ملف عاصفة التسعينات فتحت "الوسط" في الخريف الماضي. على امتداد سبع حلقات الاعداد 96 الى 102 ملفاً من وحي الراهن الفكري والسياسي في العالم العربي. اذا استضافت ثلاثين مستشرقاً وباحثاً من ثماني دول غربية، بين أبرز المتخصصين في هذا المجال، كي يناقشوا ويشرحوا، كل على ضوء تجربته ومن موقعه الخاص، ظاهرة "الأصولية" وانعكاساتها على مستقبل لعرب وعلى علاقتهم بالغرب والعالم عند عتبة القرن الجديد. أثار الملف، وما زال يثير على رغم مرور أشهر عدة على نشره، مجموعة من ردود الفعل التي دفعتنا الى اعادة طرح المسألة، من وجهة نظر عربية هذه المرة . وننشر تباعاً، بدءا من هذا العدد، ردود ومساهمات عدد من المفكرين العرب الذين يناقشون النظرة الاستشراقية احياناً، ويشرحون بدورهم الظاهرة التي اطلقنا عليها "عاصفة التسعينات". تحتل ظاهرة "الاصولية" اليوم من اهتمام العالم الغربي ما احتله انتصار الشيوعية في روسيا اثناء الحرب العالمية الاولى، وانتصار النازية في المانيا والفاشية في ايطاليا بعد الحرب، وحركة القومية العربية بزعامة عبد الناصر في الخمسينات والستينات. اذ اخذ العالم الغربي يحلل هذه الظاهرة ويقيس حجمها ويراجع حساباته في تشخيص ما تمثله من خطر على مصالحه. وهذا امر طبيعي، اذا اعتبرنا أن الظاهرة الاصولية نشأت في بقعة ذي أهمية بالغة للغرب: انه العالم نفسه الذي استعمره سابقا، وتحرر منه لاحقا، وما زالت تربطه به مصالح اقتصادية بالغة الاهمية تتمثل في ثرواته الطبيعية، ومصالح سياسية تتمثل في اهميته الاستراتيجية. ومن هنا كان من المفيد جداً ما فعلته مجلة "الوسط" من استكشاف نظرة الغرب لهذه الظاهرة في وطننا العربي، من خلال عدد مهم من المستشرقين الذين يمثلون همزة الوصل بين حضارتنا والحضارة الغربية، ويمكن اعتبارهم اقرب الناس في الغرب الى فهم ما يدور في بلادنا وتتبعه بنظرة علمية محايدة قدر الامكان. من هذا المنطلق تابعت مساهمات هؤلاء المستشرقين، وما أوردوه من تحليل وتقويم لهذه الظاهرة "الاصولية" في وطننا العربي، وكثير منه تحليل وتقويم صحيح، وقليل منه غاب منه التوفيق. وسأعالج هنا بعض ما اختلفت معهم حوله توصلا الى فهم مشترك - وذلك من واقع دراساتي العلمية في هذا المجال. وربما كان مصطلح "الاصولية" هو اول هذه القضايا التي تحتاج الى توضيح وتصحيح. ففي البداية يجب الاعتراف بأن هذا المصطلح يقتصر على الغرب. فهو الذي اخترعه، ولم يكن يوجد له ذكر في المصادر والمراجع العربية، لسبب بسيط هو ان هذا اللفظ في المصادر العربية يشير الى شيء يختلف كل الاختلاف عن المدلول الذي يقصده به الغربيون. فالمدلول الذي يقصده الغربيون مدلول سياسي، أما المدلول العربي للمصطلح فعلمي يشير الى العلماء والفقهاء المهتمين باصول الدين. ومن هنا جاءت تسمية الكلية التي تفرعت من جامعة الازهر والمهتمة بهذا الفرع باسم "كلية اصول الدين". اما مدلول مصطلح "الاصولية" في المنظار الغربي، فقد استخدمت المصادر والمراجع العربية للتعبير عنه مصطلحاً آخر هو مصطلح "السلفية". وهذا ما وصف به الشيخ حسن البنا حركة الاخوان المسلمين، فقد وصفها بأنها "دعوة سلفية". وقد فسر هذا المعنى تفسيرا اوضح، فوصف جماعته بأنها "جمعية اسلامية محمدية قرآنية، تنتهج نهج القرآن الكريم، وتسلك مسلك النبي العظيم، ولا تحيد عما ورد في كتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالح". وهذا المعنى الذي اورده حسن البنا هو في أساس قيام هيكل ايديولوجي متكامل، اعتمدته لاحقاً الجماعات الاسلامية التي يطلق علها الغرب صفة "الاصولية"، على اختلاف اتجاهاتها واجتهاداتها. وهذا الهيكل الايديولوجي يقوم على مبدأ شمول الاسلام للدين والدنيا. بمعنى أن الاسلام ليس ديناً للعبادة فقط، وانما للحكم أيضا. وفي ذلك يفرق البنا بين الاسلام والمسيحية في قوله: ليس في الاسلام: "اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ولكن في تعاليمه: "قيصر وما لقيصر لله الواحد القهار". واكد البنا ان الحكم "يعد في كتبنا الفقهية من العقائد والاصول، لا من الفقهيات والفروع. فالاسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر. ومن هنا فالاسلام الذي يؤمن به الاخوان المسلمون يجعل الحكومة ركناً من اركانه، والاخوان المسلمون يتجهون في جميع خطواتهم وآمالهم واعمالهم نحو الحكومة الاسلامية". على هذا النحو نقل حسن البنا الدعوة الاسلامية من مجرد دعوة دينية، الى دعوة سياسية. كما نقلها من دعوة اصلاحية الى دعوة ثورية، وفي ذلك اعتبر قعود المصلحين الاسلاميين عن المطالبة بالحكم "جريمة اسلامية لا يكفرها الا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من ايدي الذين لا يدينون باحكام الاسلام الحنيف، واعلن ان المصلح الاسلامي ان رضي لنفسه ان يكون فقيها مرشدا، يقرر الاحكام ويرتل التعاليم، ويسرد الفروع والاصول، وترك اهل التنفيذ يشرعون للامة ما لم يأذن به الله، ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة اوامره، فان النتيجة الطبيعية ان صوت هذا المصلح سيكون صرخة في واد ونفخة في رماد". هذا هو اذاً المعنى الذي يقصده الغربيون بال "أصولية". لكن الغرب لم يبدأ في استعمال هذا المصطلح، الا في وقت متأخر. وعلى سبيل المثال لم تكن المراسلات السرية بين السفير البريطاني في مصر وحكومته تطلق وصف "أصوليين" على الاخوان المسلمين، ولا كانت الصحف الاجنبية تلجأ الى التسمية حين تتابع اخبارهم . ولم يظهر اسم اصوليين في الصحف والمراجع الافرنجية في الواقع، الا بعد بروز الجماعات الاسلامية في عهد السادات، تمييزا لهم عن الاخوان المسلمين الذين كانوا كفوا عن استخدام العنف. ومن هنا اقترن اسم الاصوليين بالعنف. وهذا ما جعلني اصارح الاكاديمية الاميركية للفنون والعلوم في جامعة شيكاغو، عندما عرضت عليّ اجراء دراسة عن الاخوان المسلمين ضمن مشروعها الكبير عن الاصوليين في العالم، بان الاخوان المسلمين لم يعودوا أصوليين، بل اصبحوا جماعة الاسلام السياسي التي تستخدم القوة في الوصول الى السلطة. وليس هذا المصطلح نابعا من مصر التي كانت تطلق على هذه الجماعات اسم "الجماعات الاسلامية"، ثم "الجماعات الاسلامية الارهابية"، ثم "الجماعات الارهابية" بعد حذف كلمة "الاسلامية" ثم "الجماعات الاسلامية الارهابية" ثم "الجماعات الارهابية" بعدما تحقق لاهل السنة من العلماء المسلمين ان ما تقوم به هذه الجماعات من جرائم باسم الاسلام لاصلة له بالاسلام من قريب او من بعيد. وفي ضوء ما سبق يظهر مدى ابتعاد مصطلح "الاصولية" عن الحركة الارهابية الحالية في مصر، والتي تتخذ من الاسلام سلماً للارتقاء الى السلطة. لكن ابسط مواطن في مصر يعرف جيدا ابتعاد هذه الحركة الارهابية عن الاسلام. وفي الوقت نفسه تبتعد هذه الحركة حتى عن مفهوم الاسلام السياسي الذي يسعى الى اقامة حكومة اسلامية تطبق الشريعة الاسلامية. لان هذه الحركة الارهابية لم تؤسس لها جذورا في التربية الشعبية المصرية، وانما هي حركة تستعدي الجماهير المصرية في كل ما تفعله، بتفجيراتها التي تطلقها في الاحياء الشعبية المصرية وتقتل بها الجماهير الفقيرة، حتى اصبحت هذه الجماهير هي التي تطاردها كلما تيسر لها ذلك، بدلا من ان تتعاطف معها. وهذه الحركة تختلف بذلك عن حركة جماعة الاخوان المسلمين في الاربعينات التي اسست لها على مدى السنوات العشر السابقة قواعد جماهيرية قوية، وتبنّى الرأي العام بعض مطالبها النضالية ضد الاحتلال البريطاني او ضد الدولة الاسرائيلية في فلسطين. كما ان حركات هذه الجماعة في المرحلة القطبية نسبة الى سيد قطب كانت حركة دفاعية ضد نظام عبد الناصر، وكانت الحركات التالية في عهد السادات تؤسس لنفهسا قواعد شعبية في الجامعات المصرية وفي الاحياء والقرى ومدن الاقاليم، لتقوم ب"الثورة الشعبية" التي كانت جزءا لا يتجزأ في خطة تنظيم "الجهاد". وبسبب عدم توافر اسبابها اعترض عبود الزمر منذ البداية على خطة اغتيال الرئيس السادات. لكن انعزال هذه الحركة عن الجماهير، وعجزها عن تأسيس قواعد شعبية لها أبعداها - بالضرورة - عن المعنى الذي يحمله الغرب لمصطلح "الاصولية"، وهو المعنى الذي بنى عليه كتّاب مجلة "الوسط" من المستشرقين تحليلاتهم وتوقعاتهم. فمعظم هؤلاء تحدث عن الحركة الشعبية التي خاب أملها في الايديولوجيات الليبيرالية والاشتراكية والقومية، وارادت اختبار الايديولوجية الاسلامية انظر على سبيل المثال آراء هومي بابا وديريك هوبوود، رودلف بيترز، والكسندر سميرنوف، وارتور سعادييف.... ففي غياب قواعد جماهيرية في مصر لهذه الحركة، تبقى - في احسن الاحوال - حركة "بلانكية" نسبة الى بلانكي المفكر الثوري الاشتراكي الفرنسي في القرن التاسع عشر اي حركة فوقية منعزلة عن الجماهير. ويترتب على ذلك أن الخطر الذي يتوقعه الغرب منها، هو خطر موهوم ولدته الانفجارات في شوارع القاهرة وحوادث اغتيال رجال الشرطة في اسيوط وبعض مدن الصعيد - وهي كلها انفجارات وحوادث اضعفت هذه الحركة لانعزالها عن الجماهير الشعبية، ولتآكل هذه الحركة على يد مطاردات البوليس. على ان الاكتفاء بهذا القول يتضمن تبسيطا للظاهرة، لان هذا الكلام ينطبق فقط على ما آلت اليه الامور، ولا ينطبق على ما بدأت به في عهد السادات. فان بدايتها في أسيوط والصعيد كانت في الدرجة الاولى رد فعل للهيمنة القبطية على الحياة الاقتصادية ولتغيير تركيبة الطبقة الوسطى بعد افتتاح جامعة اسيوط في عام 1957 وتخريجها عددا متزايدا من اصحاب المؤهلات العليا الذين اصطدموا للوهلة الاولى بسيطرة الاقباط على المهن والوظائف واحتكارهم الثروة. هكذا تسربلت هذه الحركة الاقتصادية والاجتماعية بالعباءة الدينية الاسلامية، لاحداث تعادل مع العناصر القبطية وانتزاع المراكز التي تحتلها في المهن المهمة مثل الطب والصيدلة والمقاولات وغيرها. وقد استطاعت بالفعل احداث توازن اجتماعي طوال عهد السادات وفي عهد مبارك، الى أن قضت على نفسها بسبب اللجوء الى العنف الاعمى، فتحولت عزلتها من عزلة اقليمية الى عزلة قومية. وتشبه نشأة الحركة "الاصولية" في مصر اذا استخدمنا المصطلح الغربي، نشأة الحركة الاصولية في الجزائر. فهذه الاخيرة ظهرت كرد فعل من جانب العناصر الاسلامية المتمسكة بعروبتها لهيمنة العناصر المتفرنسة على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعة منذ التحرر من الاحتلال الفرنسي. وهي نفسها العناصر التي تركزت في يدها السلطة السياسية والادارة الجزائرية، وقاومت التعريب وادارت ظهرها الى العرب واتجهت الى الغرب، واعتنقت الفكر الاشتراكي، وارتكبت اخطاء البيروقراطية والاقتصادية. أما في غزةوالضفة الغربية فان حركة الاصوليين - كما تمثلت في حركة حماس - نشأت كرد فعل لفشل منظمة التحرير الفلسطينية في حل القضية الفلسطينية، وانغماس افرادها في الفساد، وتسربلها برداء التطرف لاستدامة دورها الفاشل في تحرير الاراضي المحتلة من الاحتلال الاسرائيلي. وهذا هو السبب في التخلي المفاجئ من جانب منظمة التحرير الفلسطينية عن رداء التطرف، ومحاولة التوصل مع اسرائيل الى بداية اتفاق يجسد السلطة الشرعية الفلسطينية في غزة واريحا في الضفة الغربية، ويكون لها فيه اليد العليا في شؤون الحكم والادارة. وفي السودان فان القضية هناك لا تتمثل في حركة اصولية، بقدر ما تتمثل في نظام حكم انقلابي عسكري يعاني من العزلة عن اكبر دولة عربية مجاورة تربطه بها روابط تاريخية متينة وهي مصر. كما يعاني من فشل ذريع في معالجة الاوضاع الاقتصادية المتردية للشعب السوداني. وهو فشل كفيل بالقضاء على هذا الحكم بالضرورة في نهاية الامر. ومن هنا يبدو لنا ان الغرب يبالغ في تضخيم "الخطر الاصولي" على مصالحه. فحتى لو سلمنا بأن مثل هذا الخطر موجود، لا شك في كونه يعتبر خطرا هزيلا لا يستطيع ان يلحق اي ضرر، لكنه يعطي ذريعة للغرب لحل مشكلته الاقتصادية المتفاقمة على حساب الشعوب العربية. * كاتب ومفكر مصري