قلت لنفسي والسيارة "تخب" في بطن ذلك المنخفض الواسع: - هنا ... عاش عنترة العبسي، ومر زهير بن أبي سلمى وابنه كعب والحطيئة وعروة بن الورد... هنا احداث اكثرة سجلت وقائعها وانفلتت في رمال الذكريات. واينما وليت بصرك في المكان تغشته رؤية الماضي: قبائل تجفو قبائل وصليل اسياف ينادي الدماء، وحمحمة خيل بين كر وفر حتى غروب الموت مع شمس النهار الذاهبة الليل لم يك افضل حالاً، لأن المخاوف تسكن الصدور التي تنام على رؤى قانية، والصغار يرضعون من اثداء المغامرات. كانت سرعة القبائل الجاهلية هي الاغارة والقتل والسبي، ولم يكن ليضيء هذا القتام ما كان ينتشر احياناً عن أريحية شخص بعينه او شجاعة اخر او ذكاء قلب آخرين. كنت اما تقتل او تقتل، فليس هناك حل وسط او خيار او بين بين. في الموضوع الذي توقفت فيه السيارة، خلت انني عدت مئات القرون والخيام المهترئة بفعل الريح تملأ جنبات الوادي والرعاة ينطلقون خلف شياههم، والصبايا يردن الماء. كما خلت انني غريب عن الذمار. فهل كنت استطيع ان اتجاوز حدود ظلي؟ أفقت من "ذلك" الزمن على صوت سائق السيارة وهو يقول لي: وصلنا الامارة... وكانت اللافتة في القلب تماماً من السور الممتد: امارة قصيباء... وما هي الافترة حتى كنت اصافح امير البلدة: فهد آل راضي الذي رحب بنا وبالمجلة بالطبع، وأصر على اعادة جزء من المفاهيم القديمة لعرب البوادي: الكرم الفضفاض الذي يترك في النفس انطباعاً جيداً قد يمحو قسوة الصحراء المعلنة. قال لي: نعم... هذه قصيباء الحديثة، اما الاخرى فهي على بعد كليومترات قليلة من هنا. ثم قال لي: ان البلدة القديمة مبنية على اطلال القرية التي سبقتها وهو ما يعني ان المكان لم يتغير. ولكن الجدران والناس ومفاهيم كل زمن هي التي تغيرت. قلت له: اليست قصيباء هذه هي "قو" التي وردت في اشعار عنترة والحطيئة وطرفة بن العبد وعمرو بن شأس الأسدي... قال: نعم ... ودعاني الى قراءة بعض "الأضابير" القديمة - ولكنها هنا "لا تعلوها الاتربة". ومنها ذكر مجلس الامير الراحل راضي الراضي وفيه كان اجتماع طائفة من اعيان اهل البلد لدى الامير بعد صلاة الجمعة، حيث يتناولون القهوة ويتبادلون الاخبار، وقال محمد بن ناصر العبودي انه سمع في هذا المجلس ان قصيباً لا تعرف بهذا الاسم في القديم بل كان إسمها "جو" بجيم وواو مشددة، وكانت بالفعل جواً تقطنه البادية في القيظ وترده في الفصول الاخرى، وكان سكانه من الحضر قليلاً، ومن اقدم ما فيه محله اسمها البليدة وكان لأهلها راع فذهب بغنمه الى موضع المكان المسمى "الثومة" فرأى نبتة من نبات البردي الذي هو في الحقيقة قصب، ولم يكن رأي مثلها في تلك المنطقة، ولا هي من النبات المألوف له، فاقتلعها، واحضرها معه الى البليدة في تلك المنطقة وقال لأهلها: انظروا الى هذه القصيبة الغريبة. وكان منهم اناس من كبار السن يعرفون ان مثل هذا النبات لا ينبت الا في المكان الذي يكون فيه ماء دائم، فذهبوا معه الى حيث وجدها، وكانوا يقولون: لنذهب كي نرى القصيبة، ثم حفروا مكان "القصيبة" هذه فوجدوا عيناً فأساحوها، وسموا مكانه القصيبة، ثم بعد فترة نسيت التسمية الاولى وأصبح اسم القصيبة ثم قصيبا على البطن كله، وعندما ساحت العيون المذكورة كثرت المياه والمستنقعات. ويقول العبودي: رأيي ان اسم قصيبا القديم كان "قوا" الا ان العامة الذين جاؤوا بعد عرب صدر الاسلام اصبحوا لا يفهمون معني كلمة "قو" فحولوها مع الزمن الى كلمة "جو" ثم غلب اسم القصيبة الذي كان اسم ماء في قو على اسم قصيبا كلها فأصبح هو اسمها. والدليل على ان اسم قصيبا كان في القديم "قوا" انها بطن منخفض واسع لافت للنظر في ناحية ذكر الاقدمين فيها اكثر المواضع الموجودة فيه وسموها باسمائها. وعدت الى بعد المصادر القديمة الذي يجمع على ان المنطقة سكنها بنو اسد وبنو عبس، وجاء ذكرها في أشعارها، مثلما سكن قريباً منها - كما يقول البكري زهير بن ابي سلمى وابناء كعب وخداش. وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان: قو: بالفتح ثم التشديد، مرتجل في ما احسب وهو منزل للقاصد الى المدينة من البصرة، يرحل من النباح فينزل قواً: وهو واد يقطع الطريق تدخله المياه ولا تخرج وعليه قنطرة يعبر القفول عليها يقال لها: بطن قو". وأرد الامام اللغوي ابن فارس بيتين من الرجز ورد فيها ذكر "قو"منطبقاً تمام الانطباق على ما هو معروف عن قصيبا الآن وهما قول الراجز: صبحن "قوا" والحمام واقع وماء قو مالح وناقع فذكر ان ماء "قو" مالح، اي ملح: في الافصح وانه ناقع اي مجتمع على هيئة نقاع .. وهذا هو الواقع بالنسبة الى الماء الذي يجتمع في صبخة قصيبا ويبقى فيها شهوراً، وهو يتفق مع ما ذكره الامام الحربي عن حالة "قو" والذي ذكر ان حاج البصرة الى المدينةالمنورة يمر به بعد النباح وقيل اثال وانه قد وضعت عليه قنطرة يعبر عليها الناس. وأثال ماء لبني عبس، شرق قصيبا وكان الحجاج يميلون عن الاتجاه الطبيعي بسبب تجنبهم للشرفة التي هي ارض وعرة وليمروا بالعيون - عيون الجواء - التي فيها مياه ونخيل، ومنها الى الفوارة بستة اميال عشرة كيلومترات يعرض لهم جبل قطن على يمينهم ثم من وادي الرمة الى النقرة حيث يلتقون بحاج الكوفة ولكنهم من النقرة يذهبون الى بطن نخيل التي هي الحناكية ومنها الى الشفرة فالطرف التي هي الصويدرة في الوقت الحاضر ثم الى بئر السائب فالمدينةالمنورة. بين الاطلال وبعد قليل .... التقيت بعمدة قصيبا صالح محمد راضي، وكان في صبحته ابن عمه صالح سليمان آل راضي ويعمل مدرساً، لننطلق الى اطلال البلدة القديمة، وتقع شمال القصيم على بعد 74 كيلومتراً من مدينة بريدة في منخفض واضح فيه اماكن عدة مأهولة وعيون جارية وآبار ارتوازية وغير ارتوازية واشجار نخيل كثيرة والى شمال قصيبا القديمة تلك وادي أبو نخلة يأتي سيله من ساقية قصيبا احدثت فيه زراعة وحفرت فيه ابار ارتوازية تسيح مياهها من دون رافعة وفيه نخل، وفي الشمال ايضاً مزارع ونخيل الفرشة، ونخيل وآبار مجري وادي ابي عوشز. ويمتد المنخفض الذي تقع فيه البلدة من الجنوب الى الشمال بمسافة عشرين كيلومتراً وعرض خمسة كيلومترات ويشرف عليه من الغرب جبل مرتفع ومن الشرق ايضاً جبل اقل ارتفاعاً وفي بطن الوادي نجد التربة لينة فاذا سال الماء بقي فيها شهوراً عدة، وحتى بعد ان يجف الماء يبقى القاع زلقا يصعب مرور الدواب عليه، ونظراً الى كثرة المياه الراكدة والسائحة في قصيبا سواء تلك المتخلفة من الامطار، او التي تتجمع من آبارها، فقد كانت في ما سبق موضعاً لحمى الملاريا وكان الناس في القصيم يضربون المثل بحمى قصيبا كما كان العرب القدماء في الحجاز يضربون المثل بحمي خيبر، وكانوا يتجنبون المبيت بها ويقولون ان من بات بها ليلة واحدة فإنه لا بد ان يصاب بحمى قصيبا. جاء في كتاب "معجم بلدان القصين" ان من حكايات المتقدمين ان الاعراب كانوا ينزلون قرب قصيبا في فصل الصيف عندما يصيب الرطب فتأكل بناتهم ونساؤهم من تمرها فيدب فيهن النشاط ويأخذون بالرقص ويكون من قولهن اثناء الرقص: "تمرك يا قصيبا نفاع، والله لأدقك يا قاع" اي ان تمرك يا قصيبا مغذ نافع للجسم لذلك لا بد ان ادق قاع الارض بقدمي اثناء الرقص دقاً. وبدأنا التجول داخل القرية المهجورة التي بنيت من الطين والصوب اللبن، وان كان بعض اساسات جدرانها من الحجر القوي، وكنا منذ قليل ولجنا احد الابواب او بقاياه فاذا بنا في ممر طويل قبل الدخول الى المنزل، ويبدو ان ذلك كان لغرض دفاعي حيث يستطيع ساكنو المنزل التعرف على القادم بسهولة اذا عبر الباب من دون استئذان، ومن "واقع" الجدران العالية يمكننا افتراض ان كثيراً من دور البلدة كان مكوناً من طابقين، وتتجاور البيوت بحميمية واضحة فيما نجد "الشوارع" ضيقة للغاية، بينما تنتشر الساحات بين كل مجموعة من البيوت، وتنتصف القرية قلعة عالية خالية من النوافذ وان كان فيها كثير من الثقوب التي تصلح "مربضاً" للبنادق او مكاناً وتستشكف مساحات واسعة من الاراضي خارج "حدود" القرية، وواضح ان هذا المفهوم العمراني كان متوارثاً لأن مثل هذه القلعة يعود الى أزمنة غابرة كانت فيها كل قبيلة تبنى قراها ولا تتصل بالآخرين الا من خلال دائرة المصالح المغلقة، وكانوا يعتبرونها الوطن الوحيد بالطبع، متكئين على ان السلامة لا تتوافر الا من خلال هذه الانغلاقية. ورغم السكون الذي يطبق على المكان بما يوحي بأن لا شيء حيا فيه، وبعيداً عن "شقاوة" العصافير التي تصل اصواتها الفرحة من النخيل الواقع خارج القرية، الا ان عين العمودية ان المشقوق وتقع في طرف القرية الجنوبي وداخل حدودها ما زالت "حية" وجارية وان كان عدم استغلال مياهها قد "نشر" الطحالب في قاع النبع الذي يؤكد مرافقي ان عمره موغل في القدم وانه من اسباب استيطان المكان على مر الاجيال، وقال "العمدة" انهم يسمعون ان البئر من الاجداد الذين سمعوا بخبرها من اجدادهم والبئر مبنية من الحجر وهو ما يؤكد حقيقة ان عمرها ضارب في القدم، لأن اسلوب الآبار المبنية قديم للغاية وقال "المدرس" ان اشتقاق اسم العمودية من انها تسير بشكل عمودي تحت القرية لتكون في متناول الجميع او ان القرية قد بنيت عليها على هذا الاساس، وان تسمية "المشقوق" الاخرى من ان النبع او البئر قد شق في الصخر وعلى امتداد القرية .... ما قاله الشعراء بعد وقت طال ... كنت استعد مع مرافقي للعودة الى دار الامارة، حينما تذكرت بعض ما قاله الشعراء الجاهليون ووجدت له معنى الآن، اعتماداً على التسمية القديمة "قو" .. والتي ذكرها عنترة العبسي قوله: كأن السرايا بين قو وقارة عصائب صير ينتحين لمشرب وما أنشده جرير: تباعد هذا الوصل اذ حل اهلنا بقو وحلت بطن عرق فعرعرا وما قاله الحطيئة: الى العير تحرى بين قو وضارج كما زال في الصبح الاشاء الحوامل ومثل قول طرفة بن العبد: لخولة بالاجزاع من اضم طلل وبالسفح من قو مقام ومحتمل وما قاله لبيد: فجنبي صوأر فنعاف قو خوالد ما تحدث بالزوال ومثل قول امرئ القيس: سمالك شوق بعدما كان اقصرا وحلت سليمى بطن قو فعرعرا