لم يكن التصعيد التفاوضي بين الأردن واسرائيل الذي بدأ في قاع طابا بمنطقة وادي عربة الى الشمال من مدينة العقبة وصولاً الى لقاء القمة في واشنطن بين الملك حسين واسحق رابين ليتم لولا مجموعة من العوامل التي يجملها سياسي أردني بارز على النحو الآتي: الضغط الأميركي المستمر على الأردن واستخدام سياسة العصا والجزرة حياله لتحقيق تقدم جوهري في المفاوضات بعد مرور ثلاث سنوات على مؤتمر مدريد. الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الداخلية في الأردن والتي يمكن في حال استمرارها التسبب في اختلالات جديدة على غرار ما حدث في نيسان ابريل 1989. علاقات الأردن العربية المتردية بعد حرب الخليج الثانية والتي شكلت ضغطاً اضافياً على اقتصاده ودوره الاقليمي. عدم الاحاطة الكافية بما يجري على مسارات التفاوض الأخرى وخاصة المسار السوري - الاسرائيلي لأن بقاء المسار الأردني خلف المسار السوري يعني تهميش دور الأردن ليس فقط على صعيد المفاوضات بل ايضاً بالنسبة لدوره الاقليمي. انفراد المسار الفلسطيني منذ اتفاق أوسلو وانتهاء بعودة الرئيس ياسر عرفات للاستقرار في مناطق الحكم الذاتي وبدء الحديث فلسطينياً عن العلاقات المستقبلية مع الأردن. صنع الخرائط وإذا كانت الأسباب السابقة تشكل بمجملها مبرراً للاختراق الجديد على الجبهة الأردنية - الاسرائيلية فإن ثمة طموحاً أردنياً للقيام بدور اقليمي مهم في النظام العالمي الجديد بعد فصل القضية الفلسطينية من قواعد اللعبة السياسية في المنطقة السائدة منذ عام 1948 بصرف النظر عن قرارات الأممالمتحدة وخاصة القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام 1967 والذي يتحدث عن أراض محتلة من الأردن التي كانت الضفة الغربية جزءاً لا يتجزأ منه. هكذا وجد الأردن نفسه أمام جدول أعمال محدد بثلاث نقاط هي: الأرض الأردنيةالمحتلة وهي غير محاذية للضفة الغربية المحتلة واقتسام مياه نهري اليرموك والأردن والتعاون بين الأردن واسرائيل على غير صعيد في مرحلة السلام. ووجدت الادارة الأميركية الفرصة سانحة بعد تفرغها من المسار الفلسطيني - الاسرائيلي لتحقيق تقدم جوهري آخر على المسار الأردني - الاسرائيلي فربطت بين التقدم في المفاوضات وتلبية الاحتياجات الأردنية وبينها اضطلاعه بدور في رسم خريطة النظام الشرق أوسطي الجديد. ويقول الدكتور جواد العناني وزير الاعلام الأردني ان المنطقة دخلت مرحلة صنع الخرائط على الأرض سواء بالنسبة لحدود الدول أو مستقبل دورها الاقليمي... واستطرد: ودور الأردن مهم لاعتبارات عدة سكانية واقتصادية ومائية وأمنية. لا انفراد وفي الوقت الذي صمتت سورية إزاء بدء المفاوضات المكثفة بين الأردن واسرائيل ورحبت المنظمة سارع الأردن وعلى لسان كل من الملك حسين ورئيس وزرائه عبدالسلام المجالي وطواقم المفاوضين الى تكرار التأكيد بأن الخطوة الجديدة ليست انفراداً أردنياً بل هي من ضمن مرجعية جدول الأعمال الموقع بين الأردن واسرائيل بتاريخ 14/9/1993، وان الأردن لن يوقع على معاهدة سلام مع اسرائيل الا في مرحلة الحل النهائي والسلام الشامل الذي تقبل به جميع الأطراف العربية. ويرى ديبلوماسي عربي في عمان ان منظمة التحرير الفلسطينية ترى في الخطوة الجديدة دعماً لها لاخراجها من مأزق الوضع السياسي والاقتصادي الذي تعيشه مناطق الحكم الذاتي التي لا يرى سكانها أي تطور ملموس في حياتهم المعيشية عما كان سائداً منذ احتلال 1967. 3 مستويات وبرغم ان الخطوة الأردنية لم تكن بحجم أوسلو وأعلن عنها سلفاً الا ان كلاً من الولاياتالمتحدةوالأردن واسرائيل تعمدت التمهيد لها بضجيج اعلامي يحقق أكثر من هدف على ما يبدو ومن أبرزها الضغط من أجل تحريك المسار السوري - الاسرائيلي. كما تعمدت الدول الثلاث على ما يبدو تكثيف المفاوضات الأردنية - الاسرائيلية وفق ثلاثة مستويات متصاعدة وخلال اسبوع واحد فقط ومرافقة ذلك بضجيج اعلامي يشهد عليه عدد الصحافيين الذين يرافقون الحدث والذي تجاوز ألف صحافي. ونعرض تالياً مستويات التفاوض الثلاثة وجدول أعمال كل منها. مفاوضات قاع طابا على مدى يومين 18 و19 تموز/ يوليو التقى في منطقة قاع طابا وفدا المفاوضات الأردني برئاسة الدكتور فايز الطراونة والاسرائيلي برئاسة الياكيم روبنشتاين على بعد 17 كلم من مدينة العقبة في وادي عربة حيث أعدت خيمة التفاوض فجلس فيه الوفد الاسرائيلي داخل حدود اسرائيل والأردني داخل الحدود الأردنية على جانبي طاولة شكلت أول نقطة حدودية بين الجانبين. بحث الوفدان القضايا الثلاث الرئيسية وتوزع المفاوضون على ثلاث مجموعات عمل تولت كل منها بحث واحدة من القضايا الثلاث وهي: الأمن والحدود. ويقول الدكتور مروان المعشر الناطق الرسمي باسم الوفد الأردني ان هدف المفاوضات كان تحويل الوضع من حدود لوقف اطلاق النار الى حدود دائمة بين دولتين ولا بد من ترتيبات أمنية تحفظ للأردن حقه في ممارسة سيادته على أرضه. وأكد كل من الطراونة وروبنشتاين انه لا توجد على الأرض أي علامة حدودية أو مرجع لترسيم الحدود سوى اتفاقية عام 1928 بين حكومة شرق الأردنوفلسطين تحت الانتداب والتي حصلت كل من الأردن واسرائيل على نسخة منها من بريطانيا. ويقدر الأردن مساحة أراضيه المحتلة بحوالي 386 ألف كيلومتر مربع غالبيتها في منطقة وادي عربة ومساحة صغيرة شمال الأردن. ويؤكد وزير الاعلام الأردني ان المفاوضات بحثت في الحدود الأردنية مع اسرائيل وليس مع الضفة الغربيةالمحتلة. المياه: يعاني الأردن نقصاً خطيراً في المياه لمختلف الاستخدامات اضطرته لضخ كميات كبيرة من مخزونه الاستراتيجي. ويقول الدكتور المعشر ان مبدأ تقسيم المياه هو المفتاح الرئيسي لمشروعات المياه المشتركة اذ لا يمكن الحديث مستقبلاً عن هذه المشروعات دون تحديد حصة الأردن من المياه، وان عدم التوصل الى اتفاق يعني افساح المجال لحصول اسرائيل على ما تريد. البيئة والطاقة: لم يتحدث أحد بوضوح عن هذا الجانب كما فعل رئيس الوفد الاسرائيلي المفاوض عندما عرف البيئة بأنها المستوى الجديد للحياة المدنية الهادف الى تخفيف المعاناة الانسانية وتحسين نوعية الحياة. كما تحدث عن الطاقة فأشار الى المشروعات المشتركة التي ستحول البحر الميت الى بحر حياة والوادي الى واد للسلام وهذا يشمل السياحة وتنمية المصادر واستغلال المعادن. وعلى العموم فإن مفاوضات قاع طابا لم تبدأ من الصفر كما قال الدكتور فايز الطراونة "فلدينا اتفاق على جدول الأعمال وأجندة فرعية مشتركة بصيغتها النهائية حول الحدود وبعض المسائل المتعلقة بالأراضي والأمن والمياه". الشاطئ الشرقي من البحر الميت شهد المستوى الثاني من تصعيد المفاوضات الأردنية - الاسرائيلية باللقاء الثلاثي الذي جمع رئيس الوزراء الأردني وزير الخارجية الدكتور عبدالسلام المجالي ووزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريز ووزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر الذي وصل آتياً من دمشق حيث التقى الرئيس حافظ الأسد وعاد لاحقاً الى العاصمة السورية. وتحدث الدكتور جواد العناني وزير الاعلام الأردني عن مداولات اللقاء الثلاثي فقال ان أهميته تنبع من الخبرة الأميركية في منطقة وادي الأردن منذ مشروع جونسون وارميتاج في الخمسينات وكذلك لأسباب تمويلية خاصة وان النقطة الأولى مدار البحث في اللقاء الثلاثي كانت مشروع قناة البحرين الأحمر والميت وهو مشروع أردني جاء رداً على مشروع قناة البحرين الأبيض المتوسط والميت الذي طرحته اسرائيل منذ سنوات. اما النقطة الثانية على جدول أعمال اللقاء فهي مشروع طريق العقبة - طابا الذي يربط بين الأردن ومصر مروراً باسرائيل وهو حيوي للأردن ليس لتطوير ميناء العقبة فحسب بل ولمساهمة الأردن في التطوير المقترح لشمال سيناء. النقطة الثالثة هي تطوير اقليم البتراء حيث مدينة البتراء الأثرية التي أشادها العرب الانباط قبل الميلاد وتعتبر الجاذب الأول للسياح الى الأردن. ويشتمل مشروع تطوير اقليم البتراء على توسيع المنطقة السياحية لتشمل 900 كلم2 وخدمتها بالطرق والكهرباء والمياه والصرف الصحي ووسائل النقل الخاصة داخل المدينة الأثرية وتشييد تسعة فنادق جديدة تحتوي على نحو ألف غرفة. أما النقطة الرابعة والأخيرة في اللقاء الثلاثي فهي الاستخدام المتبادل للمجال الجوي والذي سيوفر على الطائرات الأردنية وقتاً يتراوح بين 40 - 60 دقيقة في الرحلة الواحدة. قمة الحسين - رابين وبلغ تصعيد المفاوضات الأردنية - الاسرائيلية ذروته في الخامس والعشرين من الشهر الجاري بالقمة بين الملك حسين ورئيس وزراء اسرائيل اسحق رابين برعاية الرئيس الاميركي بيل كلينتون. وقد اعتبر كريستوفر ان لقاء القمة سيغير الخريطة السياسية في الشرق الأوسط، وأعرب عن اعتقاده بأن اللقاء وان لم يسفر عن اتفاق سلام الا انه سيعجل به. وكان يوسي بيلين نائب وزير الخارجية الاسرائيلي توقع التوصل الى اتفاق مع الأردن خلال ستة اشهر في حين توقع سياسيون اردنيون ان يتم التوصل الى اتفاق في منتصف شهر تشرين الأول اكتوبر المقبل. وأولى سياسي أردني بارز اهمية خاصة لكلمة الملك حسين امام الكونغرس الاميركي لأنه لا بد من مصادقة المجلس على اي مشروع للمساعدات الخارجية. ومعروف ان عمان تنتظر مساعدات اميركية عسكرية وإقتصادية عاجلة وفقاً للتعهدات الاميركية وفور لقاء الحسين - رابين. وعلى عكس ما صوره الاعلام عند بدء مفاوضات قاع طابا من انها تحصيل حاصل فقد اكد كل من الطراونة وروبنشتاين من انهما "يتحملان مسؤوليات كبرى لتمهيد الطريق للمباحثات التي ستعقد على أعلى مستوى". وعلى عادته قاد العاهل الأردني الملك حسين الحملة الاردنية في اتجاه تصعيد التفاوض مع اسرائيل. وبعد ان أعلن امام مجلس النواب والحكومة 9/7 استعداده للقاء رابين وشرح الظروف القاسية التي يمر بها الأردن قام الملك حسين بزيارات ميدانية الى القطاعات العسكرية الاردنية وتحدث امام جنوده عن الضرورات التي تحتم على الأردن السير في هذا الطريق. وعشية بدء المرحلة الأولى من المفاوضات في قاع طابا وجه الملك حسين رسالة الى رئيس وزرائه الدكتور عبدالسلام المجالي وطواقم المفاوضين الأردنيين اشار فيها الى "اننا دخلنا المفاوضات بإرادة الاردنيين جميعهم" وكان يشير بذلك الى مؤتمر الميثاق الوطني الذي عقد عام 1991 وتقرر فيه التوجه نحو مفاوضات السلام وذلك في رسالة من شقين الأول لتعبئة الرأي العام الأردني لمساندة الخطوة الجديدة والثاني للمعارضة ومفاده ان الأغلبية هي التي قررت التوجه نحو مفاوضات السلام في مؤتمر الميثاق الذي ضم المعارضين ايضاً. اشارات ايجابية اعتبر المسؤولون الاردنيون قرار نادي باريس بجدولة 2،1 مليار دولار يستحق القسط الأول منها في شهر تموز يوليو الحالي لمدة عشرين عاماً خطوة اميركية مهمة لدعم الاقتصاد الأردني، كما اعتبروا تصريحات كريستوفر عن التوجه الى دعم الاقتصاد الأردني والقوات المسلحة فيه مؤشراً ايجابياً آخر. السؤال الذي يطرحه سياسيون اردنيون بشيء من الحيرة هو: ماذا لو أعلنت الولاياتالمتحدة دعمها للأردن وتأخرت في التنفىذ؟ وفي هذا السياق يرد مسؤول أردني رفيع ان الاردن لم يكن ليتخذ هذه الخطوات العملية لو لم يحصل على أعلى التزام سياسي اميركي بأن يحصل فوراً على جزء أساسي من مقابل السلام. وفور الاعلان الأردني عن التوجه نحو تصعيد التفاوض مع اسرائيل بادرت احزاب وفعاليات سياسية وشعبية أردنية الى الاعلان عن تأييدها للقرار الأردني. وركزت وسائل الاعلام الاردنية خلال الاسبوع الممتد بين اعلان الملك حسين استعداده للقاء رابين وحتى بدء مفاوضات وادي طابا على ابراز الجانب المؤيد للمفاوضات، لكنها لم تبرز آراء المعارضة الرافضة لمسيرة السلام برمتها. وساد اتجاه جديد بين الرفض والتأييد وعبر عنه نائب وسطي اردني بقوله انه ليس لديه "مبررات كافية لا للرفض ولا للتأييد". ويبدو ان موقف النائب يشبه موقف الكثيرين ليس ازاء المفاوضات واستئنافها بل ازاء مرحلة الحل النهائي والتساؤل عن العلاقات الأردنيةالفلسطينية المستقبلية وأوضاع الفلسطينيين في الأردن والمخاوف من المستقبل عموماً. ولكن، وبالرغم من كل ذلك فالواضح ان الغالبية تؤيد المفاوضات برغم معارضة النواب للحكومة والتي تختلط احياناً بمعارضة المفاوضات بدليل الخطاب الذي القاه الملك حسين أمام البرلمان والحكومة والذي جاء على خلفية الشكوى التي قدمتها الأغلبية البرلمانية للملك من تصرفات الحكومة. الاسلاميون والقوميون ويقف الاسلاميون في مقدمة معارضي مفاوضات السلام وبدأت بوادر تحالف جديد بينهم وبين القوميين الذين يتخذون الموقف نفسه. ويقول النائب خليل حدادين من الاتجاه القومي البعث العراقي ان موقف القوميين من المفاوضات مبدئي اذ ان قضية فلسطين ليست شأناً فلسطينياً بل قومي ولا يجوز لأحد ان يتصرف بحقوق الشعب الفلسطيني وان فلسطين من النهر الى البحر ولا سلام مع كيان يحتلها، وان معارضة القوميين للمفاوضات ستبقى في الاطار الدستوري. اما عضو قيادة حركة الاخوان المسلمين وجبهة العمل الاسلامي الشيخ عبدالرحيم عكور فقال ان معارضة الاسلاميين للمفاوضات ستبقى في الاتجاه الوطني المنضبط بالقانون والدستور وستستخدم كل أسلوب تسمح به القوانين والأنظمة في ظل التعددية السياسية وحرية الرأي والرأي الآخر. فكما تتاح الفرصة لمؤيدي مسيرة السلام اعتقد ان من الواجب على الأنظمة العربية وأجهزتها ان تسمح لمن لا يرى سلامة في المسيرة ان يعبر عن وجهة نظره. لكنه قال:"اخشى ما أخشاه ألا يرى بنو قومنا رؤيتنا هذه الا بعد حين". وأضاف: لا أتهم ولكن قد تقع اشكالات في المواجهة مع المعارضة عن طريق خنق صوتها فتبدأ احتقانات في اماكن الظل او تحت الأرض وهنا لا يستطيع عاقل ان يتنبأ بما يمكن ان يحدث، وقد يصدق فينا قول الشاعر عنها: تبقى لأهل الرأي ما صلحت فإن تولت فبالأشرار تنقاد. وأكد أخيراً: "معارضتنا ليست قائمة على مصالح ذاتية بل ان صراع أمتنا مع اليهود محكوم بمحددات عقائدية".