فرناندو دي أغريدا : المستقبل غامض والأزمة ستطول ولا بد من اعادة الحوار المقطوع - تدخل الدول الكبرى ساهم في نمو الحركات الاصولية - الاصولية نتيجة لانقطاع الحوار الثقافي بين الشرق والغرب - 1 - في رأينا ان ظاهرة الاصولية الاسلامية تعود الى اسباب عدة، اهمها الازمة العامة التي يعيشها العالم العربي والاسلامي وتكاد تشمل كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهي تعتبر ايضاً رداً على تدخلات بعض الدول الكبرى في الشؤون الداخلية للبلدان العربية والاسلامية، ويبدو، ويا للاسف، ان هذا السبب لعب دوراً كبيراً في تفاقم تلك الظاهرة. - 2 - لا شك في ان الظاهرة الاصولية تؤثر في العلاقة بين العالمين العربي والغربي. اذ انها تساهم في ترسيخ الصورة الخاطئة التي تقدمها وسائل الاعلام الغربية عن العالم العربي، وهي في اكثر الاحيان "صورة سلبية". فهذه الوسائل تقدم انظمة تلك الدول على انها أنظمة ديكتاتورية، والمجتمعات بأنها تعيش في ظل غياب كامل للديموقراطية. كما تبالغ في التركيز على الارهاب والفقر والفوارق الاجتماعية والطبقية الشاسعة. من ناحية اخرى، اعتقد بأن ظاهرة الاصولية الاسلامية جاءت نتيجة لانقطاع الحوار الثقافي بين الشرق والغرب. واشعر الآن بوجود نوع من فقدان الثقة المتبادلة بين مثقفي الجانبين. ففي الوقت الذي يبذل المستشرقون الغربيون جهوداً من اجل تقريب الثقافة العربية الى المجتمع الغربي، سواء عن طريق الترجمات الادبية او من خلال الكتابة التحليلية في عدد من الموضوعات المهمة، اولها تحليل الظواهر التي تجري في العالم العربي او كشف العلاقات التاريخية المشتركة بين الجانبين، يصطدم الكثيرون بمناخ عام من انعدام الثقة ومن الافكار المبسطة. كما ان المستشرقين لا يجدون صدى لجهودهم حتى من جانب المثقفين العرب الذين يعتبرون اول المستفيدين من هذه الجهود. وكل هذا يخلق لدى المستشرقين نوعاً من الاحباط. وربما عاد كل هذا الى التجربة السلبية تاريخياً بين الجانبين: فدراسة الاوضاع العربية كانت تتم في الكثير من الاحيان بهدف تشويهها من جانب بعض القوى الغربية، او ان الثقافة المدروسة لم تفهم دائماً بالشكل الصحيح من جانب الغرب… كل هذا انعكس على العلاقة الحالية بين الجانبين في وقت تغذي ظاهرة الاصولية الصورة السلبية للعرب لدى المواطن الغربي. - 3 - لست متخصصاً في دراسة الظواهر الاصولية، لكنني اعتقد بأن واقع كل بلد عربي يختلف عن البلد الآخر، وهناك طبعاً بعض نقاط اللقاء، فالمجتمعات العربية تعيش مشاكل اجتماعية وسياسية متشابهة منذ زمن ليس بالقصير، ولم تجد بعد الحل المناسب والسليم لهذه المشاكل. واعتقد بأن بين المستشرقين من يهتم بتحليل الجوانب الاجتماعية والدينية، ويمكنه ابداء الرأي النهائي في هذه الظواهر. لأن تحليل هذه الظواهر يحتاج الى تجميع معطيات معينة تتعلق بالواقع المعاش في البلدان العربية. ولا تكفي التحليلات النظرية لابداء رأي قاطع. اما مستقبل تلك البلدان، فأراه مستقبلاً غامضاً، خصوصاً ان الازمة التي تعيشها تلك البلاد تبدو ازمة ستطول. واتمنى ان يكون الطريق الذي يسير عليه حالياً حل القضية الفلسطينية دافعاً الى التوصل الى حلول للأزمات العربية الاخرى. فبعد كل هذه الازمات على العرب ان يأخذوا بزمام الامور، وان يعيدوا امتلاك تاريخهم من جديد. وفي النهاية اريد ان اؤكد الدور الذي يلعبه الدارسون العرب المتخصصون في الدراسات الاسبانية، اذ يمكن هؤلاء اعادة الحوار المفقود بين العرب واوروبا، لأنني اعرف ان كثيرين بينهم يعملون الى جانب المستشرقين للتوصل الى نقاط لقاء يمكن ان تساعد على اعادة الحوار المقطوع بين الجانبين. * فرناندو دي أغريدا هو رئيس قسم المطبوعات والنشر في "معهد التعاون العربي" التابع لوزارة الخارجية الاسبانية. "الاستشراق الاسباني" هو موضوع دراسة الدكتوراه التي قدمها في قسم اللغة العربية، في جامعة الاوتونوما مدريد. له العديد من المساهمات في الدراسات الادبية والترجمة من العربية الى الاسبانية، اذ شارك في اعداد مجموعة من الكتب المهمة، بينها "مختارات من الادب العراقي المعاصر"، "مختارات من الادب المغربي المعاصر" و"مختارات من الادب التونسي المعاصر". رودولف بيترز : الغرب لم يحترم الثقافات الخاصة والمستقلة للشعوب الاخرى - 1 - جذر المشكلة يمتد الى الثلاثينات والأربعينات من هذا القرن، عندما طرحت المؤسسة الاستعمارية الغربية خيارها الخاص في العالم العربي على يد أقليات منتقاة وليس عبر الغالبية الواسعة من السكان، متبنية أهدافاً مثل الديموقراطية والليبيرالية والاشتراكية، وهي قوالب لم تكن لها جذور أو اصول في المجتمع الاسلامي والعربي. وبعد مرحلة الاستقلال، كان من الطبيعي أن تظهر ردود الفعل، وان لم يكن مباشرة لأن النموذج الغربي دام لبعض الوقت. وأول تجسيد لردود الفعل هذه كان في اللجوء الى الفكر "القومي" والحركة القومية العربية. الا ان هذه الفكرة سرعان ما فقدت صدقيتها بعد حرب حزيران يونيو. وكان أن بدأت المعارضة للغرب ولمفاهيمه - وهي معارضة للأنظمة الحاكمة أيضاً - تجد في الخطاب الاسلامي مجالاً مواتياً للتعبير عن نفسها. وكانت نزعة معاداة الغرب نزعة عالمية، على اية حال، وهذا أمر طبيعي لأن المفهوم الغربي لم يترك المجال لسياسات محلية تتجذر من خلال الثقافات الخاصة والمستقلة للشعوب. ودفع التطور اللاحق للحركة الاسلامية الى رد فعل يكاد يكون مماثلاً، اذ اهمل ممثلو هذا الاتجاه ودعاته الجانب الايجابي للديموقراطية وحقوق الانسان والليبيرالية الاجتماعية وأغفلوه. فالحركة الاصولية ترفض هذه المفاهيم على أساس انها مستوردة ومستعارة من الغرب، ولا تصلح للتطبيق في المجتمع الاسلامي. ولكن على الصعيد الواقعي، لا يمكن الحديث عن أصولية اسلامية في شكل عام. هنالك تيارات معتدلة وأخرى متطرفة تؤمن بممارسة العنف، وأنا أتحدث هنا عن مصر وتونس، اذ لدي اطلاع على اوضاع هذين البلدين بحكم تخصصي الأكاديمي. وكنا شهدنا في مرحلة مبكرة، أصولية أخرى تحررية دافعت عن الاسلام وردت على كثير من المقولات التي تنظر الى الاسلام بوصفه ديناً غير متسامح. ودعا ممثلو هذا الاتجاه الى الحوار مع الغرب، وان لم يكن مباشرة، كما فعل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا و قاسم أمين. أما اليوم، فالحركة الاصولية حركة صماء ولا تقيم للحوار مع الغرب أية أهمية. وهذا ما يقوي ويكرس الصورة المشوهة عن الاسلام، على أساس أن الاسلام هو الاصولية والاصولية هي الاسلام، وانهما الخطر الأول على الغرب والعالم الحر. والأصولية من جانبها تتوجه الى مواطنين لهم فكرة سلبية عن الغرب تقوم بتعميقها. واذا اضفنا ما يقوم به الاسرائيليون من تضخيم للخطر الاصولي على أساس أنه البديل من الخطر السوفياتي، فالنتيجة واضحة. - 2 - للتحدث عن تأثير الاصولية على المهاجرين في هولندا يجب النظر الى تكوينهم الاجتماعي. لدينا اساساً الأتراك والمغاربة. والأخيرون في معظمهم أميون فقراء ولا يعرفون القراءة والكتابة، ولا يعرفون حتى اللغة العربية. دينياً لهم خلفيتهم الخاصة بهم، وهم ما يطلق عليه هنا باسلام المشايخ. بين هؤلاء لا أظن أن للاصولية تأثيراً أساسياً، لسبب بسيط هو وضعهم التعليمي الذي لا يسمح لهم بالاطلاع على الكثير من النصوص الدينية وقراءة القرآن الكريم والحديث الشريف. كما أن هناك سبباً آخر هو أن غالبية أئمة الجوامع المغربية تسميها الحكومة المغربية، وهي لن تبعث بامام اصولي بالطبع. ويختلف الوضع قليلاً بين الاتراك لأن المستوى التعليمي للمهاجرين الأتراك أعلى بعض الشيء. وربما امكن القول ان الاصولية التركية في البلاد أقوى لكنها ليست بالمستوى الذي يعد تهديداً. كما ان الحكومة التركية، مثل المغربية، هي التي تعين غالبية الائمة في الجوامع التي يصلي فيها الأتراك. هنالك بعض المجموعات مثل جماعة "السليمانيون"، لكنهم يفتقدون الحضور الواسع بين المسلمين الأتراك. الواقع السيّئ للعلاقة بين الغرب والشرق، تزيده الاصولية سوءاً. وعلى رغم أننا في المؤسسات الأكاديمية نحاول التأكيد أن الاصولية بُعد من أبعاد عدة للاسلام، وأن الغالبية العظمى من المسلمين تختلف مع الاصولية. الا أننا نواجه صعوبة شديدة لأن اللغة الاعلامية اليومية تكرس الصورة المشوهة، ويساهم في التشويه بعض الفئات المتعلمة والصحافيين. إن نقد صحافتنا أمر واجب لأنها تمضي بعيداً في تسويق مفهوم خاطئ. وهي تعيد ما قامت به اثناء الحرب الباردة من حماسة زائدة ضد "العدو" المفترض! وهي تتعاطى مع موضوع الاصولية باعتباره خبراً جذاباً للقارئ، لأنها من ناحية تتبنى العنف والارهاب، ومن ناحية أخرى تختلف عن الواقع الغربي وتتصارع معه. ويمكن ان تكون نيات بعض الصحافيين طيبة، ولكن يجب ألا ننسى المقربين من المؤسسات السياسية الحزبية التي لها مصلحة في التلاعب بالرأي العام وتوجيهه. وهؤلاء يروجون عن قصد لصورة مشوهة عن الاسلام. وحتى الصحافي الموضوعي يواجه عوائق مهنية في تغطيته الموضوع الاسلامي. فرؤساء التحرير يبحثون عن "خبر"، والحديث عن الاسلام المتنور أو المعتدل لا يعد خبراً ولا يجتذب القارئ. في العالم العربي أيضاً، تُشوَّه صورة المجتمع الغربي. وهي صورة مشوهة على أية حال بفعل المسلسلات الأميركية، وأعتقد ان بعضاً من صانعي السياسة العربية يسيء الى صورة الغرب بقصد سياسي، على رغم أنه يعرف الغرب ويعرف أن الصورة المطروحة للاستهلاك الداخلي غير صحيحة. - 3 - للمجموعات الاسلامية هدف واحد، هو بناء دولة اسلامية. المسألة غير الواضحة هي هل يجب بناء هذه الدولة بتطبيق الشريعة أم باقامة دولة العدالة الاجتماعية. واذا كان ثمة فرق بين التيارات المختلفة، فهو في التكتيك الذي ينبغي اتباعه. بعضهم يلجأ الى العنف والسلاح، وبعضهم الآخر يريد اتباع أساليب أخرى. ومن منظور الحركات الاسلامية، هناك الكثير من التيارات المعتدلة. ففي مصر نجد "جماعة الدعوة" وعمر التلمساني، هؤلاء دخلوا البرلمان، ولديهم فيه ممثلون، وهم يؤمنون بالوسائل الديموقراطية. وهناك أيضاً جماعة البيعة والأخوان المسلمون. وفي تونس نقع على اتجاهات معتدلة مثل جماعة احميدة النيفر وجماعة صلاح الدين الجورشي وكانت تصدر مجلة "21 - 15" التي سعت الى اقامة حوار مع الغرب. لكنهم لا يملكون رصيداً كبيراً وتنظيماتهم تفتقر الى القوة. واذا عدنا الى مصر والحركات الراديكالية الأخرى فيها مثل "حركة الجهاد" و"الجماعة الاسلامية" والى ما هنالك من التسميات، فتجوز مقارنة هؤلاء بجماعة "بادر ماينهوف" الارهابية الالمانية. وعلى رغم الخطاب المثير للمشاعر الذي يستخدمونه، ويكسبهم بعض الأنصار، الا انني اعتقد ان الغالبية العظمى من الشعب المصري ضد العنف واستهداف السياحة والسياح. عشت في مصر سنوات عدة، وأزورها بانتظام كل سنة، وأنا على ثقة بأن المصريين لا يحبذون العنف. الآن نعود الى السؤال عن مستقبل الاصولية. الجواب ان لا مستقبل لها. فاذا وصل ممثلوها الى السلطة، كما هي الحال في إيران، ستجد نفسها بعد بضع سنوات مضطرة الى التوقف عن العنف والتشدد، والتحول الى سياسات عقلانية. والأصوليون يعرفون أن الدولة التي يدعون الى بنائها موجودة على الورق فقط، وليس في الامكان تجسيدها في الواقع من دون عنف شامل يتعارض مع مصلحة البشر... ومع الأزمة الاقتصادية التي تضرب العالم كله، ستجد التجربة الاصولية نفسها ملزمة تحوير سياستها، والا واجهت عزلة دولية ومعضلات لا تملك حلولاً لها. وخير مثال على ذلك، تجربة اصوليتنا المسيحية التي لها حزبها السياسي الخاص الذي لا يحوز الا ستة مقاعد في البرلمان. وهو متورط الآن بسبب منعه النساء من الانتساب الى الحزب "تطبيقاً لتعاليم الانجيل" حسب ادعاء منظريه. لكنهم في حاجة الى هذه الأصوات في الانتخابات المقبلة! * يعتبر البروفسور رودولف بيترز من أبرز المتابعين في هولندا للحركات الاسلامية في مصر والعالم العربي. ويشغل منصب مدرس الفلسفة الاسلامية والفلسفة المعاصرة في جامعة ليدن. من أبرز مؤلفاته: "مفهوم الجهاد في العصر الحديث" باللغتين العربية والتركية، "الاسلام ضد الاستعمار" بالانكليزية والعربية، "خلفيات الجالية الاسلامية في هولندا" بالهولندية، "مقالات في التصوف" بالهولندية، "ثلاثون مقالاً حول الاسلام والسياسة والفقه الاسلامي" بالانكليزية. وله تحت الطبع كتاب جديد عن "الفقه الاسلامي المعاصر". يان بروخمان : الأصولية في العالم العربي ذنب من ذنوب المثقفين - 1 - الأصولية في العالم العربي اليوم، ذنب من ذنوب المثقفين الذين لم يبذلوا اي مسعى حقيقي لتحليل الظاهرة او التعاطي معها بالشكل المطلوب. ومن الناحية النظرية كل المسلمين أصوليون، كما أن الاسلام هو دين ودولة. أما من الناحية العملية، فالأمر ليس كذلك، واذا اخذنا مصر كمثال، نرى أنها دولة اسلامية ادارياً، ولكنها ليست دولة تيوقراطية على الطراز المألوف، بل دولة مدنية. واذا اردنا رصد العلاقة بين الدين والسياسة في العالم الاسلامي، نجد أن الاسلام كدين مرتبط بشكل لا فكاك منه بالسياسة. والسبب يرجع الى التاريخ الاسلامي، ونشأة هذا الدين. فهو بدأ كدولة ثم انتشر في البحر المتوسط. اما المسيحية، فعلى العكس من ذلك نشأت كديانة مضطهدة، ولم تستولِ على الدولة الرومانية الا بعد ثلاثة قرون من بداية دعوتها. والعالم العربي استفاد خلال القرنين التاسع عشر والعشرين من التجربة الغربية في بناء الدولة الحديثة، اي الدولة الوطنية أو القومية، او من خلال الجامعة الاسلامية. هكذا ظهر على السطح السياسي ما يعرف بالقومية العربية، وبالانتماءات القطرية. المسعى ذاته اتخذ مساراً مختلفاً في أقطار أخرى، هو المسار الاشتراكي. لكن هذه التجارب فشلت في الاجابة على التحديات التي طرحتها مسألة بناء الدولة الحديثة. والظاهرة الاصولية في الواقع محاولة الاصلاح الثالثة، وهي ستفشل مثل سابقتيها لأنها تفتقر الى أسس فكرية حقيقية. قلت في السابق وأقول الآن: لنترك الأصوليين يحاولون في السودان او الجزائر او ايران، وسنرى هل هم قادرون، كما يدعون، على معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها الدولة العربية الحديثة. ولدينا في هذا الصدد تجربة الاخوان المسلمين في مصر اثناء عشرينات القرن الحالي. فهم كانوا يحملون الأفكار نفسها ومالوا الى الاستجابة لذلك الشعور الاجتماعي الطاغي بين الأوساط الأكثر فقراً في المجتمع المصري. ونقرأ في الغرب، ويا للأسف، دراسات مستفيضة عن الظاهرة الاسلامية، بينما يندر أن تطالعنا دراسة وافية في المجال نفسه تحمل توقيع باحث أو مفكر أو مثقف من داخل العالم العربي. - 2 - أظن ان للظاهرة الاصولية تأثيراً سلبياً في العلاقة بين الدول الغربية والمنطقة العربية. وهي أصعب مع الدول الليبيرالية منها مع الدول الاصولية، حيث ستحجم الاستثمارات عن المجازفة بوضع اموالها في الشرق، الأمر الذي سينعكس سلباً على عملية الاصلاح الاقتصادي، ومساعي حل الأزمة الاقتصادية التي هي أساس المحنة الحالية. أما عن تأثيراتها على المهاجرين العرب والمسلمين، فلم يتكون لدي الانطباع أن الحركة الاصولية تمكنت من هؤلاء المهاجرين، على الاقل عندنا في هولندا. فضلاً عن أن ابناء الجيل الثاني منهم لن يتحولوا الى الاصولية قطعاً. المعروف هنا أن الحركة الأصولية تتركز بين أبناء الأوساط المحافظة والمتدنية التحصيل، وهم في الواقع ليسوا ناشطين سياسياً. كما ان العامل الاجتماعي عندنا لا يشجع على توسع الاصولية، لأن المهاجرين في هولندا - ومعظمهم من الأتراك والمغاربة - فقراء جداً بالمقارنة مع المواطن الهولندي. واعتقد بأنهم لا يمتلكون حتى الوقت الكافي للنشاط في مثل هذه المنظمات. وهنا اود القول ان اتهام المهاجرين العرب والمسلمين بالتطرف مجرد كلام فارغ ودعايات وحملات منظمة تشنها فئات ذات أهداف سياسية معروفة. - 3 - لا اعتقد بأن هناك الكثير من الفروقات بين الحركات الاصولية المختلفة. فهي تحمل التوجهات ذاتها تقريباً، ونحن في الغرب ننظر اليها من زاوية مضمونها العام أكثر مما نركز على التفاصيل التي تميزها. هذا هو انطباعي عموماً، ولكن كان في وسع مستشرق هولندي آخر تقديم فكرة اكثر دقة في هذا المجال. أما مستقبل تلك الحركات فأنا، كما أسلفت، لا ارى لها مستقبلاً، لأنها ليست واقعية وتفتقر الى البنية الفكرية اللازمة لبناء مجتمع معاصر، كما جرى في اوروبا عندما فرض التطور التاريخي بناء الدولة التي نعيش في اطارها الآن . * البروفسور يان بروخمان من أول الديبلوماسيين الهولنديين في العالم العربي. عاش في القاهرة وبيروت، وعاصر ولادة النزعات الادبية الجديدة. وهو يعد بين أصدقائه عدداً من أبرز الكتاب العرب مثل نجيب محفوظ والراحل يوسف الخال. - شغل منصب استاذ الدراسات الشرقية والاسلامية في جامعة ليدن حتى بلوغه سن التقاعد، وهو متخصص في الاسلاميات. - من أبرز مؤلفاته: "تطبيق الشريعة الاسلامية في مصر خلال القرن التاسع عشر والعشرين" 1960، "المعجم المفهرس للحديث النبوي الشريف" بالانكليزية، ستة مجلدات بدأها البروفسور فينسك في العشرينات، ثم اكملها بروخمان عام 1965، وصدرت عن دار "بريل" في ليدن، "مقدمة لتأريخ الأدب العربي الحديث" بالانكليزية، دار "بريل"، 1984، "أركان الاسلام" بالهولندية، دار "مولينهوف"، 1991. يوهانس يانسن : القلق الحضاري والخوف من التطور التكنولوجي الزاحف - 1 - الظاهرة الاصولية في العالم العربي والاسلامي، تشبه الى حد بعيد الحركات التي واجهتها الديانات الأخرى، أي اليهودية والمسيحية. فهذه النزعات تشترك في تبني دعوة تسطيح الدين وتقليصه من تقاليد روحية واسعة شاملة الى ايديولوجيا محددة ، تتطلع الى اجراء تغييرات في نظام الحكم. أي اننا امام تحويل الدين الى ايديولوجيا. وبالنسبة الى المواطن العربي والمسلم، فإن مصدر القلق هو في اصرار الاصولية على تقديم نفسها طريقاً وحيداً الى الدين، على رغم أنها حركة سياسية أساساً، قائمة على القطيعة بين الحاكم والشعب. وكما هو معلوم فان العلاقة بين هذين القطبين، لم تكن عبر العصور علاقة مودة، بل علاقة خوف وصراع في الاتجاهين. وفي تقديري أن بين الأسباب التي تغذي الحركة الاصولية ذلك القلق الحضاري، والخوف من التطور التكنولوجي الزاحف الذي يحكم سيطرته على كل مرافق الحياة في المجتمع المعاصر. ان عصرنة الكوكب تثير القلق بالنسبة الى فريق كبير من السكان في العالم الاسلامي. خذ تقنيات الفيديو والاتصال والسينما والتكنولوجيا العسكرية الفائقة التطور التي تتوسع على حساب المواطن العادي وحرفه التقليدية. لم يعد هناك من حاجة في أيامنا الا الى اختصاصات معقدة كالطب والهندسة والعلوم النووية... وبلغة علم الاجتماع يمكن القول إن البنية الريفية والفلاحية للمجتمع تقف خلف العلاقة المتوترة هذه. - 2 - الظاهرة الاصولية تبعث على الخوف في المجتمعات الغربية. فهذه المجتمعات مبنية على علاقات مختلفة بين الدين والدولة. وعندما يسمع المواطن ان الديانات تلعب دوراً واسعاً وكبيراً في الشرق الاوسط فان ذلك يثير فيه مشاعر الحذر. وهكذا نجد ان الخوف عنصر متبادل: فالأصوليون يخشون الغرب، فيما الغرب يخاف الاصولية ويعتقد انهم يريدون منا أن نعيش تحت ظل الشريعة الاسلامية كما يفهمونها. أما تأثير الظاهرة على المهاجرين، فله مستويات عدة حسب طبيعة المهاجر. فكثير من المهاجرين نجح في المجتمع الغربي وليست لديه أية مشكلة. لكن هناك من فشل لأنه لا يمتلك مؤهلات علمية أو دراسية ولا يتحدث لغات الغرب. ومن الصعب الحديث عن المهاجرين من دون ان نضع في بالنا هذا التمايز. فالفرق في المواقف والسلوك هائل بين الفئتين المشار اليهما. لكنني اعتبر ان قضية الكاتب سلمان رشدي تركت آثاراً عميقة داخل الجالية الاسلامية في هولندا. فالقضية، الى جانب الدعاية الايرانية، انعكست في شكل سلبي جداً. وقبل "مسألة رشدي" عرفت شخصياً الكثير من الهولنديين الذين يتوجهون الى اعتناق الاسلام، لكن عدد هؤلاء تناقص في شكل ملحوظ. ومرجع الخوف هو اعتقاد الهولنديين أن بعض القيادات الاسلامية يريد الحجر على حرية التعبير والنشر والحريات الشخصية التي جاهد الغربيون في سبيلها مدة أربعة قرون. قد لا يكون ذلك الاعتقاد صحيحاً، لكن الواقع يشير الى ذلك. والقناعة الخاطئة التي عززتها وعمقتها الفتوى الخمينية، هي أن الاسلام دخيل على الغرب واوروبا. قبل هذه الأحداث كان المسلمون يعيشون في هولندا حياة عادية، ويتمتعون بالحقوق نفسها التي يتمتع بها معتنقو الديانات الاخرى. - 3 - تهتم الحركات الاصولية معظم الاحيان بالمشاكل المحلية للبلد الذي تعيش فيه، ولم نلاحظ تلك النظرة العميقة لمواجهة مشاكل المجتمع الاسلامي. فالأصوليون الجزائريون مثلاً، يتحدثون عن مشكلات الجزائر وليس في علمي انهم اهتموا بالمشكلات السودانية او الألبانية، في ما عدا المواقف العامة والتحركات التضامنية. واذا لم اكن مخطئاً، فالحركات الاصولية ذات طابع محلي وتفتقر الى برامج ومشاريع دولية اوسع. وفي تقديري أننا لو أعطينا الحركات الاسلامية الاصولية الحرية السياسية، لشغلها القتال بين فصائلها واتجاهاتها، فهي لا تكفر الآخرين فقط، بل يكفر بعضها بعضاً، وتتنافس في ما بينها تنافساً حاداً جداً. وموقف الحاكم العربي او الاسلامي الآن صعب حقاً: فهو اذا منح هذه الحركات المتطرفة ما تطالب به من حرية، لا يعرف هل بوسعه التحكم في عواقب هذه الخطوة وما يترتب عليها من مضاعفات، واذا لم يمنحها تلك الحرية، فهي ستحظى بتعاطف الجمهور وتتوسع. واذا سُئلت عن موقفي الشخصي، فأنا أعتقد بأن الاصولية قد تنمو مع الحرية، لكنها في ظل المنع، ستتوسع أكثر. اذن ما العمل؟ هذا الخيار خيار القادة العرب. أما مستقبل الاصولية فهو الفشل، تماماً كما حصل مع اصوليتنا المسيحية التي رفعت شعارات اكثر تطرفاً من الاسلاميين. ورفضت على سبيل المثال تفسير العهد الجديد، فيما تقبل الاصولية الاسلامية بتفسير القرآن الكريم. ولأصوليتنا حزبها السياسي، ولكن ليس له أي تأثير فعلي في الحياة المدنية، ولم يحصل الا على قدر قليل من اصوات الناخبين. ولو حجرنا عليه، لربما كان الامر مختلفاً... * البروفسور يوهانس يانسن من ممثلي الجيل الثاني من المستشرقين في هولندا. تمتاز تجربته الشابة بالانفتاح، وتتركز خبرته الميدانية على تونس وشمال افريقيا عموماً، اضافة الى مصر والمشرق العربي. أستاذ الفلسفة الاسلامية والادب العربي في جامعة أمستردام من أبرز مؤلفاته: "مناهج تفسير القرآن الكريم في مصر" بالهولندية والبوسنية، أمستردام وساراييفو، 1980، "الفريضة الغائبة" بالانكليزية، دار "ماكميلان"، نيويورك، 1986، "المدخل الى الاسلام" بالهولندية، دار "كوتينهو"، ميدلبورغ، 1988، "ترجمة معاني القرآن الكريم" بالهولندية، بالاشتراك مع الأستاذين أسعد جابر وج. كرامرز، دار "آخون"، أمستردام، 1992. الاسبوع المقبل ستة مستشرقين من ايطاليا