أشعاره كانت على كل شفة وفوق كل لسان. حملتها أغاني الشيخ امام خارج حدود مصر، فرافقت مخاض الوعي لدى جيل كامل. ثم جاءت القطيعة مع المغني الضرير، وتداعف الاحداث السياسية وانهيار المثل، لتغرق احمد فؤاد نجم في مرحلة من الصمت بعيداً عن المعترك، وبمنأى عن الاضواء. لكن ها هو "الفاجومي" يعود الى التوهج، فينشر مذكراته، ويعد لمشاريع في المسرح الغنائي الشعبي، وفي السينما مع احمد زكي. والشاعر المصري الذي قبل ان يخرج عن صمته ويجيب عن اسئلة "الوسط"، يؤكد ان مواقفه لم تتغير، ف"الذي تغير فقط هو الشكل او الاطار الفني". أحمد فؤاد نجم. ما الذي يدفعنا الى استعادة اسمه الآن، في زمن تخبو فيه الاشياء الجميلة؟ هل هو افتقادنا المتزايد الى ما يمكن ان يرمز اليه الاسم من قيم ابتلعتها المرحلة، وطمستها المستجدات السياسية المتدافعة علينا في نهايات القرن؟ هل الشاعر المصري الشعبي المعروف ابتعد في السنوات الأخيرة عن دائرة الضوء؟ ربما، لكن هناك نوعية من الاسماء التي ما ان تخبو حتى تعود الى التوهج مرة اخرى ... وحين نبحث عن الاصوات المميزة والانجازات الابداعية، لا يمكن سوى ان نهرب من الراهن ونعود الى اصحاب تلك الاسماء نستعيد عطاءاتها ونغرف من مخزون النقاء الذي تنضح به تجاربهم... تجارب بلا ضفاف، اثقلها سقوط اليقين وتدافع السنوات بتعبها وخيباتها. هل تغير احمد فؤاد نجم؟ بالكاد. زاد الشيب في شعره، واشتد الألم الذي يسكن جانبه الأيمن. لكنه ما زال كما عرفناه منذ اكثر من عشرين عاماً، مفرض الحساسية، مرهف الشعور، شديد الارتباط بالناس. ما زال يسهر حتى الصباح وينام بعض النهار. غضبه قليل، يبدو كأنه يلتمس العذر عما حل به. يبقى منزوياً في ظل الناس على الرغم من شهرته الواسعة، وما زال في جلبابه الابيض لم يعدل مظهره الخارجي سوى حقيبة تلازمه، فيها اوراقه وصورة ابنته زينب ونظارتاه. أحمد فؤاد نجم. اشعاره رددتها كل الافواه، ودواوينه تصفحتها اصابع لا تحصى، ونحن نعود اليها مثل ماء النيل لنغترف منها ثانية. عرفته يوم كان مرتبط بابراهيم اصلان ونبيل قاسم واحمد متولي ونبيه لطفي، ارتبط كلماته بصوت الشيخ امام. كان ذلك في شتاء 1972. رحلة طويلة يستعيد بعض محطاتها في مذكراته التي بعنوان "الفاجومي". ليس مثل "الفاجومي" أي الجلف والذي يجاهر بموقفه دون تردد لقباً ينطبق على هذا الشاعر الذي أمضى عاماً كاملاً في السجن بسبب قصيدة القاها في جامعة عين شمس. "هنا شقلبان محطة اذاعة حلاوة زمان من القاهرة ومن كردفان ومن اي دار او بلد مستباحة بعفل السياحة مع الامريكان هنا شقلبان". في الاوساط الجامعية كما العمالية، كانت اشعاره تقيم الدنيا ولا تقعدها. ولم تكن زنزانات القلعة وابو زعبل والقناطر وسجن طنطا وسجن شبين والاستئناف لتقف بوجه نجم او تحد من انطلاقة "العصفور"... ولكن، "اما آن للقلب الجريح ان يستريح؟". - "من ايه ياعم؟ الاسم صابرع البلا ايوب حمار شيل الحمول من قسمتي والانتظار اغرق في انهار العرق طول النهار ولم وهمي في المسا وأرقد عليه عرفت ليه؟!". إضافات احمد فؤاد نجم الى الشعر العامي المصري، دفعت الكثير من الباحثين وعلى رأسهم الدكتور احمد ابو زيد استاذ علم الاجتماع، الى الانكباب على ذلك الانتاج الغزير والمميز بغية اكتشاف مكنوناته. هناك اسرار في تعاطي نجم مع اللهجة المحكية، لا بد من كشفها. هناك معادلات سحرية ينطلق منها الشاعر ليغرف من التراث الشفوي مفجراً عبقرية اللغة، شاحناً القول بكلمات عفوية معجونة بالطين والدم والعرق. عزاء السنوات العجاف اين احمد فؤاد نجم اليوم؟ - انا الآن مع زينب. عام 1973 عندما ولدت نوارة الانتصار اعتبرتها مكافأة تشجعية من مصر في عز فترة النضال. والآن اشعر ان زينب هي عزاء السنوات العجاف، او لنقل مكافأة "نهاية الخدمة". انا الآن متفرغ لزينب متفرغ للمكافأة، ولكن هذا لا يمنعني من ممارسة الابداع. بل ان مجيء زينب، جعلتني اكثر خصوبة كتبت مسرحية "شحتوت العظيم"، ومسرحية "لولي"، والجزئين الاول والثاني من "الفاجومي"، وبعض الاغاني التي "رشتها" على سوق الكاسيت. لكن اين انت من السنوات الذهبية، سنوات النضال والشعبية الواسعة؟ - الأيام تغيرت. والفرق بين المناخات الثقافية والسياسة والفنية في السبعينات والمناخات نفسها في التسعينات، يختصر كل المغيرات التي طرأت على الحياة المصرية والعربية. ان مصر الامس لا علاقة لها بمصر الراهنة، وانا هنا اتحدث عن تغيير الادوات بالنسبة الي. في السبعينات مثلاً كان هناك الشيخ امام، اما الآن فهو غير موجود. هل يدفعني ذلك الى الكف عن الابداع؟! وعلاوة على ذلك، اعتقد ان الشكل الفني الذي كان موجوداً في السبعينات، لم يعد ممكناً ولم يبق له من مكان. فكل عصر له لغته وادواته. وكما اننا تغيرنا، فقد تغيرت الحكومة، بأساليبها وتوجهاتها، اي ان المعادلة كلها تغيرت عما كانت عليه في السبعينات، وهذا لم يحدث في مصر فقط بل في العالم اجمع. واتذكر الآن قولاً للمحامي والصديق العزيز الاستاذ احمد نبيل الهلالي. صرح لي مرة في سجن ابو زعبل عام 1977 انه "لا يمكن تصور العالم من دون الاتحاد السوفياتي"! الآن لم يعد هناك شيء اسمه الاتحاد السوفياتي، بل ان امكانات وسلاح الطبقة العاملة في الاتحاد السوفياتي "سابقاً"، توجه الآن الى صدور الشعوب المقهورة وأكبر مثال على هذا ما يحدث في البوسنة والهرسك. كما ان بعض الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي، تعاني الآن من جبروت القوة العسكرية الروسية التي اسسها وانشأها "حزب لينين" للدفاع عن الشعوب المقهورة والمظلومة. "مش دي تبقى فزورة"؟ انتظر الضجة الأكبر انها "فزورة" النظام العالمي الجديد: وهناك من يعتبر انه لا من التكيف مع معطياته الجديدة. - ما معنى "النظام العالمي الجديد"؟ اتمنى ان اجد من يشرح لي ما هو النظام العالمي الجديد. واعتقد ان لا احد يملك تحديداً لهذا المفهوم الغامض الملتبس، ولا حتى اعتى رجال السياسة. وما دام هذا النظام غير العالم كما يزعمون، فلماذا لا اغير ادواتي؟ لماذا لا اسمي نفسي "أبو النجوم العالمية الجديدة"؟ وهذا معناه من وجهة نظري الابداع في كل اتجاه "زي المدفع الرشاش". خذ على سبيل المثال الضجة التي احدثتها مذكراتي الصادرة اخيراً بعنوان "الفاجومي" وانتظروا الضجة الأكبر عندما تشاهدون مسرحية "عجايب" وبعدها "لولي"... و"ابقوا قولولي". تركت الشعر للمسرح إذاً؟ - لا بد ان نفهم ان البقاء للدراما وليس للقصيدة الفردية. انا ادركت هذا الامر اخيراً وقررت ان اتجه الى شكل التعبير هذا، لكن افكاري ومواقفي لم تتغير. الذي تغير فقط هو الشكل او الاطار الفني الذي اقدم من خلاله وجهة نظري في الحياة. وانا انسان قابل للتعليم، لأني مؤمن بالمقولة الشعبية العبقرية التي تقول "يموت المعلم ولا يتعلم". لكن كيف اكتشفت الدراما؟ وما الذي قادك الى اختيار هذا الاطار الفني الجديد؟ - هناك بعض المخرجين والفنانين الاصدقاء الذين ايقظوا حساسيتي. أذكر مثلاً ناجي كامل، مراد منير، أحمد عبدالجليل، محمد فاضل. كل واحد منهم اضاف شيئاً الى تجربتي، وسلط لي الضوء على جانب من جوانب الدراما. وهذا ما جعلني اتجرأ على خوض تجربة الكتابة للمسرح الغنائي، وربما استطعنا مع مجموعة الفنانين المتحمسين ان نكمل مسيرة فنان الشعب الخالد سيد درويش. كيف ينظر احمد فؤاد نجم الى النقاشات المسيطرة اليوم على الساحة الثقافية المصرية؟ مسألة "التطبيع الثقافي" مع اسرائيل مثلاً؟ - ما زالت المواجهة نفسها قائمة على ما اعتقد. والقائلون بالتطبيع الثقافي لم يكن لهم موقف آخر منذ البداية. لم أفاجأ مثلاً بزيارة علي سالم الى اسرائيل، لأني اعرف من هو علي سالم جيداً منذ العام 1967، عندما جاءني في الغورية ومعه مسرحية "عفاريت مصر الجديدة"، وأخذ يقرأها ... لم آخذه على محمل الجد، ولم تمش علي "الاونطة". كان الرجل واضحاً، هناك اناس سيماؤهم على وجوههم مهما حالوا ان يخفوا. اين الغرابة في ان يزور على سالم اسرائيل؟ الكل يذكر موقفه المعادي لانتفاضة الطلاب عام 1972. اسأل ابراهيم منصور عن موقف علي سالم واصراره على رفض توقيع البيان الذي يطالب المصريين آنذاك جريمة أكبر، بعشرات المرات، من جريمة سفره الى اسرائيل. وماذا عن ظاهرة سيد حجاب مثلاً؟ - سيد حجاب اتخذ طريق الكتابة للمسلسلات، وانا رأيي انه كان موفقاً في الكثير منها، حتى انه اضاف الى الدراما قيمة فنية عالية وهذا يكفيه. وعندما يتجه الى الكاسيت ويكتب الاغاني، اظنه يفعل كي يعيش. وهذا لا يمنع ان اغلب الاغاني التي كتبها سيد حجاب ووزعت على اشرطة الكاسيت لا بأس بها. الاستاذ "كومبيوتر"! ما دام الحديث عن الاغنية، فما رأيك بالوضع الراهن للأغنية المصرية؟ - ان حالة "الخبلان" الغنائي الموجودة الآن لدى لمطربين في مصر، ومن جاء يحذو حذوهم من البلاد العربية، اعتقد ان المسؤول عنها اولاً واخيراً هو اللواء الدكتور محمد عبدالوهاب الذي صمم على الفتك بتجربة سيد درويش في المسرح الغنائي. هكذا اتجه الى الاغنية الفردية "للي تجيب فلوس كتير"، والتي حولته الى مركز سلطة. وليته قدم في مجال الاغنية الفردية ابداعاً مصرياً خالصاً على الاقل. لكن عبدالوهاب قام للأسف بعملية "سطو" مهولة على الموسيقى الغربية، ولفقها وقدمها على انها اغان مصرية. وجاء اليوم من يأخذ بثأر مصر وثأر سيد درويش من اللواء الدكتور عبدالوهاب، عبر مزيد من الابتذال. ولعل ظاهرة الانحطاط هذه في الغناء هي ابنة الانفتاح، ولا تستبعد انها التي انجبت النظام العالمي الجديد "ما هو كله اتلخبط على كله وان قلت ما فيش اللي تقوله". لا تتعرف على نفسك في اي من كتاب الاغنية الشباب؟ - كتاب الاغنية الشباب الحاضرون اليوم في الميدان، بينهم ثلاثة او اربعة جيدون. أذكر على سبيل المثال لا الحصر ابراهيم عبدالفتاح ومدحت العدل. وانا الآن لا اتذكر الباقين، "علشان ما حدش يزعل". وماذا عن الملحنين؟ - ليس هناك تلحين في مصر الآن، واعظم ملحن هو الموسيقار العالمي الجديد الاستاذ "كومبيوتر" استثنى طبعاً من هذا الكلام الفنان عمار الشريعي. فهو الباقي من رائحة الحبايب. اما عن التوزيع الموسيقى، فهناك الموزع امير عبدالمجيد وياسر عبدالرحمن. وهل وضع المسرح المصري أفضل من الأغنية؟ - أين المسرح المصري اساساً؟ هناك تجارب عائمة في الفراغ، اما المسرح فحالة متجذرة متواصلة قائمة على الاستمرارية. وربما كنت اتكلم بجرأة "الجاهل" عن مسرحيتي "عجايب" واقول انها مسرح غنائي حقيقي، او عودة الى الاوبريت الشعبي. لكن وبعد ان تنتهي "عجائب" سنعود الى الموت مرة اخرى. هل تستطيع ان تخبرني اين المسرح المصري اذاً؟ وماذا عن حقوق الانسان التي طالما ناضلت بالأمس في سبيلها؟ - انا مع حقوق الانسان حتى في اسرائيل"، وليس في مصر فقط. فلو جرى احترامها كما ينبغي هناك، لاختفت المعتقلات الاسرائيلية المليئة بالمناضلين الفلسطينيين. حقوق الانسان تعني اول ما تعنيه ان تفرغ السجون من المعتقلين بسبب آرائهم ومواقفهم ومعتقداتهم. اما الواقع المصري اليوم، فانظر اليه من خلال قانون الطوارئ الذي يفرض على الناس الجوع والخضوع فالانسان المصري مهان اليوم في كل شيء في انسانيته ومسكنه ومواصلته والمستشفيات وامام شاشة التلفزيون والجمعيات الاستهلاكية وافران الخبز ... هل هناك اهانات اخرى؟ ولهذا توقفت عن مواصلة نشر مذكراتك؟ - لو ان عادل حمودة "استرجل" معي، واستمر في نشر مذكرات "الفاجومي" بأمانة وشرف، لما انقطعت هكذا. لوكن ماذا تقول؟ على العموم انا اخوض في الجزء الثالث، وهو الجزء الساخن الذي تبدأ احداثه مع دخولي المعتقل عام 1968، وسافرغ منه عما قريب. هل تتابع النقاش الدائر عن "الشرق أوسطية"؟ - انا مع رفع كل القيود التي تحد من حرية الانسان في الانتقال والسفر من والى اي مكان في العالم. اما الغنائم التي ستأتي من وراء السوق الشرق اوسطية هذه، فأنا متأكد اننا سنسمع عنها ولا نراها. لماذا نناقش اذاً امراً ليس لنا فيه شيء؟ علمنا ان لديك مشاريع سينمائية... - الصديق والفنان الكبير محسن زايد، هو صاحب فكرة تحويل مذكراتي الى فيلم سينمائي، وقد اتم السيناريو بالفعل، وعنوانه "الفاجومي 67". والحقيقة ان محسن بسلوكه هذا منحني شرفاً لا أعلم اذا كنت استحقه. اما عن المشروع الثاني فسيكون فيلما بعنوان "البتاع"، واستقر الأمر على ان يقوم الفنان احمد زكي ببطولة الفاجومي، بعد ان قابلته برفقة محسن زايد. وأسعدني كثيراً ان يقوم أحمد زكي ببطولة الفيلم الذي سيخرجه محمد ابو سيف.