وطمأنتهم إلى أن مصالحهم في ليبيا مصونة. وفي مناقشة على مائدة غداء مع المصدر الفرنسي فهمت أن التشجيع الغربي لمجموعة الانقلاب قائم على أساس الخوف من اقدام مجموعة اخرى أكثر قدرة على الاستقلال بالسياسة الليبية، وأكثر نضوجا من أن يتحكم فيها الغرب. فقراء وأغنياء لم أكن مرتاحا لما كان يجري في بلادي في ذلك الشهر المشؤوم. لكني لم أكن أخاف من أي انقلاب، فأنا لست وريثا للعرش الليبي، ولم ارتكب في حياتي خطأً مقصوداً ولم أظلم ليبياً واحداً، ولم أمد يدي إلى مال حرام، ولم أخن أمانة في أموال الشعب، وإلى اليوم أعيش في المهجر عيشة متواضعة، فيما يسكن أعضاء من مجلس قيادة الانقلاب - لم يكن لهم دخل سوى مرتب ضابط صغير - في قصور بنوها بملايين الدولارات، وينامون خارج ليبيا في كنف ملايين اخرى لا يحاولون إخفاءها. لقد طمع الكثيرون في أموال الشعب، وعرفنا اصحاب ملايين بعد الانقلاب في حين لم يكن في ليبيا أصحاب ملايين قبل "الفاتح العظيم" وتحول "الثوار" بسرعة لم يسبقها مثيل إلى اصحاب ملايين، لدرجة ان المرء يعجب كيف أنهم لم يقتحموا البنك المركزي ويجردوا خزينته بدلا من الاستيلاء على السلطة ومعاناة متاعبها وأهوالها. المهم، وأنا أعلم أن الانقلاب وشيك الوقوع زرت المرحوم الملك ادريس السنوسي واخطرته بما يقع في البلاد وأشرت إليه بما رأيت أنه في صالح الشعب، الا ان الرجل كان متعبا وكبير السن وطيباً وحنونا الى درجة يصعب تصديقها، ولذلك زهد في الحكم ورفض القيام بأي إجراء بل انه لم يصدق إحتمال وقوع شيء من ذلك. ولأنني لم أكن اخشى من أي انقلاب، لنظافة يدي وسلوكي، فقد عدت إلى ليبيا وشهدت وقوع الانقلاب. كان البيان الأول بالغ السذاجة، ويعبّر عن كارثة وقعت، كارثة لم يسبقها مثيل. كانت لغة البيان ولهجته تدل على أن اصحاب الانقلاب مجموعة من صغار الضباط السذج والاشقياء. كنا في ليبيا انشأنا جيشاً صغيراً بقدر ما تتحمله امكاناتنا وعددنا، ولقلة عدد المتعلمين في سنوات الاستقلال الاولى، ولعزوف من يتمتع بفرصة أفضل عن الانخراط في الجيش، اقتصر دخوله على حملة الشهادة الاعدادية، وكان الضباط الانقلابيون كلهم برتبة ملازم او نقيب، وثقافة كل منهم لا تتعدى تلك الشهادة الاعدادية، واصبح كل منهم ضابطا بعد دورة استمرت عامين في كلية عسكرية متواضعة. لقد قفز الى القيادة في انقلاب أيلول سبتمبر في ليبيا ضباط صغار يفتقرون الى كل المؤهلات، فلا دراسة وافية ولا علم عسكري ولا خبرة من أي نوع، انهم مجموعة من الصغار المتحمسين لشهوة السلطة وجدوا انفسهم في مجتمع وفي ظل حكم سياسي لا يؤاخذ المخطئين فغامروا بلعبة شجعها الغرب وانتهت الى النجاح. كان ضباط الانقلاب صغارا غير معروفين للناس. وذكرني ذلك بما قاله لي سفير اميركي وأنا رئيس للوزراء، إذ كان يشك في رغبتي في الاستيلاء على الحكم فجاءني زائراً يستطلع تلك الرغبة، ونصحني بأني إذا فكرت في ذلك فإن عليّ ان أتجنب إشراك أسماء معروفة، لان الناس تحكم عليهم من أول يوم، وان من الذكاء مشاركة اسماء مجهولة تستطيع السيطرة على الأمور والجميع يتوقعون منها ما لا يعرفون. لكني حقا فكرت في اصلاح الامور بحزم، والقصة التي قد لا تعرفها سوى قلة أقولها اليوم. كنت طالبا صغيرا في المدرسة الابتدائية قبل الاستقلال، وشاركت العام 1948 في المظاهرات الصاخبة التي كانت تطالب بالاستقلال. وفي عام 1954 ذهبت ضمن بعثة دراسية الى جامعة القاهرة حيث حصلت على ليسانس القانون ودبلوم في القانون الدولي، وعدت لاعمل قاضياً ثم محامياً ثم عضواً في مجلس النواب عندما كان لنا دستور وبرلمان. وعندما عدت الى ليبيا بعد الدراسة كان لدّي - مثل كثير من زملائي - احساس بتخلف البلاد وبضرورة المطالبة بصنع التقدم فيها. وكان من حظي أن ادرس الواقع الليبي بعناية لأكتشف أنه لولا جهود وزعامة المرحوم الملك ادريس السنوسي وجهود معاونيه لما كان هناك دولة ليبيا ولدت خلال هذا القرن. نعم كانت الامكانات العلمية للمسؤولين في مستهل الاستقلال محدودة بل متواضعة. ولكن لم يكن لدى البلاد غيرهم، وقد تحملوا واجب صنع الوطن المستقل وبدأوا مسيرة رائعة من الصفر. اذكر، وأنا صغير، افتقار ليبيا الى كل المقومات، فبعد احتلالها من قبل الانكليز والفرنسيين، اثر انتصار الحلفاء على المحور العام 1943، كانت البلاد لا تملك أية مقومات. وقد شاهدت الناس يموتون جوعا عامي 1948 و1949 إثر سنوات متتالية من الجفاف، وكنا نعيش على معونة قمح اميركية، ولا أنسى خروج سكان مدينة طرابلس في احتفال لتحية الباخرة المصرية التي احضرت شحنة من الرز هدية. وعندما اعلن استقلال البلاد في كانون الاول ديسمبر 1951 لم يكن بها سوى مدرستين ثانويتين وخمس مدارس ابتدائية مجموع كل تلاميذها لا يتجاوز ألفاً. وعندما انقض انقلاب 1969 على السلطة وجد ثلاثمائة ألف طالب وطالبة يذهبون الى المدارس وجامعة تضم أكثر من عشرة آلاف ومثل ذلك العدد من المبتعثين الى جامعات عالمية. بدأت ليبيا مسيرة استقلالها العام 1952 دون ان يكون أي من أبنائها من حملة الشهادات الجامعية، وكنت أنا وجيلي من أول من عادوا بقدر من العلم، ولم يقف احد في طريق مساهمتنا في بناء البلاد والوصول الى اعلى المناصب، وكان المؤهلون يحتلون كل مراكز المسؤولية عندما أجهض انقلاب 1969 المشروع الليبي وأهدر الحلم بالمستقبل. يجدر بي أن أتحدث هنا عن ذريعة اتخذها الانقلابيون لتبرير عملية الاجهاض، وهي اجلاء القواعد العسكرية البريطانية والاميركية من ليبيا. لقد حصلت ليبيا على استقلالها وتلك القواعد موجودة فعقب هزيمة ايطاليا في الحرب العالمية الاخيرة احتل الانكليز برقة وطرابلس، واحتل الفرنسيون فزان في الجنوب، وسمح الانكليز للاميركيين بإقامة قاعدة جوية. إذن فقد اعلن استقلال ليبيا وشكلت اول حكومة بها والقواعد الاجنبية موجودة شئنا أم أبينا، بل إنه لولا مساندة الدول الغربية لنا لما حصلنا على قرار الأممالمتحدة العام 1949 القاضي بمنحنا استقلالنا. أول موازنة ليبية وللتاريخ والحق ان ليبيا عندما اقدمت على وضع اول موازنة العام 1952 قدرت المصروفات بثلاثة ملايين جنيه، حصلت على مليون جنيه مساعدة اميركية، ومليون جنيه مساعدة بريطانية، وعجزت عن جمع المليون الثالث من موارد محلية، فكيف تلام حكومة في مثل هذه الحال على عقد معاهدات بمنح تسهيلات عسكرية لدول أجنبية خصوصا أن تلك الدول موجودة أصلاً وهي التي اخرجت الايطاليين من البلاد. ان السذج والأغبياء وحدهم الذين لا يحسنون الحكم على الأمور. ومما ينبغي قوله ايضاً إن الحكومة الليبية أجرت مفاوضات بهدف تجديد المعاهدات التي أبرمتها عقب الاستقلال مع بريطانيا واميركا وبموجبها استمر وجود قواعدها العسكرية، وأبرم بالفعل اتفاقان للجلاء على ان ينفذ خلال العام 1970. ان الانقلابيين الذين حرصوا على تسمية إنقلابهم "ثورة" لم يكونوا سوى طلاب سلطة ومال، وقد حصلوا على ما يريدون وبسهولة لا مثيل لها رغم مستوياتهم الفكرية المتواضعة، ولعل الكثيرين يتساءلون عن اسباب سهولة نجاح انقلاب 1969 في ليبيا، ولأول مرة اتحدث عن بعض ما أعرفه، وأنا أعرف الكثير الذي لم يحن وقت الحديث عنه بعد حفاظا على أشياء وأشخاص. كان المجتمع الليبي مجتمعا صغيراً لا يزيد تعداده على ثلاثة ملايين نسمة العام 1969 وكان التسامح والحرص على العدالة سائدا رغم ان النظام السياسي لم يكن ديموقراطيا كاملا، نعم كانت للمرحوم الملك ادريس السنوسي سلطة أبوية، لكنه كان رجلاً - كما عرفته من قرب - طيباً شديد الطيبة ولم يكن لديه إحساس بالافتقار الى الشرعية، فالرجل لم يكن ملكا ولم يأت إلينا من اسرة مالكة، انما كان زعيما مؤسسا لدولة، كان زعيما للحركة السنوسية الشهيرة التي هي حركة دينية ولكنها ليست صوفية، بل سياسية اصلاحية عاصرت حركة المهدي في السودان والوهابية في الجزيرة العربية. كان للحركة السنوسية منذ أوائل القرن الماضي نشاط اقتصادي وسياسي وعسكري وكانت زواياها مراكز سياسية، وحارب اعضاؤها الفرنسيين في النيجر وتشاد، وساعدوا المهدية في السودان ضد الانكليز. أما في ليبيا فقد حاربت الحركة السنوسية الايطاليين 30 عاماً ولم يكن شهيد ليبيا الخالد عمر المختار إلا شيخاً من مشايخ زواياها وقائداً لفرقة من محاربيها. وإبان الجهاد ضد الاستعمار الايطالي تولى القيادة العليا للحركة المرحوم محمد ادريس السنوسي وحارب حتى هُزم، ففر الى مصر، وأقام بها حتى قرب اندلاع الحرب العالمية الثانية فجمع جيشاً من المهاجرين الليبيين وشارك مع قوات الجيش الثامن البريطاني في تحرير البلاد، بعد ان حصل على تصريح من وزير خارجية بريطانيا أنتوني إيدن بأن ينظر الحلفاء بعد الحرب الى مطالب الليبيين في الاستقلال بعين الاعتبار. دخل السنوسي ليبيا غازياً مع الغزاة وزعيما لكل مراحل الكفاح الليبي المسلح، فهو لم يكن دعيّا او صاحب انقلاب. ولعل الكثيرين يجهلون ان الليبيين بايعوا محمد ادريس السنوسي زعيما لهم ثلاث مرات، الاولى العام 1918، والثانية العام 1941، والثالثة العام 1950، إثر دخوله مع جيش التحرير الليبي شرق البلاد. ولا أعرف زعامة واحدة لم تبايعه بيعة خطية لا تزال محفوظة في أكثر من مكان. لا ادافع عن ادريس، لأنه ليس بحاجة الى دفاعي، فتاريخه وتاريخ السنوسية معروفان، لكن عظمة هذا الرجل أصابها نقص أضر بالبلاد، نقص غير مقصود بل انه اذا حسنت النوايا صار ذلك النقص فضيلة. نعم، بدأت ليبيا من الصفر بلا مؤهلين، وبسبع مدارس وموازنة قدرها ثلاثة ملايين جنيه، واكتشف البترول فيها العام 1963، ولم تصدر منه كميات تجارية الا العام 1964. وأذكر أنني أثناء عملي مستشاراً لبنك ليبيا المركزي اجتمعت الى الدكتور محيي الدين فكيني رئيس الوزراء العام 1964 وكان يشركني في إعداد خطة خمسية للتنمية، وكان ابلغ بأن دخل ليبيا من البترول سيصل الى 60 مليون دولار. ووصل دخلها العام 1969 عام الانقلاب الى 170 مليون دولار، ومع ذلك قطعت البلاد من 1952 الى 1969 شوطا رائعا من التقدم في كل المجالات، وصار لديها 300 ألف طالب وطالبة في مراحل التعليم الابتدائي والمتوسط، وأكثر من عشرين ألفاً في مراحل التعليم العالي، وأكثر من خمسة آلاف من المؤهلين في مختلف المجالات، وربطتها شبكة طرق عصرية، وتوافرت لكل مواطن خدمات تعليمية وصحية مجانية، وأنشئ الجيش الصغير الذي دخله صبية أجهضوا مسيرته. نعم لم تجن ليبيا قبل الانقلاب من دخل البترول اكثر من خمسمائة مليون دولار، فيما وصل دخل الانقلابيين منه في احدى السنوات الى عشرين بليوناً وجمعوا طوال سنوات حكمهم اكثر من 300 بليون دولار أنفقت على الارهاب، ودخلت جيوب أعضاء المجلس الشهير، من كان منهم في المهجر او في الداخل، وجيوب اعوانهم. وانفقت في احسن الاحوال على مشروعات خيالية فاشلة كالنهر الصناعي العظيم الذي انتهى الى عدم وجود الماء بعد انفاق 20 بليون دولار. تسلم الانقلابيون البلاد وهي مقبلة على نهضة فأجهضوها، وساعدهم على النجاح تسامح الاوضاع في ليبيا وعيب هو ليس عند الخيريين بعيب يؤخذ على ادريس السنوسي، فقد تجاوز الزمن الرجل وهو المجاهد الذي عاش مع أجيال مجاهدة، ولم يعد يدرك مصاعب حكم اجيال جديدة تتناهبها المذاهب والاتجاهات، فبرغم ان الحكم لم يكن ديموقراطيا بالمعنى المعروف الا انه كان متسامحا وطيبا الى درجة انه لم يعدم ليبيا واحداً لأسباب سياسية او غير سياسية طوال حكمه، سوى مواطن واحد، هو ابن أخ زوجته لانه قتل رجلاً واعترف علناً بذلك. اما السجن السياسي فلم نعرفه الا في حالة او حالتين، واهمها سجن بضعة قوميين عرب لم يحاكموا على الرأي وإنما اثر العثور على متفجرات مع بعضهم. كان المجتمع الليبي متسامحا، وكان الملك ادريس اكثر تسامحا، فهو لم يدرك نوع الاجيال الجديدة وتطلعاتها وصراعاتها فأحسن الظن بالجميع. وأذكر انني حضرت لقاء معه دار فيه حديث عن تنظيم الجيش الليبي واعادة تشكيل الحرس الوطني بسبب ما كان يوجد في الجيش من مجموعات تتصارع وتنذر بالخطر. فكان رده قاطعا: "انتم لا تعرفون ما عاناه آباؤكم من تعثر وذل، وهؤلاء الجنود والضباط ابناؤنا ولا أقبل بفصل واحد منهم الا اذا ثبتت عليه تهمة توجب الفصل، اما التصفية فلا أقبلها". مشروع الاصلاح السياسي وأذكر انه كان لدي مشروع ليبي قومي كبير يبدأ باعادة تنظيم السلطة واقترحت على الملك ادريس أن يصبح رئيسا للجمهورية مع اختيار نائب له بالانتخاب، وتقسيم البلاد الى خمس محافظات ينتخب فيها المحافظ ومجلس المحافظة مع اعادة تشكيل كل السلطة واعادة النظر في التعليم والاقتصاد وكل شيء. كنت أشعر ان الوقت حان للشروع في مرحلة جديدة بعد مرحلة الاستقلال التأسيسية. وكان معي زملاء مشاركون مدنيون وعسكريون، ولم يكن في مشروعنا استيلاء على السلطة بالقوة، أي كنا انضج من ان نتورط في انقلاب رغم قدرتنا عليه، فنحن نعرف مصير الانقلابات، فضلا عن ان الملك ادريس كان أباً للشعب وزعيما بويع اكثر من مرة. ولم نكن نعتبره ملكا فحسب، بل زعيماً مجاهداً زاهداً خيرّاً. رفض الملك الراحل المشروع، وخرجت من رئاسة الوزارة تمهيداً لمحاولة عرضه عليه من خارج السلطة، ولكن الغرب أسرع الى دفع الاحداث للحيلولة دون وجود مجموعة مستقلة الرأي والسياسة في الحكم. وهكذا سارت الأمور في ليبيا لصالح انقلاب 1969 الذي نعرف ان بعضا من مدبريه كانوا يجتمعون بسفير دولة كبرى قبل الانقلاب، وإن كنت اعتقد ان الهوني لم يكن بينهم، ولم يكن يعرف بتلك الاجتماعات. رفض الملك مشروع الاصلاح ولم يفكر احد منا في اجباره على قبوله، اذ كان والداً ومؤسساً وتاريخاً لا يجوز التطاول عليه. وهو مهّد للانقلاب بطيبته وحبه لكل الناس، ولو كان حازما جسورا لما حدث ما حدث. وهذه مناسبة لأروي سبب صلتي بالمرحوم الملك ادريس، اذ يسألني كثيرون كيف وصلت إلى رئاسة الوزراء. كنت في عام 1961 شرعت في العمل بالمحاماة، واستعد للترشيح لعضوية مجلس النواب عندما استدعاني عن طريق صديق مسؤول المرحوم البوصيري الشلحي ناظر الخاصة والمكلف برعاية الزوايا السنوسية، واخبرني بأن الملك يفكر في وضع قانون لتنظيم امور الزوايا وإعادة نشاطها وخلال اعدادي لمشروع القانون بدأت أقابل الملك الذي لم يشأ ان يلجأ في هذا الشأن إلى مستشارين قانونيين غير ليبيين، وهكذا نشأت صلة قمت خلالها بتقديم المشورة القانونية له في أمور كثيرة، حتى اشركني المرحوم محمود المنتصر العام 1964 في وزارته وزيراً للعدل ومنها استمرت صلتي بالملك، واقتربت منه كثيرا الى ان كلفني برئاسة الوزراء. وللتاريخ أقول كان الرجل زاهدا حتى في ملابسه ولم يطلب اليّ أو لغيري فيما اعلم مخالفة لأي قانون وكان حريصا على عدم ايذاء اي ليبي حتى بالفصل من الوظيفة. زرع بفهمه غير العصري للأجيال الجديدة والظروف الجديدة في البلاد وبحرصه على التسامح حتى مع المتآمرين، زرع جواً من التسيب فتح شهية كل المغامرين، لدرجة أن ضباطا اتهموا بمحاولة انقلاب العام 1963 وحوكموا وأدينوا طلب اليّ وأنا وزير للعدل اعداد مرسوم بالعفو عنهم ولم يمضوا من العقوبة إلا عاماً أو نحو ذلك. كان من السهل على أي فئة الاستيلاء على الحكم وكانت هناك فئات متعددة داخل الجيش رفض الملك - كما ذكرت - اخراجها إلا بدليل، وعلى أساس فردي، وكنا نحن جيل المثقفين نتمسك بمشروعنا القومي للاصلاح آملين أن يتم في ظل الملك مع استمرار الشرعية دون الدخول في دوامة الانقلابات. ولذلك دفع الغرب بالاسماء المجهولة تجنبا لأي مفاجآت فكان انقلاب 1969. والحق أن أغلب الليبيين رحبوا بالانقلاب بفرحة، اذ كانوا تحت تأثير موجة الانقلابات العربية التي لم يسمعوا عن مآسيها، وكانوا يفتقرون الى التجربة السياسية وتوقعوا من الجديد الذي لا يعرفونه خيراً كثيراً. أحس الذين يعرفون بالكارثة في لهجة بيان الانقلاب، لكن الغالبية رحبت إنتظاراً لما هو أفضل. والذي حدث معروف، فليبيا التي كان لها دستور صارت بلا دستور وبلا مجلس نيابي. وليبيا التي كانت لها موازنة لم يعد فيها من يعرف دخلها ومصروفاتها، وصارت كل أموالها في جيوب الحكام وأصبح العضو في مجلس الانقلاب الذي لم يكن له دخل سوى مرتبه كضابط صغير في أول ايلول 1969 مليونيرا عقاريا فاحش الثراء بين العواصم العربية. وليبيا التي انتشر المؤهلون في وزاراتها العام 1969 صارت تحكمها لجان شعبية مكونة من أشخاص يتمتعون بقدر لا يحسدون عليه من الجهل، وليبيا التي لم تعرف اعداما سوى اعدام ابن أخ الملكة في جريمة واضحة، صارت تشهد شنق الطلاب في الجامعات وتعليق المواطنين على مشانق في الشوارع تنقل بالتلفزيون. صعوبة المقارنة وليبيا التي لم تعرف الاعتقال السياسي يموت الناس فيها بالمئات في المعتقلات، ويعدم الناس بلا محاكمة، ويعلن رئيس الدولة في التلفزيون أن "أعداء الثورة" لا يحاكمون ولا يسجنون بل يعدمون فقط، الى جانب ملاحقة الأبرياء خارج البلاد بالخطف والاغتيال مع إعلان الدولة انها تفعل ذلك باعتباره واجباً من واجباتها. ليبيا التي لم تكن لها مشكلة مع جيرانها أو مع أي دولة صارت مرتعا للارهاب والارهابيين، ولحق أذاها بمعظم دول العالم، فضلا عن دول عربية كثيرة عانت ولا تزال تعاني من شذوذ سلطات الانقلاب. إن بعض الناس يتصورون أنه وقد حدث انقلاب في ليبيا فلا بد أنه وقع ضد أوضاع تشبه أوضاع مصر مثلا قبل العام 1952 من اقطاع وحزبية وفساد، لكن الواقع ان ليبيا لم يكن فيها اقطاع، فالارض القابلة للزراعة محدودة وموزعة، والشعب كله متقارب في الفقر والحاجة، ولم تولد فيها الثروات بعد، فلم يكن بها أي صاحب ملايين ودخلها الوحيد من البترول حتى عام 1969 لم يتجاوز 170 مليون دولار. وكان للقانون حكمه وللعلاقات الاجتماعية الطيبة سيطرتها، فلا ظلم ولا تسلط، وحتى بعض الانقلابيين عندما انكشف أمرهم استدعتهم سلطات رئاسة الاركان وحذرتهم من ان يضيعوا مستقبلهم بمثل تلك التصرفات. وأشير إلى رواية الهوني عن أن الحكومة لم تتخذ إجراء للحيلولة ضد الانقلاب لأنه كان هناك من يحرص على عمولات من صفقة للدفاع الجوي عقدت مع بريطانيا، وهذه رواية ساذجة وسطحية هي للتبرير فقط. فأنا الذي فكر في تسليح الجيش الليبي تمهيدا لاعادة تنظيمه، والصفقة مع بريطانيا كانت لصواريخ دفاع جوي ودبابات تشيفتين وأسلحة أخرى، وقيمتها الاجمالية لم تتجاوز في ذلك الوقت 200 مليون دولار، ومعها صفقة أخرى من أميركا للطائرات الحربية وطائرات النقل. ورغم انني لم احضر توقيع العقود الخاصة بتلك الصفقات، فقد تركت رئاسة الحكومة قبل إتمامها، إلا أنني أعرف ذمة من استمر فيها بعدي ونظافة أيديهم. وعلى كل فقد جرت محاكمتي ومحاكمة الجميع عن كل تلك الاشياء فيما سمي بمحكمة الشعب، ولم يثبت فساد ذمة أحد. والاهم من ذلك انني وجميع من اتُّهم لا زلنا نعيش في حدود الكفاف، وبعد خمسة وعشرين عاما لم تظهر على أحد العمولات، فيما ظهرت الملايين العقارية والقصور، غير ما خفي عمّن شاركوا في الانقلاب ثم هاجروا عنه وكانوا لا يملكون سوى مرتبهم. الخلاصة ان التسامح والنيات الحسنة لدى الملك ادريس وعزوفه عن أي حزم بسبب سنه وتكوينه الفكري وطيبته وزهده سهلت وقوع الانقلاب. وليته كان انقلاباً من قبل من لهم الكفاءة والنية في خدمة الشعب واصلاح العيوب والانتقال بليبيا الى وضع أفضل مما كانت عليه، لكنه كان انقلاب مغامرين هم على مقياس ما يريده الغرب. وقد روى لي الكاتب الكيبر محمد حسنين هيكل انه اصيب بالذهول عندما قابلهم لاول مرة موفدا من عبدالناصر الى طرابلس. ان المغامرة السهلة التي شجعت ومهد لها من الخارج واستفادت من التسامح والاهمال جعلت ليبيا نموذجا لاهدار حقوق الانسان وحولتها الى بلد للقتل والشنق والفساد. بالطبع فإن المرء لا ينكر حُسن النية لدى بعض المشاركين في الانقلاب، فباستثناء الذين انتفعوا والذين ظلموا يوجد مشاركون تورطوا في العملية، معتقدين أنهم يفعلون خيراً. لكن هؤلاء لم يلبث زعيم الانقلاب ان ابتلعهم. إن في رواية الهوني لبعض أحداث الانقلاب وعلاقات المشاركين فيه بعضهم ببعض ما يوضح مدى السذاجة التي تمتع بها أكثرهم وإن كانت سذاجة جريئة غير خيرة. ان الحديث عن مغامرة انقلاب 1969 مبالغ فيه، فالأمر كان سهلا ويسيرا، ومسرح البلاد معد بسبب الطيبة والتسامح وثقة الملك في الناس لكل راغب في القفز الى السلطة. وكان اختيار الغرب سريعا لمن يطيعه، وان افترق الاصدقاء بعد حين. وقع انقلاب، لكن البلاد لم تكن بحاجة إليه. ولو تركت لتطور الاحداث بشكل طبيعي لفاضت بأجيال من الخيّرين، ولو قيض الله لمشروعنا القومي النجاح ولم يجهض لتواصلت الشرعية وتطورت الى ما لا يحلم به قطر عربي. ليبيا لم تكن قبل الانقلاب كمصر في عهد محمد علي، ولم تعرف الاقطاع ولا الثروة. لقد غرس الملك ادريس الدولة على أنقاض حروب ومجاعات وأسسها في ظل ظروف دولية بالغة الصعوبة. ورغم الطمس والتشويه فإن الليبيين يعرفون ما كانوا عليه وما هم فيه، فكيف يقارن إدريس الذي رفض كل اجراء في مواجهة ضباط يدبرون للانقلاب بزعيم الانقلاب الذي يعرض على الليبيين رسميا في خطب معلنة ان يوزع عليهم دخل سنة من البترول ليبحثوا عن أرض يقيمون فيها خارج ليبيا؟! حتى لو افترضنا ان الحكم في ليبيا قبل الانقلاب كان غير ديموقراطي فإن الهوني شهد في ما قاله لمجلة "الوسط" بأنهم لم يفكروا في الديموقراطية لا قبل الانقلاب ولا بعده، وان موضوع الديموقراطية لم يطرحه سوى أحدهم وهو محمد نجم. اذن فهم قاموا بالانقلاب لأي أهداف، واذا كانت الديموقراطية لم تخطر على بال أي منهم، فلا بد أنهم لم يفكروا إلا في السلطة والمال. بين سيرة وسيرة اصبح التعليم بعد الانقلاب في ليبيا صفرا، والتلاميذ يقرأون معظم الوقت كتاب معمر القذافي "الأخضر"، فيما رفض الملك ادريس ان تدرّس سيرته المليئة بالكفاح والنضال الذي استمر أكثر من 70 عاماً، أو مسيرة الحركة السنوسية العظيمة في أي مرحلة من مراحل التعليم. واضحت الخدمات العامة في ليبيا في غاية التعاسة، فحتى الذين يدخلون المستشفيات يضطرون الى تدبير الشراشف والوسائد وما يشربونه من ماء يضطرون الى تدبير مرافق للممارضة. لا اقول هذا تجنيا على الانقلاب الذي أصبح نظام فرد واحد كما هي عادة الانقلابات، فالليبيون يعرفون ان كل شيء في بلادهم انهار تماماً، وان دخل بلادهم من البترول مجهول بالنسبة اليهم، ويعلمون انهم يعيشون رعباً. إن الانقلاب الليبي يدين بوجوده الى من شجعه في الغرب، ويدين بقدر أكبر الى تسامح المجتمع وسلطته، والى طيبة الملك ادريس وتسامحه ورفضه لأي خطوات تناسب الواقع الذي نشأ بعد الاستقلال. وكما ذكرت سالفاً فإن هذا هو عيبه وهو في الواقع فضيلة في ظروف اخرى، ومع ذلك لم يدخر الانقلابيون وسعا في تشويه صورة الرجل، وتاريخ حركة اجداده. وهل المرء بحاجة الى التذكير بالفرق بين رجل محارب تزعم أكثر من 30 عاما حركة افريقية مناهضة للاستعمار الانكليزي والفرنسي قرناً وبين ضباط ثقافتهم اعدادية في جيش بسيط كونه ذلك الرجل بنفسه. انني أريد ألا يُفهم من حديثي هذا أنني أدعو الى عودة الملكية، فإدريس لم يكن ملكا - كما ذكرت - بل كان زعيما مؤسسا بايعه شعبه ثلاث مرات وهو خارج السلطة يحمل السلاح، واذا كنا لم نرغب في حكم الانقلاب فإنه ليس من حق أحد أن يقول لنا إما الانقلاب وإما الملكية. لنا الحق في خيار ثالث: الديموقراطية والحرية. فما مضى مضى. والانقلاب تعرفونه، والمستقبل للديموقراطية وحقوق الانسان. والحق أن في داخل ليبيا معارضين، ولكن الصمت يلفهم نتيجة الارهاب. وفي الخارج معارضون من بينهم الهوني الذي يُشكر على أنه تذكر أهمية الديموقراطية في نهاية المطاف. وبينهم مناضلون حقا وان كانت الظروف لم تساعدهم على الانجاز، منهم سفراء سابقون جديرون بالاحترام، ومثقفون ورجال اعلام وطلاب. منهم من ادرك فداحة الانقلاب، ومنهم من اختلف مع حكم الملك ادريس ودخل السجن وكانت له رؤية قبل الانقلاب. ان انقلاب 1969 كان فريدا في نوعه، وفي سهولة نجاحه، وفي علاقاته بالغرب الذي ساءت علاقته فيما بعد بالانقلابيين لادمانهم الارهاب. والملك ادريس هو الحاكم الذي لم يشنق مواطنيه ولم يعتقلهم، ولم يسمح لأحد من اسرته بأن يكون ذا سلطة فلم يكن يرى في الحكم وراثة وحتى ولي عهده المرحوم الحسن الرضا كان في مستوى طيبته وتسامحه، وكان يمكن ان يحدث في عهده مثل ما وقع من انقلاب، وكان للحق رجلا متواضعا شديد الطيبة ولم يكن له أو للملك أي سلطة على أموال الدولة غير ما يخصص لهما علنا في ميزانية يقرها البرلمان وتنشر وتعرف، وحتى بعد الانقلاب عجز الانقلابيون عن كشف أي شيء يمس ذمة الملك، أو ولي عهده، ولا زالت الملكة تعيش في مصر بما يجود به الله عليها في شقة في غاية التواضع، ويعيش اولاد ولي العهد خارج ليبيا ومنهم الابن الاكبر محمد الذي يمثل صفاء الشاب الليبي وأصالته. كانت اكبر جريمة أدين فيها مواطن في العهد السابق امام محكمة الشعب الكاريكاتورية ان ضابطا كبيرا في الجيش استغل جنديا في شراء دجاجة مشوية له للغذاء، ولم تثبت إدانة أحد بفساد ذمة أو ظلم على الاطلاق، برغم محاولات الادانة، ولا يزال مسؤولو العهد السابق يعيشون في مستوى متواضع حتى بعد مضي 25 عاما على الانقلاب. فيما ينام عضو من أعضاء مجلس الثورة علنا وهو يملك ملايين الدولارات! وينام كثير من المواطنين في السجون، بل إن الانقلاب نبش في مسيرة علنية قبور معارضين جرى اغتيالهم ودفنوا ثم رأت السلطة أن أجداثهم تشوه تراب الوطن فرميت رفاتهم في البحر في احتفال عام! أكثر رحمة ومودة وقع الانقلاب على نظام رفض الملك فيه رغم تحذيره من قرب وقوع انقلاب ان يعود الى البلاد من اجازة استشفاء في مدينة بورصة في تركيا وأعلم علم اليقين وسيأتي وقت تذكر فيه التفاصيل انه قال فليفعل الليبيون بأنفسهم ما يرونه مناسباً، وقد حضرت رفضه للعودة واتخاذ أي إجراء. لقد وقع الانقلاب على ملك ألح على حسن معاملة شباب من القوميين العرب جرت محاكمتهم وحبسهم، وأكد لي انه لا بد من العفو عنهم بعد فترة مناسبة، والحق أنني لم اعتقلهم، اذ اعتقلوا قبل أن أتولى رئاسة الوزراء، ولم أكن احمل لهم أي مشاعر معادية، سوى حرصي على الأمن، ولكن الملك كان أكثر رحمة ومودة، وعلى كل حال، فإن أشجع اولئك الشباب فر من حكم الانقلاب الى المعارضة، بل ان بعضهم اعتقل، وبعضهم قتل. حدث انقلاب 1969 في ظروف ليبية سهلة ومتسامحة، يشهد عليها على الاقل حديث الهوني الذي جعل الامر يبدو وكأنه لعبة "أولاد كشافة". ووقع في ظروف دولية خدعت حتى الجيران، ولم يعتقد المرء أنه بحاجة الى رواية المسيرة الطويلة المؤلمة للانقلاب التي قام خلالها أغرب حكم فردي عمل بكل همة على تفكيك مؤسسات الدولة وإهدار حقوق الانسان، وفاخر علنا بالقتل والارهاب، حتى عانى الناس ما لم يعانه أجدادهم على يد الفاشيست القساة زمن الاحتلال. أنا لست من أسرة سنوسية، ولا صاحب حق في وراثتها. ولم أعمل في ظل المرحوم ادريس إلا بمؤهلاتي التي تخّولني، اكبر مّما وصلت اليه في ظل أي ظروف متحضرة، لكن قولة الحق واجبة: فليبيا التي كانت هيئات دولية تسعى وراء استخدام وزرائها لخبرتهم مثل الدكتور علي عتيقة صار اصحاب المناصب فيها بلا خبرة ولا مؤهلات، وبرغم انها بلد يعوم على بحيرة من البترول فإن فساد الحكام والسرقات تركت كثيرا من حملة الشهادات العليا عاطلين بلا عمل، حتى الاطباء منهم، بل ان منظر ليبي يشحذ حسنة على قارعة الطريق صار مألوفاً للناس. كان انقلاب 1969 انقلابا الى الوراء، الى درجة أن موظفي الحكومة لا يتقاضون مرتباتهم، بمن فيهم العسكريون. ويظلون بانتظارها شهوراً. وبعد المرحوم السنوسي وبعد اهدار اكثر من 20 بليون دولار على مشروع "النهر العظيم"، يدعو زعيم الانقلاب المواطنين في خطاب علني الى أن يبحثوا عن بلد آخر يعيشون فيه ويتعهد بتقسيم دخل سنة واحدة من البترول عليهم. هكذا تدعو السلطة المواطنين الى اخلاء الوطن بعد ان اجهض الانقلاب مشروعنا النهضوي الذي كان في سبيله الى الوجود عام 1969. هذه هي بعض الأحوال والهموم الليبية التي لا يكفي وقت للحديث عنها، ومعها احوال وهموم واسرار لم يحن الوقت للخوض فيها، وكل ذلك يجعل من يرى ان ليبيا كانت في حاجة الى انقلاب 1969 كمن يعتقد ان السمكة بحاجة الى الاستحمام. وفي النهاية أدعو لمن يقولون نصف الحقيقة عن ليبيا وانقلابها بالهداية من عند الله. فنصف الحقيقة ليس سوى كذبة كاملة. * رئيس وزراء ليبي سابق.