اذا كان صندوق النقد الدولي يشدد من ضغوطه على مصر لتنفيذ توصياته الاصلاحية وأهمها خفض قيمة الجنيه المصري، كشرط اساسي للموافقة على شطب خمسة مليارات دولار من ديون مصر، فان المسؤولين المصريين مطمئنون الى تحقيق هدفهم "بطريقتهم الخاصة لا بطريقة صندوق النقد الدولي". ويبدو ان طريقتهم الخاصة تعتمد على الاسلوب السياسي الذي يتجاوز الاسلوب المالي والاقتصادي الذي يعتمده عادة صندوق النقد الدولي مع الدول الاعضاء، وسبق لمصر ان اعفيت من تسديد قسطين من ديونها بموجب صفقة عقدتها عام 1991 مع دائني نادي باريس، وعلى رغم انزعاج صندوق النقد الدولي من بطء الاصلاحات الاقتصادية وخطة التحول الى اقتصاد السوق، الاّ أنه منح مصر "شهادة رضى". ومن الطبيعي ان تعتمد مصر على الطريقة ذاتها للحصول على شطب الخمسة مليارات دولار من ديونها. غير ان ذلك لا يمنع خبراء الصندوق من التنبيه اذا لم تخفض مصر قيمة الجنيه بنسبة تراوح بين 20 و25 في المئة، اذ يرى هؤلاء ان اسعار صرف الجنيه مبالغ فيها كثيراً، بمعنى أنها تساوي متوسط اسعار عوامل الانتاج المحلية بمتوسط اسعار عوامل الانتاج الاجنبية، على رغم اختلاف الانتاجية بين هذه العوامل، الامر الذي لا يسمح لقوى السوق بأن تعمل عملها في النظام الاقتصادي، ما يؤدي الى ضياع القدرة التنافسية في الاسواق العالمية، كما انها تحد من التصدير وتشجع على الاستيراد وتزيد العجز في الميزان التجاري، الامر الذي يتطلب تعديل سعر صرف الجنيه بما يسمح بإبراز الكلفة الحقيقية للسلع والخدمات. ورأى خبير استند الى دراسة أعدها صندوق النقد الدولي في آب أغسطس الماضي، ان خفض قيمة العملة ضروري، ذلك ان مصر تصدر حالياً، اذا استثنينا النفط، اقل مما كانت تصدر قبل عشر سنوات بالارقام الفعلية، وهذه حالة فريدة. ولاحظ ان قدرة مصر على التنافس تراجعت منذ 1991 بنسبة تراوح بين 25 و40 في المئة وفقاً للسلع. ولا يزال الفرق في نسبة التضخم مع الدول المتطورة كبيراً على رغم تراجعه، وهو بلغ 3.9 في المئة مع الولاياتالمتحدة. وأضاف "إن مساهمة الصادرات غير النفطية في الناتج المحلي الاجمالي تشكل اكثر بقليل من اربعة في المئة، في حين كانت تبلغ ستة في المئة في السنة المالية 93 - 94". وكان صندوق النقد الدولي توقع عام 1991 ان تصل الصادرات المصرية الى 2.98 مليار دولار للسنة المالية 1993 - 1994، لكنها لم تتجاوز 1.61 مليار دولار، أي أقل من القيمة التي وصلت اليها قبل بدء الاصلاحات في 1990 - 1991 اذ كانت 1.98 مليار دولار. كما ان القيمة الاسمية للصادرات غير النفطية تراجعت بنسبة 21 في المئة منذ ثلاث سنوات وهي نسبة الارتفاع ذاتها التي سجلتها العملة المصرية. واوضح الخبير ان القيمة الفعلية للجنيه المصري ارتفعت منذ سنة بنسبة 3.5 في المئة ازاء الدولار الاميركي و21.6 في المئة بين حزيران يونيو 1991 وحزيران 1994. ويساوي الدولار الاميركي حالياً 3.39 جنيهات مصرية. وعزا ذلك الى ارتفاع القيمة الفعلية لنسب الفائدة القيمة الاسمية بعد حسم نسبة التضخم التي وصلت في تموز يوليو الماضي الى أربعة في المئة لثلاثة اشهر في مقابل 2.8 في المئة في تموز 1993. واشار الى أن نسب الفائدة لم تصل الى هذا الحد المرتفع قبل الآن وهي تعرقل الاقتصاد الفعلي. وفي مجال رفض المصريين لطلب صندوق النقد الدولي يعرضون نتائج الاصلاحات الاقتصادية التي تمكنت مصر من تحقيقها خلال السنوات الثلاث الاخيرة، ففي عام 1990 كانت مصر شبه مفلسة، وأفلحت في خفض معدلات التضخم بنسبة الثلث وايصالها الى أقل من 7 في المئة. واكد محمود محمد محمود وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية ان الاقتصاد المصري شهد تحسناً عام 1994، وتوقع ان يحقق الناتج المحلي الاجمالي نمواً بنسبة 4.5 في المئة في مقابل 3.6 في المئة في العام المالي 1993 - 1994، وذلك بما يفوق تقديرات سابقة بنسبة 3.3 في المئة، مع العلم ان نمو الناتج المحلي في العام المالي 1992 - 1993 بلغ 2.5 في المئة. وأوضح الوزير محمود: "ان اجمالي العجز الكلي للموازنة العامة انخفض في العام المالي 1993 - 1994 الى 6.4 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي بينما انخفض العجز الصافي الى واحد في المئة". اضافة الى ذلك استطاعت مصر توفير الاستقرار لسعر صرف الجنيه في حدود 3.3 جنيه في مقابل الدولار الاميركي على مدى السنوات الثلاث، وجعلت اسعار الفائدة الحقيقية ايجابية عام 1992 وذلك للمرة الاولى منذ سنوات طويلة. وتثمن الحكومة هذا الاستتباب على اعتبار انه من منجزاتها مهارة التصدير ويقول المسؤولون المصريون ان الفائدة التي تعود على التنافسية التصديرية من خفض قيمة الجنيه المصري لن تكون كافية لتعوض ما يهدد الثقة ويزعزعها. وفي رأيهم ان ما يعرقل نمو الصادرات اكثر من سعر صرف الجنيه المصري هو التخلف النسبي الذي تعانيه الشركات المصرية في الخبرة التصديرية، ويقول السيد يوسف بطرس غالي، وزير التعاون الدولي: "ان سياستنا الاقتصادية كلها تميل نحو افادة القطاع التجاري، لكني أؤمن ايماناً عميقاً بأن مسألة التنافسية تكمن في المهارة التقنية التي يمتلكها او يفتقدها المصدرون المصريون - وهذه المهارة هي ما يجب علينا ان نهتم به". ويرفض البنك المركزي المصري طلب صندوق النقد الدولي بخفض سعر الجنيه، وقال نائب محافظ البنك محمد البربري: "ان هذا الطلب لا يحقق اي مصلحة للاقتصاد المصري، فطبقاً لبرنامج تحرير الاقتصاد اوصى صندوق النقد بتحرير أسعار الصرف وتمت هذه السياسة بنجاح كبير وأدت الى استقرار سعر الصرف بصورة واضحة. والقول بالتدخل لخفض سعر صرف الجنيه الآن معناه العودة مرة أخرى الى التحكم الاداري في اسعار الصرف، وهو امر غير معقول بعد ان تأكد نجاح مسيرة الاصلاح الاقتصادي". وأشار البربري الى أن مثل هذه الخطوة ستؤدي الى ارتفاع ثمن الواردات من 11 بليون دولار الى 15 بليون دولار، وارتفاع العجز في الميزان التجاري الى 11.5 بليون دولار عوض 7.5 بليون دولار حالياً، كما انه سيحول الفائض في ميزان المدفوعات المتحقق حالياً بنحو 2.8 مليون دولار الى عجز يتجاوز 2.2 بليون دولار ما سيؤدي الى رفع التضخم الى أكثر من 15 في المئة على الاقل. اما الموضوع الثاني الذي ينتقده صندوق النقد في مصر، فيكمن في بطء تنفيذ خطة "الخصخصة". ففي عام 1991 تعهدت مصر للبنك الدولي بتحويل عدد من الشركات العامة الى القطاع الخاص وشمل هذا التعهد تحويل 25 شركة او اصول شركات الى القطاع الخاص كل سنة وذلك على مدى خمس سنوات، إلاّ أن ثلاث شركات فقط بيعت، وهي مصنعان لتعبئة "بيبسي كولا" و"كوكا كولا" لمستثمرين عرب بقيمة 140 مليون دولار، وشركة منتجات كهربائية ميكانيكية "نصر بويلرز" للمجموعة السويسرية الاسوجية "اي. بي. بي" بقيمة 17 مليون دولار. وفي ما يتعلق بالقطاع السياحي ادى العنف الذي بدأ عام 1992 الى شل عملية بيع الفنادق الكبرى، فيما نجحت عملية بيع اسهم من شركة الاسمنت "العامرية" ومن مصانع الدهان والمواد الكيميائية. وكانت مصر أنجزت رسمياً عملية تقويم 220 شركة تابعة للقطاع العام من الشركات ال 314 التي اعتبر ان من الممكن تحويلها الى القطاع الخاص. وقدرت قيمة اصولها ب 30 مليار دولار، وتشير وسائل الاعلام الرسمية الى أن 10 في المئة من هذه الشركات معروضة للبيع. وخلافاً لما يشيعه خبراء صندوق النقد الدولي، اكد عاطف عبيد وزير قطاع الاعمال ان الحكومة تعتزم الاسراع ببرنامج التخصيص وبيع اصول تابعة للدولة تصل قيمتها الى 3.2 مليار جنيه 940 مليون دولار، مشيراً الى أن الحكومة تجاوزت اهداف التخصيص للفترة التي انتهت في آذار مارس الماضي وباعت اصولاً قيمتها 3.5 مليار جنيه 1.03 مليار دولار وعرضت للبيع اصولاً قيمتها 6.2 مليار جنيه 1.83 مليار دولار. ورفض الوزير عبيد طلب صندوق النقد الدولي خفض قيمة الجنيه، وقال: "ان اي انخفاض في قيمة الجنيه سيزعزع ثقة المستثمرين في الاقتصاد المصري في الوقت الذي تتهيأ فيه مصر لجني ثمار التخصيص وتحرير التجارة والسيطرة على موازنتها".