ملف "عاصفة التسعينات" فتحت "الوسط" في الخريف الماضي، على امتداد سبع حلقات الاعداد 96 الى 102، ملفا من وحي الراهن الفكري والسياسي في العالم العربي. اذ استضافت ثلاثين مستشرقاً وباحثاً من ثماني دول غربية، بين ابرز المتخصصين في هذا المجال، كي يناقشوا ويشرحوا، كل على ضوء تجربته من موقعه الخاص، ظاهرة "الاصولية" وانعكاساتها على مستقبل العرب وعلى علاقتهم بالغرب والعالم عند عتبة القرن الجديد. آثار الملف، وما زال يثير على رغم مرور أشهر عدة على نشره، مجموعة من ردود الفعل التي دفعتنا الى اعادة طرح المسألة، من وجهة نظر عربية هذه المرة. وننشر تباعاً، ردود ومساهمات عدد من المفكرين العرب الذين يناقشون النظرة الاستشراقية احياناً، ويشرحون بدورهم الظاهرة التي اطلقنا عليها تسمية "عاصفة التسعينات". هناك التباس مصطلحي في الملف المهم الذي قدمته مجلة "الوسط" عن الاصولية والاستشراق. فمصطلحا "استشراق" و"اصولية" يعبران عن مفهومين صلبين يشيران الى نظامين معرفيين تراكمت حولهما آراء ونظرات مسبقة. فليس ثمة اصولية اسلامية، بل حركات اسلامية ناشطة سياسياً في عدد من البلدان الاسلامية، وتختلف في طرائقها وربما في اسسها الفكرية. هذا من جهة، ومن جهة اخرى ثمة باحثون غربيون متخصصون بمجالات مختلفة من الثقافة العربية - الاسلامية. اذا وضعنا كلمة "استشراق" ازاء تعبير "اصولية اسلامية" فإننا نثير بذلك المواجهة بين نظامين معرفيين متضادين. وواقع الامر هو ان الاستشراق مات، كما قيل قبل اكثر من عقد من الزمن، ولم يعد ثمة "مستشرقون" ينظمون المعرفة الغربية عن الشرق الذي لم يعد بدوره شرقاً واحداً، في النظرة الغربية، كما كان في القرن التاسع عشر. كان لبعض الدارسين الغربيين للعالمين العربي والاسلامي فضائل موضوعية، ففي الوقت الذي كانت النخب الوطنية مشغولة ببناء التجارب في البلدان المتحررة حديثاً من الاستعمار، ومنغمسة في صياغة ايديولوجيات قومية، تركية عربية او فارسية، نظر هؤلاء الدارسون الى تجارب البناء الوطني باعتبارها تجارب تتم داخل الاسلام، ومن جانب شعوب اسلامية. تلك كانت وجهة نظر تشارلز آدامز وهاملتون جب وسواهما. وحين حضر مكسيم رودنسون الى مصر عام 1967، كانت النخبة المثقفة المصرية مأخوذة بتجربة البناء الاشتراكي في مصر الناصرية، اما رودنسون نفسه فكان يبحث عن اجابات لموقف الاسلام من الماركسية والرأسمالية. فإذا كان الباحثون الغربيون نظروا الى هذا الجزء من العالم باعتباره اسلامياً، فمن المفروض ان لا تأخذهم المفاجأة ببروز ظاهرة التدين او بروز حركات اسلامية نشطة سياسياً واجتماعياً. لكن هؤلاء الباحثين، الاوروبيين خصوصاً، يعرفون الماضي اكثر من الحاضر، ويعرفون موضوعاتهم من خلال الكتب، وهم متخصصون معظم الاحيان بحقول ضيقة، اذا استثنينا شيوخاً من امثال جاك بيرك ومكسيم رودنسون. مجمل الذين شملهم الاستفتاء هم اصحاب اختصاص ادبي او فكري او يعرفون منطقة او بلد او تجربة دون سائر البلدان، مما يسمح لهم بالادلاء بآراء جزئية وملاحظات شخصية. هذا لا يمنع أن ملف "الوسط" تضمن آراء وملاحظات دقيقة، على رغم الاتفاق على مجموعة من المواقف التي بدت اشبه بتكرار، وخصوصاً في الجواب عن السؤال حول اسباب بروز الحركات الاسلامية، وشبه الاجماع على كون الحركات الاسلامية لا تشكل تهديداً للغرب. تم النظر الى بروز الحركات الاسلامية باعتباره رد فعل على فشل برامج البناء الوطني والايديولوجيات الليبيرالية والاشتراكية، من دون النظر الى كونها نمواً طويل المدى خلال قرن من الزمن، من الحركات الاصلاحية الى التنظيمات الاخوانية. كما ان الحركات الاسلامية كانت حاضرة في الهند وباكستان قبل نصف قرن، وفي مصر قبل ذلك، وكذلك في الجزائر مع جمعية العلماء وحرب التحرير. ويبدو لي أن ثمة فرقاً بين الباحثين الاوروبيين وأقرانهم الاميركيين. فالاوروبيون الذين يغلب على تكوينهم الطابع التاريخي واللغوي والادبي، ينهلون من تراث الصراع على ضفتي المتوسط، بينما نجد ان الباحثين الاميركيين تغلب عليهم النزعة السياسية المعاصرة. ويعود ذلك على الارجح الى كون الدراسات الاسلامية في اميركا الشمالية تأثرت بما سمي الدراسات الشرق الأوسطية المعاصرة، السياسية والسوسيولوجية، يضاف الى ذلك اعتمادهم المنهج التجريبي الذي يحررهم من النظرات والآراء المسبقة الى حد ما. يبقى ان نشير الى الملاحظات الآتية: - لم يجر التمييز، في ملف "الوسط"، بين نشوء الحركات الاسلامية، وبين توسيع التعبير عن الاسلام لدى "عامة الناس" التي كانت على الدوام مسلمة ولم تغادر اسلامها. وحين هتفت خلف النخب القومية وناضلت ضد الاستعمار كانت تدرك ايمانها واسلامها بعمق. - في علاقة الاسلام بالغرب، جرى التركيز على المخاوف التي تثيرها الحركات الاسلامية لدى الرأي العام في اوروبا. ومن الضروري ان نشير هنا الى ان وجود اكثر من عشرة ملايين مسلم في اوروبا الغربية هو مسألة غربية ايضاً وليست اسلامية. ولم تبذل الحكومات، ولم يبذل الباحثون الاوروبيون الذين يعرفون الاسلام جهوداً مقنعة في هذا المجال، وقد تجاهلوا مسؤولياتهم. - ان بعض الملاحظات التي يجدر التنويه بها هي قول ريتشارد بوليت من جامعة كولومبيا: "تتأذى العلاقات بين الاسلام والغرب من عجز هذا الاخير عن فهم الصعوبة التي تواجهها الحركة الاسلامية في ايصال رسالتها الى غير المسلمين..."، وقوله: "لا مفر من ان يلجأ المجتمع العربي والاسلامي الى اعتماد الاسلام محوراً له من جديد". فهل يحق لنا أن نطالب بدورنا الباحثين الغربيين في الاسلام، بأن يدركوا مجدداً ان الاسلام ليس محور التاريخ، لكنه محور الحاضر ايضاً؟... * كاتب لبناني