لم تعد "السينما العربية الجديدة" أسطورة تتحرّك في ضبابها حفنة من المخرجين الشباب يفتقرون الى النضج والتجربة والى معرفة الواقع، ولا مصطلحاً نقدياً فارغاً - ينطوي على كثير من الادعاء - يزيّن به النقاد وهواة السينما كتاباتهم ومناقشاتهم. فهذا التيار الذي يتسع لتجارب متناقضة أحياناً، يجمع بينها الانتماء الى زمن وقيم ومشاغل مغايرة، الى أساليب في قول الذات والتعبير عن العالم والانتماء الى العصر، تختلف عن الأساليب والمشاغل السائدة... هذا التيار هو اليوم أمر واقع، رسّخته تجارب الثمانينات، وأكدت حضوره. لكن كمية المصاعب والتحديات التي يواجهها مخرجو "الموجة الجديدة"، وهم ينتمون حكماً الى "سينما المؤلف، زادت وتضاعفت مع الزمن، ما يعكس عبثية الحياة الثقافية في العالم العربي، بقدر ما يمكن اعتباره ترجمة لأزمة شاملة لا تقتصر فقط على الجنوب. إنتهزت "الوسط" فرصة انعقاد "مهرجان السينما العربية" في باريس قبل أسابيع، لتجمع فوق صفحاتها آراء وشهادات ثمانية من أبرز ممثلي السينما العربية، هم حسب التسلسل الابجدي: فريدة بليزيد المغرب، نوري بوزيد تونس، مرزاق علواش الجزائر، برهان علويّة لبنان، رضوان الكاشف مصر، نبيل المالح سورية، رشيد مشهراوي فلسطين ويسري نصرالله مصر. مع هؤلاء تناولنا بعض القضايا الجمالية، بدءاً بموقع السيناريو من السينما الجديدة، والمكانة التي يحتلها الاثر الادبي في تجربة كل من هؤلاء السينمائيين. كما تطرق النقاش الى كيفية وصول الافلام العربية الجادة الى جمهورها، عبر الحواجز والحدود، وفي ضوء غياب البنى التحتية وشبكات التوزيع، وسياسات الدعم والتنمية، واهتمام الحكومات على اختلافها من جهة والمنتجين المستقلين من الجهة الأخرى. فمتى يتولّى العرب انتاج صورتهم بأنفسهم؟ والى أي مدى يصح ما يراه برهان علويّة من أننا "نخاف نحن العرب، عندما نشاهد صورتنا على الشاشة، فيخيّل الينا أننا نشاهد فيلماً خلاعيّاً!"؟ برهان علوية : لا مستقبل للسينما العربية ما دمنا نخاف صورتنا ونرفضها... اشتغلت دوماً على سيناريوهات أصلية، أي غير مقتبسة من أعمال أدبية. وبالتالي فمن الصعب عليّ الحديث عن تجارب الاقتباس الأدبي في السينما. وبرأيي ان تحويل العمل الأدبي الى سينما هو تحويله من قصة مكتوبة الى رؤى مصورة، وهذا يحتاج الى عمل كبير ومجهود خارق. فتحويل العمل الأدبي يقتضي منك ان تحول رؤى وأحاسيس وعوالم الآخرين، وأن تترجمها بالعمق المطلوب في أفلامك. وهذا أصعب من ان تترجم رؤاك وأحاسيسك الشخصية المأخوذة مباشرة من الواقع. أما بالنسبة الى كتابة السيناريو ذاتها، فقد كانت لي تجارب كتبت خلالها السيناريو بنفسي أو كتبه أشخاص آخرون لكنهم قريبون جداً مني. فسيناريو "بيروت - اللقاء" مثلاً كتبه أحمد بيضون. وأعتقد انه من الصعب على مخرج ان يتعامل مع سيناريو كتبه شخص لا يعرفه. فالعلاقة الشخصية بين المخرج والسيناريست ضرورية، مثلما هي ضرورية العلاقة الشخصية بين المخرج والممثل. فالسيناريست يضع في السيناريو عوالمه الخاصة، مكتوبة على الورق. فاذا لم تكن للمخرج علاقة حميمة بكاتبه، صعب عليه استيعاب ما هو بين الكلمات، وما هو غير قابل للوصف وليست له مدلولات محددة مكتوبة. ولا يمكن للمخرج ان يكتفي لتحقيق الفيلم بما هو مشار اليه بصورة مباشرة في السيناريو، بل عليه من خلال وراء ما مكتوب حبراً على ورق، أن ينفذ الى شخصية وعوالم الكاتب. ولهذا لا بد من وجود علاقة تواطؤ قوية بين الاثنين. وهناك تغييرات لا بد أن تطرأ على السيناريو، سواء كتبته بنفسي أو كتبه شخص آخر، اذ أقوم، على طاولة المونتاج، باعادة كتابة الفيلم. فالمونتاج برأيي ليس مجرد تركيب، وكلمة "توليف" التي نستعملها في اللغة العربية، لا تفي بالمعنى. هذه العملية التي تشكل الطور الحاسم في تشكل الفيلم، هي كتابة جديدة بالمعنى الفعلي للكلمة. وأهم لحظات تكوّن العمل السينمائي، تتم بالنسبة الي على طاولة المونتاج. والعمل على التفاصيل التقنية والجمالية الخفية، من النقلة بين اللقطات والمشاهد الى طبيعة الصوت ودوره... الخ، هو الذي يحدد زاوية الرؤية، وطريقة ظهور الممثلين، ومتى يجب ان تُقطع اللقطة، وأية لقطة تأتي بعدها، والوقت اللامرئي الذي يمر بين اللقطتين، وهو يدوم أقل من ثانية واحدة، لكن قيمة العمل السينمائي كلها تتوقف عليه... ويبقى ان السيناريو بالنسبة اليّ شيء أساسي. فمن بدون سيناريو أدرسه مسبقاً بدقة وأهضمه بكل تفاصيله، لا يمكن ان أشتغل. لست من الناس الذين يمكن ان يرتجلوا صوراً. مكانة السيناريو اذاً أساسية، لكن المخرج يبقى معزولاً ولا يمكنه الشروع في انجاز عمله ما لم يجد المنتج. وهناك سينمائيون عرب كثيرون لديهم سيناريوهات جاهزة، وهم مستعدون لانجازها منذ مدة طويلة، لكنهم لا يجدون المنتج الذي يتبناها. وليست هناك في نظري أزمة سيناريو حقيقية في السينما العربية، أو أنها أزمة لا تختلف عما هي عليه في أية سينما عبر العالم، ترتبط بالتوازن المطلوب بين الكم والنوع. وكلما ازدادت نسبة المثقفين والمبدعين المتحلقين حول حركة سينمائية ما، انعكس ذلك على نوعية الاعمال التي تنتجها هذه الحركة. وأعتقد ان السينما العربية اليوم غنية بنوعيتها لا بكمها. ووضع السينما العربية اليوم يختلف عما كانت عليه قبل عشرين سنة، فهذه السينما صار لها جمهورها، أو على الأقل ذلك ما يتضح من خلال الاقبال اللافت الذي تشهده اليوم مهرجانات السينما العربية. قبل عشرين سنة، كنا كاليتامى في المهرجانات. واليوم صار للسينما العربية جمهورها ونقادها، ولم يعد ينقصها سوى المنتج. وغياب المنتجين هو الذي يحول دون قيام صناعة سينما عربية حقيقية. المشكلة الأساسية، في رأيي، هي الانتاج. الموزع يسهل ايجاده، والمتفرج متوفر. والسينما العربية لها جمهورها، مع أن سوق الفيلم العربي قائم على الفوضى، وأفلامنا كلها مهدورة وحقوقنا مسروقة. واذا كانت الأفلام تصل الى جمهورها، فإن ذلك يحدث، في أحيان كثيرة، بما يشبه القنص! إذ تسمع مثلاً ان فيلمك شوهد على تلفزيون أبو ظبي، أو عُرض في تلفزيون الجزائر، ولا تعرف أبداً كيف حدث هذا ولماذا. ليست هناك أية قاعدة أو أية ضوابط. وبث الفيلم لا يعود علينا بأية حقوق. ولا نسمع بالقصة كلها الا بعد عرض الفيلم، وكأنه سلعة سائبة... ومشكلة الجمهور برأيي هي في هذه الفوضى. فالسينما العربية لها جمهورها، ولكن ليست هناك تقاليد تجعل متفرجي فيلمك يسمحون لك بأن تنجز فيلماً ثانياً. فأفلامنا تراها مئات الآلاف في العالم العربي، من دون أن يدرّ هذا الاقبال أية عائدات تسمح لنا بانجاز أعمال لاحقة... واليوم أكبر منتج للسينما في العالم كله هو التلفزيون. أما تلفزيوناتنا العربية، فلا تدفع حتى ثمن الأفلام التي تعرضها، فكيف بالاحرى حين يتعلّق الأمر بأنتاجها. التلفزيون بات اليوم أكبر مصنّع للصورة. والبلدان المتطورة، في أميركا وأوروبا واليابان، تنتج صورتها ولا تكتفي بالاستهلاك، لذلك فإن الشاشة الصغيرة تلعب دوراً مهمّاً على مستوى احياء الفن السابع. وهذا أبسط الامور في أي بلد يريد انتاج صورته بنفسه، ولا يكتفي باستهلاك الصورة التي ينتجها الآخرون عنه، الى حدّ الاستلاب. ربما كان في ذلك خسارة تجارية، لكن لا بد للتلفزيون في أي بلد أن يلعب هذا الدور، من أجل الذاكرة الجماعية، ومن أجل الأجيال المقبلة. ولا بد لنا نحن العرب أن ننتج صورتنا بأنفسنا، كي لا نعود أسرى الكليشيهات السائدة عنا في الغرب. والا، فان غيابنا عن هذا الميدان ستكون عواقبه وخيمة، اذ سنروح نشبه الصورة المتداولة التي يصنعها الآخرون... وأهمية السينما العربية الجديدة التي نحاول تأسيسها وتجذيرها، هي انها تصنع صورتنا، وتدخل الى تفاصيل الانسان العربي النفسية والمادية. واذا كان الجمهور العربي يقبل على مشاهدة أفلامنا بكثرة، فلأنها تريه صورته الحقيقية. فحين تذهب اليوم الى تونس أو المغرب، أو أي بلد عربي، وترى مدى اقبال الناس على مشاهدة الفيلم الوطني، تدرك مدى شوق المواطن العربي الى رؤية صورته على الشاشة. وأؤكد كثيراً على هذه المسألة، لانها ليست بسيطة أبداً. فحين يعود الطفل اللبناني من المدرسة ويقول لأمه إن المعلمة تتحدث باللغة المكسيكية، لأنه شاهد في التلفزيون المسلسلات المكسيكية تُعرض "مدبلجة" باللغة العربية الفصحى، فأعتقد ان هذه اللغة هي لغة المكسيك! فان هذه علامات خطيرة وعواقبها ستكون وخيمة. ومستقبل السينما العربية لا يمكن ان يُفصل عن مستقبل ومصير العالم العربي كله. فالسينما هي دليل على حضارة العالم الذي تنتمي اليه، وعلى علاقته بذاته وبحريته. وحين يصير العالم العربي فضاء يستطيع فيه الفرد العربي ان يعيش حريته، حينئذ تتطور ليس فقط السينما، ولكن أيضاً الزراعة والصناعة والسياحة، وكل شيء. وما لم يتحقق زمن الانسان العربي الحر، فعلى السينما السلام. نحن العرب عندما نشاهد صورتنا على الشاشة نخاف منها، أو يخيل إلينا أننا نرى فيلماً خلاعياً!! واذا نظرت الى قائمة الممنوعات في السينما العربية، تجد أنه ممنوع علينا أن نرى حياتنا كلها. ولهذا أقول: لا مستقبل للسينما العربية ما دام الانسان العربي يخاف من صورته ويرفضها. * آخر أفلامه مساهمة في شريط جماعي عن "حرب الخليج"، والجزء الذي يحمل توقيعه بعنوان: "في الليلة الظلماء يفتقد البدر" 1992. فريدة بليزيد: أزمة سينما أم أزمة توزيع؟ قبل ان اكون مخرجة، انا في الاصل كاتبة سيناريو، سبق لي ان كتبت سيناريوهات عديدة لمخرجين آخرين. وأعتقد ان المهمة تكون أسهل حين أكتب سيناريو لمخرج غيري، حيث ان التعاون المشترك بين الاثنين يسهل العمل كثيراً، في حين ان العبء هو أكبر حين أتولى وحدي كتابة السيناريو والاخراج في الوقت نفسه. ولكن يبقى ان هناك تفاصيل ومواضيع على درجة من الحميمية، ليس هناك من يمكنه تناولها أفضل من المخرج الذي يستحيل هنا "مؤلفاً". وفي هذه الحالة يصبح من الأفضل أن أقوم بالاخراج بنفسي، بدل اسناد المهمة الى مخرج آخر. لانني في نهاية الجهد لا أستطيع ان أوصل اليه روح الموضوع عبر سيناريو مكتوب على الورق، أو على الأقل لا يمكن ان أوصله بالحساسية نفسها والعمق ذاته. وهذه برأيي أهم السمات المميزة لما يعرف ب "سينما المخرج" أو "سينما المؤلف". وهذا يقودنا الى تناول مسألة الجمهور، المشاهد الذي تتوجه اليه سينما المؤلف. فالوضع على جانب من التعقيد بحيث تصعب الاحاطة بكل جوانبه وملابساته بدقة. وأعتقد ان المسؤولية هنا تقع بالدرجة الأولى على عاتق الموزعين. فالسينما العربية برهنت على انها تنجز أفلاماً ذات نوعية، بامكانها استقطاب الجمهور بالعدد المطلوب. ويمكن ان نذكر أمثلة عديدة لأفلام لقيت كثيراً من الرواج، لسبب بسيط هو كونها وجدت الموزع الذي يوصلها الى جمهورها. هل أن السينما عندنا هي في أزمة، أم أننا نعيش أزمة على مستوى التوزيع. في اعتقادي ان هناك نقصاً كبيراً في مجال توزيع الأفلام العربية. فعندنا في المغرب مثلاً، كانت السينما الوطنية حتى فترة قريبة لا تكاد تجد موزعين يوصلونها الى دور العرض بشكل جدي وحِرَفي. وقبل حوالي عامين، ظهر موزّع شاب تخصص في توزيع الأفلام الوطنية، فاستطاعت التجربة أن تبرهن في فترة قياسية، على الرغم من حداثتها، ان هناك جمهوراً فعلياً وهائلاً للسينما الوطنية. الآن وبفضل هذا الموزع، أصبح بوسعنا أن نقول إن افلامنا توزع بشكل جيد في المغرب. أما في بقية البلدان العربية، فان المشكلة تبقى مطروحة، حيث لا توجد أية أطر أو قنوات لعرض أفلامنا في البلاد العربية، عدا بعض المهرجانات... نحن نحلم بسينما عربية متطورة، ولكن للأسف يبقى هذا الحاجز المتمثل في غياب الموزع العربي. وأملنا كبير في ان تظهر تدريجاً قنوات لتوزيع وايصال الفيلم العربي الى جمهوره الواسع. وربما كان دعم الانتاج المشترك في قائمة المبادرات الايجابية المطلوبة. فحين يلتقي بلدان أو ثلاثة في انتاج مشترك، فان مشكلة التوزيع في هذه البلدان تحل بسهولة. ولو ان الاعمال المشتركة ذاتها تعاني من مشاكل لا حصر لها، لأن هذا الطرف أو ذاك من المنتجين المشتركين لا يبذل جهداً حقيقياً لتوزيع الفيلم والترويج له، أو يقوم بكل بساطة بالسطو على عائدات الفيلم... الخ. وأمام وضع كهذا، لا يمكننا الا ان نراهن على عامل الزمن. فعندما نكون بصدد انجاز عمل جديد، نضع نصب أعيننا الآفاق الممكنة أو المتوقعة لتوزيعه ووصوله الى الجمهور على المدى البعيد. صحيح اننا في بداياتنا السينمائية كنا نقلق كثيراً ونتأثر بكل العقبات التي تعترض توزيع أفلامنا، لكننا مع مرور الوقت بدأنا نتعود على واقع الحال هذا، ولم تعد هذه العقبات تدفعنا الى اليأس. فنحن في كل الحالات ننجز أعمالاً نعتقد انها نوعية، وهي بالتالي لن تضيع، فمصيرها ان تصل الى جمهورها اليوم أو غداً، أو بعد سنين طويلة، ما همّ... * فيلمها الروائي الاول: "أبواب السماء المفتوحة" 1988، وقّعت سيناريو "البحث عن زوج امرأتي" اخراج: محمد عبدالرحمن التازي - 1993. مرزاق علواش: فقدنا جمهورنا ويحاصرنا الانتاج المصري! في تجربتي كلها، اشتغلت دوماً على سيناريوهات كتبتها بنفسي. حتى سيناريو "الرجل الذي كان ينظر الى النوافذ"، على عكس ما أشيع من انه من تأليف رشيد بوجدرة، ربما لتشابه اجوائه مع "الحلزون العنيد"! كل سيناريوهات أفلامي كتبتها بنفسي، لأني اعتقد ان فترة كتابة السيناريو والحوار هي أهم مراحل العمل السينمائي، وأكثرها متعة أيضاً، حيث نطلق العنان بلا حدود لرغباتنا وأحلامنا السينمائية اثناء التأليف، رغم علمنا بأن أشياء كثيرة تسقط اثناء انجاز الفيلم، لسبب أو لآخر. متعتي الكبرى كسينمائي اذاً، أن أكتب سيناريوهات أفلامي. يروق لي كثيراً ان اشتغل على الحوارات والأفكار والشخصيات. ولم يحدث ان تعاملت مع كُتاب سيناريو، ربما لحرصي على استئثار بهذه المتعة لنفسي! وربما نظراً لطبيعة السينما التي أشتغل عليها. ولم يحدث كذلك ان فكرت في الاقتباس انطلاقاً من رواية أو عمل أدبي، لكن هذا لا يمنع انني لو عثرت غداً على أثر أدبي أحس انه قريب من أفكاري وأجواء أفلامي وطبيعة السينما التي أحب العمل عليها، فلا مانع لدي... وعلى الرغم من انتماء تجربتي الى سينما المؤلف، الا انه لا مانع لدي من العمل على سيناريوهات الآخرين، اذا وجدت كاتب السيناريو الذي يستجيب الى مواصفات السينما التي تناسبني. وهذا لم يتحقق حتى الآن في السيناريوهات التي اقترحت عليّ. فأنا مثلاً لست مخرجاً بوسعه ان ينجز أفلاماً عن الريف. أنا من المدينة، وابن حي شعبي، وأحب تصوير الحياة والبيئة التي نشأت فيها، حيث تجد في مجمل أفلامي اجواء وثقافة الاحياء الشعبية التي نشأت فيها... أما في ما يتعلق بالجمهور، فان الوضع يبدو لي درامياً. والمشكلة مطروحة علينا في الجزائر بحدّة، خصوصاً منذ بداية الثمانينات. ففي السابق، حين كانت الدولة تحتكر الانتاج والتوزيع السينمائي، وكنا نكتفي بانجاز أفلامنا، من دون ان تخطر لنا قضيّة الجمهور والتوزيع وغيرهما. فالمؤسسة التي كانت تنتج افلامنا المؤسسة الوطنية للصناعات السينمائية هي نفسها التي كانت تملك قاعات العرض كافة، وتتكفل بالتوزيع. وشيئاً فشيئاً، بدأت هذه المؤسسة تتفكك، فبيعت القاعات الى القطاع الخاص. وأنا لست ضد "خصخصة" قاعات العرض. لكن الطريقة التي تمت بها هذه العملية، جعلت القاعات تتدهور كثيراً، فلم يعد الجمهور يقبل على مشاهدة الأفلام كما في السابق. وتزامن ذلك، في بداية الثمانينات، مع ظهور الفيديو لدى الفئات الاجتماعية المتوسطة بشكل لافت، ثم جاءت القنوات التلفزيونية الفضائية الملتقطة عن طريق الهوائيات "البرابولية"، والتي سرعان ما انتشرت كالفطر على سطوح البيوت والعمارات. وجاء بعد ذلك عامل التوتر الأمني الذي لم يعد يشجع الناس على الخروج لمشاهدة الافلام... هكذا فقدت أفلامنا جمهورها تدريجاً. السؤال المطروح علينا اليوم بجدية يدور حول الطريقة التي يمكن ان نصل بها الى الناس. وبدأ يتضح لي هذا شيئاً فشيئاً من خلال تجربتي الخاصة. اذ لاحظت ان شريطي الأول "عمر قتلاتو" شوهد على نطاق واسع، ثم بدأت دائرة هذا الجمهور تضيق لاحقاً في أفلامي الاخرى. وأصبح الذين ألتقي بهم خلال الندوات والنقاشات العامة، يعبّرون لي عن أسفهم لعدم التمكّن من مشاهدة هذا أو ذاك من أعمالي. وفي أغلب الأحيان يسألونني: "هل ستعرض هذه الأفلام في التلفزيون كي تتسنّى لنا مشاهدتها؟!"... هذه مصاعب التوزيع في الجزائر ذاتها، أما في الخارج فانه لا توجد أية امكانية لتوزيع أفلامنا في بقية الاقطار العربية. وفي كل المهرجانات التي شاركنا فيها، كانت تقدم لنا حجج واهية، كصعوبة فهم اللهجة الجزائرية... الخ. بينما السبب الحقيقي هو انه في مصر، التي هي أهم سوق سينمائية عربية، هناك رفض مطلق لأفلام الأقطار العربية الأخرى، بدافع التعصب للانتاج المصري. والمشكلة لن تُحل سوى عندما يظهر موزعو سينما عرب يعتبرون ان التوزيع السينمائي تجارة و"بزنس"، كما في كل بلاد العالم. عندئذ لن تبقى هناك أية حواجز أو اعتبارات اخرى لدى الموزعين، سوى تحقيق أكبر قدر من المبيعات. وأنا بانتظار اليوم الذي يظهر فيه موزع عربي يحضر المهرجانات السينمائية، ويكون لديه من الحس الفني والتجاري ما يجعله - ككل موزعي السينما في العالم - يأتي للقائك، ويقول لك: أنا موزع سينما من مصر أو سورية أو الجزائر، شاهدت فيلمك وأريد توزيعه. لكن للأسف هذا الشخص لم ألتق به، ولا وجود له حتى الآن. وليس في ذهني، بصراحة، حل جاهز لهذه المعضلة. لكنني في ما يخص الجزائر على الأقل، أحرص على توزيع أفلامي بنفسي. وهذا ما سأفعله قريباً بالنسبة الى فيلمي الجديد "باب الواد - سيتي"، حيث انني سأوزعه بنفسي، على الأقل في القاعات التابعة للسينماتيك الجزائرية قرابة ثلاثين قاعة عبر مختلف المدن الجزائرية. ولكن هل سيأتي الجمهور، كما في السابق؟ لا أدري! غير انه ليس مؤكداً ان الجمهور عازف عن رؤية الأفلام الوطنية، بالدرجة التي نتصورها. ففي الأشهر الاخيرة، انجز فيلم جزائري من بطولة مطرب الراي عبدالرحمن جلطي اخراج جمال قزاز، ووزع في قاعات كثيرة، ولوحظ ان الجمهور بدأ يعود الى القاعات المذكورة، كما أن الحضور النسائي، على وجه الخصوص، كان لافتاً. أفلامنا لم تفقد جهورها تماماً اذاً، بل يكفي أن تجد من يوزعها... * آخر أفلامه "باب الواد - سيتي" 1994 رضوان الكاشف: بحثاً عن أسواق سينمائية جديدة أعتقد أن العلاقة حميمة بين الأدب والسينما. فالمصدر الذي يغني مشاعرنا وأحاسيسنا كمتلقين ومتذوقين لتجارب البشر، هو الرواية أو القصة القصيرة. ولهذا لا يمكننا أن ننكر علاقة الأدب بالسينما. ففي البداية كانت السينما ترجمة مباشرة للأدب، ثم حصل بعد ذلك تطور سمح بظهور القصة السينمائية المكتوبة خصيصاً للأفلام. ولكن هذا لم يلغ العلاقة بالأدب، فظلت هناك دوماً معالجات راقية جداً لأعمال أدبية كلاسيكية. وهي نقل مباشر لهذه الأعمال على الشاشة، ولكن بصيغ أو معادلات سينمائية. والشيء الجديد المهم الذي طرأ على علاقة الأدب بالسينما في السنوات الأخيرة، هو ظهور تجارب تستلهم روح الرواية، دون التعامل معها بشكل نصي حرفي، كما في السابق. ثم جاءت تجارب أخرى أحدث، تعمل على استلهام العوالم الروائية لأديب معين أو مجموعة من الأدباء في مشروع واحد. وهذه التجربة هي ما حاولت أن أخوضه في فيلمي: "ليه يا بنفسج؟"، الذي هو استلهام لروح وأجواء أدب الستينات، ليس فقط عندنا في البلاد العربية، بل أيضاً أدب فولكنر وشتاينبك، وغيرهما... وهذه العلاقة الجديدة بالأدب، أعتقد أن السينمائيين الشباب يميلون اليها لما توفّره من حرية. ففي نهاية الأمر، تبقى قيمة العمل الأدبي في النص المكتوب، أكبر مما هي عليه في المعادل السينمائي. فثلاثية نجيب محفوظ، مثلاً، تبقى أعظم من النصوص السينمائية المقتبسة منها... أما بالنسبة الى السيناريو، فأرى أنه الخطوة الأولى الضرورية لانجاز عمل جيد. حتى أنه معادلة طريفة سائدة عندنا في الأوساط السينمائية: "ورق" جيد أي سيناريو " اخراج رديء = فيلم مقبول. ولكن "ورق" رديء " اخراج عبقري = فيلم رديء. ذلك أن المخرج في نهاية المطاف لا يمكن أن يشتغل إلا انطلاقاً من مادة. ومادته هي السيناريو. كتابة سيناريو "ليه يا بنفسج" استغرقت منا أنا وسامي السيوي الذي اشترك معي في الكتابة، عامين كاملين. وأنا لا أريد أن أتوقف كثيراً عند تفاصيل يعطيها البعض أهمية مبالغ فيها، حين يصرّون على أن المخرج يجب أن يكتب سيناريوهات أفلامه بنفسه، والا نفى انتماءه الى "سينما المؤلف". لا مانع لديّ شخصياً من اشراك آخرين في كتابة السيناريو، وربما أقبل سيناريو كتبه شخص آخر، ولمَ لا؟ إذا كان يلتقي مع تجربتي، ويقترب من حساسيتي وذوقي، ويصب بشكل من الاشكال في التوجه الفكري الذي أنتمي اليه. فإذا أحسست أنك أمام نص جيد، يفتح شهيتك ويثري تجربتك، فكيف ترفضه بدعوى أنك تنتمي الى "سينما المؤلف"؟! أما مستقبل السينما العربية، فلا شك أنه مرتبط بمدى نجاحها في الوصول الى أسواق جديدة، للخروج من "الخنقة" التي تمر بها حالياً. وإذا استطاعت أفلامنا أن تعكس خصوصية واقعنا، وأن تحمل في الوقت ذاته النفَس الانساني الذي يجعلها تستقطب اهتمام الآخرين، وتجذبهم لمشاركتنا تجربتنا الحضارية - مثلما نشارك نحن التجارب الثقافية في أوروبا واليابان والأميركتين - فإن أسواقاً جديدة ستفتح أمامنا بالتأكيد. وهذا، برأيي، هو الحل البديل الوحيد للمعضلة الناتجة عن كسل الموزعين عندنا في العالم العربي. فالموزع العربي - إذا وُجِد - بمجرد أن يغطي تكاليفه أو يحقق بعض الأرباح القليلة، يتوقف عن التوزيع. وهو في أغلب الأحيان يعتمد على الأفكار الجاهزة المتداولة. عندنا في مصر، مثلاً، يكتفي الموزع بالسوق التقليدية الخليجية، والسوق الداخلية المصرية. لكننا نحن المخرجين، عندما نشارك في مهرجانات كثيرة عبر العالم، نلاحظ اقبالاً كبيراً على مشاهدة أفلامنا. وهذا يؤكد لنا أن السينما العربية بامكانها أن تصل الى أسواق جديدة. فمنطقتنا العربية لها أهمية بالغة في العالم، ونحن العرب أصبحنا نقلق الغرب كثيراً. ولهذا فإن الجمهور في البلدان الغربية لديه كثير من الفضول والرغبة في التعرّف علينا. ناهيك عن الجاليات العربية الهامة الموجودة في أوروبا وأميركا، والتي بإمكان أفلامنا أن تستقطب اهتمامها، إذا وجدت من يوزعها في هذه البلدان. وهذا السعي الى اكتساب أسواق جديدة، لا يتنافى مع رغبتنا في توسيع السوق الداخلية، بفتح دور عرض جديدة وتحسين التوزيع. وهذا ما نبحثه باستمرار في مصر، عبر الندوات التي نعقدها خصيصاً، أو عبر نقاشاتنا في الصحف وعلى هامش المهرجانات. * فيلمه الروائي الأوّل: "ليه يا بنفسج؟" 1992