موعد مباراة النصر مع الغرافة في دوري أبطال آسيا للنخبة    رائد التحدي يسقط العروبة    انترميلان يقسو على هيلاس فيرونا بخماسية في شوط    إحباط تهريب 400 كيلوغرام من القات في عسير    الطاقم الطبي يحدد موقف محترف الأهلي من مواجهة العين    ابن وريك يدشن معرض الأمراض المنقولة بالنواقل في مهرجان الدرب    5 مطارات تتصدر تقارير الأداء لشهر أكتوبر 2024    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    وزير الثقافة يلتقي مبتعثي برنامج أسس صناعة المانجا في اليابان    اتحاد الغرف يعلن تشكيل أول لجنة من نوعها لقطاع الطاقة والبتروكيماويات    يناير المقبل.. انطلاق أعمال منتدى مستقبل العقار في الرياض    ضيوف برنامج خادم الحرمين يتجولون في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف بالمدينة    ترمب يرشح سكوت بيسنت وزيراً للخزانة    الفنان المصري وائل عوني يكشف كواليس طرده من مهرجان القاهرة السينمائي    التحقيق مع مخرج مصري متهم بسرقة مجوهرات زوجة الفنان خالد يوسف    معتمر فيتنامي: أسلمت وحقق برنامج خادم الحرمين حلمي    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    مصدر أمني يؤكد استهداف قيادي في حزب الله في الغارة الإسرائيلية على بيروت    "الجامعة العربية" اجتماع طارئ لبحث التهديدات الإسرائيلية ضد العراق    بريدة: مؤتمر "قيصر" للجراحة يبحث المستجدات في جراحة الأنف والأذن والحنجرة والحوض والتأهيل بعد البتر    ضبط 19696 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مشروع العمليات الجراحية خارج أوقات العمل بمستشفى الملك سلمان يحقق إنجازات نوعية    24 نوفمبر.. قصة نجاح إنسانية برعاية سعودية    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    الخليج يواجه الشارقة الإماراتي .. وعينه على اللقب الثاني في "آسيوية اليد"    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الملافظ سعد والسعادة كرم    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    المؤتمر للتوائم الملتصقة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملف "الوسط" عن "عاصفة التسعينات" الاصولية تحت مجهر ستة مستشرقين من ايطاليا الحلقة السادسة

إيزابيلا كاميرا دافليتو : الظاهرة الأصولية وليدة منطق سياسي لماذا الربط بينها وبين الدين ؟
* هناك حاجة الى التوازن في قراءة ما يحدث في العالم العربي، ومسؤولية الغرب هنا كبيرة و ثقيلة.
في الحلقات الخمس الماضية، نشرنا وجهة نظر كل من جاك بيرك، مكسيم رودنسون، دومينيك شوفالييه وبيار تييه فرنسا، هومي بابا، فرد هاليداي، روبن أوستيل وديريك هوبوود بريطانيا، فيتالي ناوومكين، ألكسندر سميرنوف وآرتور سعادييف روسيا، بيدرو مارتينيث مونتابيث، كارمن رويث، مرثيدس ديل آمو، فرناندو أغريدا إسبانيا، رودولف بيترز، يان بروخمان، يوهانس يانسن هولندا، روجر أوين، جون فول، ريتشارد بوليت، جون إيسبوسيتو الولايات المتحدة الأميركية الذين ساهموا في معالجة الظاهرة الاصولية انطلاقاً من المحاور الثلاثة الآتية:
1- كيف تفسر الظاهرة الاصولية، وما يحدث في العالم العربي اليوم؟
2- ما هو برأيك انعكاس هذه الظاهرة على العلاقة بالغرب، وعلى المهاجرين العرب والمسلمين؟
3- ما الذي يميّز الحركات الاصولية بين بلد عربي وآخر، وكيف ترون الى مستقبل تلك الحركات عموماً؟
وفي هذا العدد تعطي "الوسط" الكلمة لستة مستشرقين من إيطاليا.
- 1 -
قضية الأصولية الاسلامية واجهت تضخيماً مبالغاً فيه من قبل أجهزة الاعلام الغربي. سأجيب على هذا السؤال منطلقة من معرفتي بالاعلام الغربي، فالغرب كان وما يزال بحاجة الى "اختراع" عدو حتى يضمن لنفسه خطاً دفاعياً، ويظل مترفعاً ومتعالياً على ما تبقى من العالم.
لسنين طويلة، أو حتى لعقود، كان هذا العدو متمثلاً بالشيوعية وبالمعسكر الشرقي. وعندما انهارت الشيوعية، برز لدى الغرب التساؤل التالي: من سيكون عدونا المقبل؟ واذا به يسحب من خزانة تراكم عليها غبار الزمن صورة العدو التاريخي القديم المتمثل بالعالم الاسلامي.
لكن الغرب كان أيضاً بحاجة الى وسيلة لاقناع مواطنيه بمصداقية هذا الاكتشاف "الجديد -القديم". لذا كان طبيعياً أن يحاول ترسيخ ملامح "البعبع"، من خلال تقديم الأصولية الاسلامية في صورة العدو العنيف. واستغل لتقديم هذه الصورة كل ما يمكن أن يمت الى العالم الاسلامي بصلة.
فنحن وعلى الرغم من وجود مظاهر أصولية كثيرة في الديانة المسيحية أو الديانات الأخرى في الغرب، لا نسمع حديثاً عن "عنف هذه المظاهر الأصولية"، في حين نرى هذا المنطق يطبق على العالم العربي.
إطّلعت أخيراً على الترجمة الايطالية لأحد كتب المستشرق الانكليزي العجوز بيرنارد لويس، وهو ينتمي الى المدرسة القديمة القريبة من المنطق الاستعماري. نشر الكتاب في طبعته الايطالية تحت عنوان "القتلة، الارهابيون الأوائل في التاريخ"! وعندما تنشر دار نشر مشهورة وكبيرة في ايطاليا كتاباً بهذا العنوان، فمن الواضح أن لديها هدفاً في تزييف الحقائق. وليس هذا الا مثالاً مصغراً عمّا يكمن في الغرب من استعداد لرؤية الجانب السلبي فقط من العالم العربي.
بطبيعة الحال لا أود أن يفهم من كلامي أنني لا أرى مظاهر أصولية ذات طابع عنيف، وارهابي أحياناً، في البلدان العربية. ولو كان الامر كذلك، لكنت أنا أيضاً أسيرة الخطأ نفسه، لكوني لا أرى سوى جانب واحد من الحقيقة العربية. لكني أعتقد أن هناك حاجة الى التوازن في قراءة ما يحدث في العالم العربي. ثم أن هناك "وحوش" في بقاع العالم أجمع. نحن أيضاً لدينا "وحوشنا"...
أرى أن الظاهرة الأصولية العنيفة، هي وليدة للمصاعب التي تجتازها بعض البلاد العربية، وبالذات على الصعيد الاقتصادي. لكن حتى هذه المصاعب الاقتصادية ليست وليدة اليوم، وان كان للزعامات الحالية دور في تعميقها، فهي وليدة السياسة الاستعمارية، والامبريالية الثقافية، والاستعمار الجديد. لذا ففي اعتقادي أن مسؤولية الغرب في هذا الاطار كبيرة و ثقيلة.
وعلى أية حال فإن أخطاء الزعامات العربية، وغياب الديموقراطية والحرية في العديد من البلدان العربية، من العوامل التي تساهم في شق الطريق أمام صعود تيارات عنيفة تستفيد من غضب الناس، وتستغل هذا الغضب. وأرى أنه في ظل مناخ من الحرية، والاعلام الحر، فإن غالبية الناس لن تصغي الى شعارات الحركات الأصولية، ولن تقتنع بمنطقها.
ومع هذا فإن الغرب لا يحاول التوصل الى هذه القراءة الموضوعية للوضع العربي، أو بالأحرى لا يرغب في تقديم صورة حقيقية. يكفي أن ترى نشرات الأخبار، فهي عندما تتحدث عن الظاهرة الأصولية ومظاهرها العنيفة، تذهب لتصوير الناس وهم يؤدون شعائر دينية أو يصلّون في المساجد، ثم تربط بين هذه الصورة والحديث عن "العنف الاسلامي"!
ترى لماذا لم تفكر محطات التلفزيون في الحديث عن الظاهرة الأصولية في الديانات الأخرى - وهي موجودة بالفعل - من خلال الربط بينها وبين مشهد آلاف المؤمنين الذين يؤمون ساحة القديس بطرس في الفاتيكان كل يوم أحد للاستماع الى قداس الأحد الذي يحييه البابا يوحنا بولس الثاني، أو اولئك الذين يقفون أمام حائط المبكى في القدس؟ ثم من أجاز لهؤلاء الصحفيين أن يطلقوا على بشر عاديين يؤدون شعائرهم الدينية، صفة "الأصولية"؟ كل ذلك يدفعنا الى اكتشاف درجة الزيف في الصحافة والاعلام الغربيين، ومدى استعداد البعض الى استخدام ضغائن دفينة تجاه العالم العربي والاسلامي.
-2-
أعتقد أن ما يحدث في الغرب إزاء هذه الظاهرة، عبارة عن "خط دفاعي"، ضد "هجوم" مفترض وموهوم. وتظهر النتائج بوضوح على المهاجرين العرب والمسلمين بشكل عام. فغالبيتهم تعيش في ظروف قاسية، وفي حالات العزلة الاجتماعية. كما يعاني أبناء المهاجرين من مصاعب عديدة سواء في الدراسة أو ممارسة شعائرهم الدينية. ففي مدينة كبيرة مثل روما، لا وجود لمسجد، والمسجد الذي أنشئ لم يفتتح بشكل كامل حتى الآن.
شخصياً لا أعتقد بوجود جماعات أصولية متطرفة في ايطاليا. كما لا أرى أية ضرورة موضوعية أو فلسفية للربط بين الدين والظاهرة الأصولية التي هي نتاج منطق سياسي. فأنا أفضل، في هذه الحالة، الحديث عن حركات سياسية ذات طابع رجعي أو حتى فاشي في بعض الأحيان، تستخدم الدين درعاً وشعاراً للتأثير على ذهنية الناس. وهذه الحركات ليست محصورة في العالم الاسلامي فحسب، بل هي موجودة في الغرب أيضاً.
* إيزابيلا كاميرا دافليتّو أستاذة الادب العربي في جامعة نابولي، وهي متابعة متمهلة لشؤون وقضايا العالم العربي. لها مؤلفات حول الادب العربي المعاصر، وترجمات لافتة في المجال نفسه لأعمال غسان كنفاني "عائد الى حيفا"، وحنا مينه "الشراع والعاصفة" وآخرين. وتدير سلسلة خاصة بالادب العربي المعاصر، في دار نشر معروفة في روما.
فرانشيسكو غابرييلي : الاصولية تنطوي على عناصر ايجابية وأفضلها على الخيارات القومية البحتة !
* يخشى الغرب من الاسلام، لكن هذا القلق لا يستند الى أي أساس منطقي على الاطلاق...
-1-
لا بدّ لي، بدءاً، من الاشارة الى كوني لا أعرف جيداً "النظرية" التي تستند اليها الاصولية بشكل عام. لكن بإمكاني القول إنني أرى أن هذه النظرية تنطوي، بشكل من الاشكال، على بعض الايجابية، قياساً الى الحركات "القومية" البحتة التي تتميّز بها بعض الدول الغربية.
"الاصولية" تنادي الى "الكونية الاسلامية"، وهي تعبير عن الرغبة في لمّ شمل كل الشعوب، لا شمل شعب واحد بحدّ ذاته. من جانب آخر، ليس بإمكاننا أن نغض الطرف عن أحد المظاهر التي تمتاز بها الحركة الاصولية، أي "العنف" الذي يبرز في حالات كثيرة. فهذا المظهر يحوّل الحركات نفسها الى سبب وحافز للقلق. وما حدث ويحدث في البلدان العربية، لا يمكن أن يمرّ من دون اثارة القلق.
لكن الرغبة التي يعلن عنها بعض الحركات الاصولية في تطبيق مبادئ الدين، بغضّ النظر عن الاختلافات والتباينات القومية والاجتماعية أمر يمثل خياراً ايجابياً. وأنا أفضّله، في بعض الحالات، حتى على الخيارات "القومية" البحتة ذات الطابع الغربي. فهذه الاخيرة تعتمد، في كثير من الاحيان، على خيارات ليست أقل عنفاً من الحركات الاصولية نفسها.
-2-
واضح أن الغرب يشعر بالقلق إزاء ما تنطوي عليه تلك الظواهر من عنف. وهذا القلق يدفع بالكثيرين الى التساؤل اذا لم تكن لدى الاسلام رغبة في "فتوحات" جديدة، كما حدث في القرون الوسطى، وهو قلق لا يمتلك طبعاً أي أساس منطقي على الاطلاق.
ليس في امكاني تخمين نسبة مناصري الحركات الاصولية بين الشعوب العربية والمسلمة، ولا تخمين نسبة الدعم الذي تحصل عليه هذه الحركات في صفوف العرب والمسلمين المقيمين في ايطاليا... إنما أغلب الظن أن عدد هؤلاء لا يزال محصوراً. وعلى الرغم من أن عدداً لا بأس به من المسلمين يقيمون في ايطاليا، فلا أعتقد أن الافكار الأصولية وجدت أو ستجد طريقها اليهم هنا، أو في أوروبا بشكل عام.
فقلق الغرب، وطريقة البعض في تفسير هذه الظاهرة مبالغ فيهما بعض الشيء. لكنني لا أعتقد أن علاقة ايطاليا مع المهاجرين العرب كانت علاقة عنيفة، أو قامت على أي نوع من أنواع العداء والتمييز. فاذا استثنينا بعض "تظاهرات" العنصريين ضد الاجانب بشكل عام، يبقى السلوك الايطالي بشكل عام أقرب الى التعاطف مع العرب والمسلمين.
إلا أن الارتفاع المتواصل لعدد المهاجرين العرب والمسلمين في أوروبا يطرح، بطبيعة الحال، مجموعة من المشاكل والتحديات التي على الحكومات القائمة تداركها، أو مواجهتها وتجاوزها، من خلال سياسات ذكية راقية تعرف كيف تتعامل مع القضية على مختلف المستويات.
-3-
لا أعتقد أن ما حدث في القديم من انقسامات مذهبية سيتكرر في الوقت الراهن. فالحركات الاصولية تبدو متحدة بشكل واضح في مجابهة "الدولة" القائمة - برأيها - على أسس ومفاهيم "غربية".
وعلى الرغم من خصوصية كل حركة من هذه الحركات على أرض الواقع، فأنني لا أرى اختلافات في الجوهر. هناك كلام ومعلومات عن بعض التباينات والاختلافات، الا أنها سطحية، متعجلة، وغير قادرة على منح الغرب امكانية قراءتها بالشكل الموضوعي اللازم. وهناك في الغرب من ينظر الى الاصولية كحركة "موحّدة ومتحدة"، تتجاوز "الانقسامات" المفروضة من "الدول" المبنية على المفهوم الغربي. ويرى هؤلاء في الحركات الاصولية، محاولة للعودة الى مفهوم كوني للاسلام.
أما عن التباينات الموجودة بين حركة اسلامية وأخرى، فيصعب عليّ أن أجيب على هذا السؤال بشكل دقيق، اذ أنني لا أتابع المسألة إلا في خطوطها العريضة. لكني أتساءل بدوري لمَ لا يقوم الباحثون العرب بدراسة هذه الظاهرة، وتفسير مفاهيمها ومنطلقاتها وأهدافها للغرب. فلا شك أن عملاً من هذا القبيل سيكون حافزاً كبيراً على الحوار، وخطوة تساعد على ادراك خصوصية العالم العربي والاسلامي.
* يعتبر البروفسور فرانشيسكو غابرييلي المولود في روما عام 1904، عميد المستشرقين الايطاليين. تتلمذ على يده عدد كبير من الباحثين والمتخصّصين في العالمين العربي والاسلامي. درّس غابرييلي الادب العربي واللغة العربية في جامعة روما، لسنين طويلة. نشر عدداً كبيراً من المؤلفات من بينها "تاريخ الحضارة الاسلامية" 1947، وقدّم للقارئ الايطالي عدداً من فرائد الادب العربي والاسلامي، من بينها ترجمة شهيرة لكتاب "ألف ليلة وليلة"، ومختارات من كتابات المؤرخين العرب للحروب الصليبية. ترأس لسنين "أكاديمية العلوم الايطالية"، وهو الآن عضو في مجلسها التنفيذي. كما أنه كاتب معروف بأسلوبه الشيّق، ينشر بعض مساهماته ومقالاته في عدد من الصحف الايطالية.
دانييلا آمالدي : الاصولية نتيجة منطقية لعجز "الايديولوجيات" الغربية
* القوى السياسية المحلية، لم تنجح في العثور على مخارج مناسبة للازمات التي تعاني منها دول المنطقة
-1-
لا شك أن انتشار الظاهرة الاصولية في العالم الاسلامي، خلال السنوات الاخيرة، ليست سوى نتيجة لعجز "الايديولوجيات" الغربية عن توفير اجابات لمشاكل العالم الاسلامي. وأعتقد أن المذاهب "الاشتراكية" و"الرأسمالية"، لم تتمكن من توفير حلول لأزمات الشعوب الاسلامية، تماماً كما عجزت عن توفير الحلول للشعوب الأخرى. وولّدت هذه الافكار ردود فعل سلبية جداً لأنها بالاضافة الى عجزها، كانت مستوردة من بلاد "استعمارية" قديمة أو جديدة.
في الوقت ذاته، لم تتمكن القوى السياسية المحلية في العديد من البلدان الاسلامية، من العثور على مخارج مناسبة للازمات التي تعاني منها بلادها، ولأزمات المنطقة. وأعتقد بأن "المسجد" أصبح في ظل وضع كهذا نقطة الضوء واللقاء الوحيدة القادرة، في أضعف الاحتمالات، على حل الاشكاليات الوجودية، واحياء الآمال كي تنبض من جديد قلب الثقافة العربية والاسلامية.
-2-
كعادته، يميل "الغرب" الى تسطيح وتبسيط الاشكاليات، فيقع في مطب قراءة أحادية الجانب لهذه الظاهرة. ويفقد القدرة على أو الرغبة في استيعاب أوجه الشبه أو التباين بين واقع وآخر في العالم الاسلامي، وبالتحديد بين مظاهر وتجليات "الاصولية". ويؤدي ذلك الى علاقة معرفية سطحية بالآخر، علاقة يصبح معها "المختلف" بالضرورة، مرادفاً للسلبية المطلقة.
واذا كان هذا الموقف السائد أحياناً في الغرب يحول، من جانب، دون أي لقاء خصب أو مواجهة بناءة، فإنه يؤدي على صعىد آخر، الى اعتبار كل ما ومن هو قادم من تلك البلاد بمثابة خطر محتمل. وبهذا يقع تحت طائلة "الاصولية" كل الذين قدموا من البلدان الاسلامية ويعيشون جنباً الى جنب مع الايطاليين. ونرى مشاكل الحياة اليومية والاختلاف الطبيعي في أساليب الحياة واللغة والعادات... تتضافر مع المشكلة ذات الطابع الايديولوجي، لتزيد من تعقيد أو ضاع التعايش الصعبة بحد ذاتها.
-3-
يصعب علي الاجابة على هذا السؤال بالشكل الذي يتناسب وأهميته. ذلك أن اهتمامي ينحصر بالادب العربي القديم، ما يحول دون امكانية التعرف على التفاصيل الدقيقة التي تميز بلداً محدداً، عن غيره من البلدان الاسلامية.
* تشغل البروفسورة دانييلا آمالدي من مواليد روما 1947 كرسي أستاذة الادب العربي في جامعة بيزا. ترجمت عدداً من الاعمال الادبية، وتخصصت في أدب نجيب محفوظ الذي ترجمت له روايات عدة من بينها: "زقاق المدق" و"الكرنك". وبين مؤلفاتها كتاب بعنوان "نجيب محفوظ والنقاد العرب". وآمالدي متخصصة في الشعر العربي القديم، ترجمت معلقات الجاهلية، وتعدّ الآن ترجمة ايطالية لديوان جميل بثينة.
آداليندا غاسباريني : كلنا مسؤولون عن الظاهرة الأصولية
* تطور أجهزة الاعلام، وتحوّل السياسة الى فعل كوني، تركا آثاراً عنيفة على الثقافات المحلية.
-1-
إن اهتمامي بالعالم العربي، ومعرفتي به، بدآ من خلال دراستي لحكاية علاء الدين والمصباح السحري، ولكتاب "ألف ليلة وليلة". ولاحظت أن هناك تشابهاً استثنائياً بين الخيال العربي والخيال الأوروبي، اذ تعرفت خلال بحثي على عدد كبير من حالات التبادل والاستعارة للرموز أو لطريقة استعمال الرمز وتقنيات السرد... بين الثقافتين. وبدا لي هذا الأمر في غاية الأهمية.
ودفعتني هذه "الاكتشافات" الى قناعة راسخة، هي أنه ليس هناك اختلاف جوهري بين الاصولية العربية والاصوليات التي ظهرت وتظهر في أوروبا أو في أميركا: فكل هذه الظواهر ردود فعل تتمسك بزمن غابر، متخلف، قياساً الى الواقع المعاش. وتتميز ردود الفعل هذه بالتناقض والفوضى، من هنا أن عملية ادراكها واستيعابها تقتضي الاستناد الى فكر واسع وعميق يمتلك قدرة مواجهتها والتعامل معها سياسياً.
إن ما يحدث على صعيد العصبيّة الفردية، يحدث أيضاً على صعيد العصبية الجماعية التي تتبلور في مواجهة الاحداث والظواهر العامة ذات القدرة على جمع شمل عدد كبير من الناس. ففي مواجهة المصاعب المقلقة والازمات، وفي غياب استراتيجيات مناسبة، يأتي الرد من خلال التحصن وراء مفردات ومعادلات وطرق تفكير لا تقبل الجدل أو النقاش. وهنا تصبح الديانات نموذجاً رمزياً تهرع اليه الجموع كوسيلة للخلاص، فيمتلك من يتحصن في هذا الخندق، "قدرة" على تقسيم العالم الى أخيار وأشرار.
إلا أن حالة القلق هذه تستدعي فعلاً ثقافياً مزدوجاً، وعملاً واعياً ينطلق من القناعة بأننا نحمل في ذواتنا - وفي شخصيتنا الجماعية وثقافتنا - بذور ايجابية ومؤشرات تطور وتعايش، كما نحمل مظاهر سلبية ومؤشرات تدميرية مختلفة. وأعتقد أن تطور أجهزة الاعلام وتحوّل السياسة الى فعل كوني تركا على الثقافات المحلية والخاصة آثاراً عنيفة، الأمر الذي دفع الجماعات الى الرد على ذلك بعنف يقرب من الرجعية. فتلك الجماعات شعرت باختفاء حدودها الخاصة وملامحها الثقافية المميزة، وبضياع هويتها كعامل موحد لا بد منه لاستقامة واستقرار الكائن البشري.
ما حدث في الغرب هو أننا خلطنا استقلالية التفكير مع السياسة، وذلك بغرض التخلص من السلطة الدينية العقائدية التي تغلغلت في كل مكان. وعمدنا الى فهم علماني مطلق علّنا نتمكن من اقصاء القيم الاخلاقية الممثلة بالتفكير الديني. وربما لم يكن هذا الأمر ممكن الحدوث في العالم العربي، لعدم وجود تناقض جوهري بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. لكن اذا أقمنا مقارنة مع ما حدث في الغرب، سنجد أن من مخاطر ضياع خصوصية جماعة أو شعب، انزلاق أكيد الى مطبات التعصب، والتحصن داخل المواقف العقائدية الجامدة.
-2-
أعتقد أن عدداً قليلاً جداً من سكان الغرب يعون أهمية وعمق صلات القربى بين الثقافة العربية وثقافتنا. وهنا أيضاً، كما تلجأ فئات متطرفة الى العنف الاعمى في العالم العربي اليوم، فاننا عرفنا في الغرب "محاكم التفتيش" الكنسية والمحرقات التي اقامتها في مدن اوروبية. ونحن هنا ننسى هتلر، ونتجاهل ما يمكن أن يمثله أومبرتو بوسي، زعيم "رابطة الشمال" الانفصالية الايطالية.
وعلى الرغم من التداخل والتطابق الموجود بين الحركات الاصولية وسلوكنا الثقافي، فاننا نندفع الى اعتبار الاصولية الاسلامية أكثر "اساءة" وأكثر "خطورة"، ونحاول ادانتها من خلال كل ما يتراءى لنا من سلبيات في الثقافة العربية - الاسلامية. وعندما نعجز مثلاً عن معالجة مشكلة البيئة وتلوث الهواء الذي نتنشق في مدينة مثل فلورنسا بسبب ارتفاع استهلاكيتنا، فإننا بدل أن نبحث عن الاسباب الحقيقية والحلول، نلجأ الى اعتبار المهاجرين السود والعرب والمسلمين سبباً في تردي المدينة - عاصمة عصر النهضة - كما حدث قبل بضعة شهور!!
قبل عشرين عاماً كان السبب في "تردي مستوى الحياة" في مدننا الكبرى، العمال الايطاليون المهاجرون من مدن الجنوب نحو مدن الشمال الصناعية. أما اليوم، ف "الخطيئة" تقع على عاتق المهاجرين السود، الذين تُطلق عليهم جميعاً تسمية "المغاربة". وبذا أصبح جميع المهاجرين من العرب وسكان شمال افريقيا ومهاجري الجنوب الايطالي والافارقة... هم ال "مغاربة".
وبطبيعة الحال، اذا واصلت اجهزة الاعلام ضخ المعلومات الخاطئة والمزيفة، وأخبار العنف دون سواها... واذا استغرق الناس في جهلهم كل ما يمت الى العالم العربي بصلة، فسيكون من العسير جداً أن يدرك الرأي العام الفرق بين حالة العنف غير المبررة، والخصوصية التاريخية والدينية لشعب ما. إن هذا الواقع، برأيي، هو مشكلة ثقافية بالمعنى الواسع للكلمة.
وأتمنى أن نتمكن جميعاً من تحويل حالة الأزمة هذه الى حافز للتطور والنمو. وبالنمو أعني ايضاً تنامي قدرة البشر على معرفة "الذات" ومعرفة "الآخر". وأكرر أن الاصولية كاشكالية تخص كل العالم، والطريقة الوحيدة لعلاجها هي أن نعتبر أنفسنا جميعاً مسؤولين، بدرجات متفاوتة، عن مظاهر العنف والتطرف واليأس الجماعي التي تقوم عليها الاصولية. وهذا يفترض تجاوز أشكال التفكير البدائية التي تجعلنا نرى "العدو" و"الشر" في الآخر، ونعتبر أننا إذا تمكنا من اسكاته، وتصفية ثقافته، واجباره على التخلي عن معتقداته، فان كل الامور ستسير على ما يرام.
هذه النظرة السطحية والبدائية، تحظى بالشعبية في كل مكان. ولا ينبغي أن ننام على وسادة مريحة بحجة أنها أقل شيوعاً عندنا من أماكن أخرى. فتأثير "رابطة الشمال الايطالية"، على سبيل المثال، لم تعد تنحصر في مقاطعات الشمال الايطالي فحسب، بل تمتلك الآن عدداً كبيراً من المناصرين في مقاطعات ايطالية أخرى تميزت عبر التاريخ الايطالي الحديث بكونها مهداً للديموقراطية والتعايش المسالم بين البشر. وهذا امر يجب ان يثير قلق الديموقراطيين.
الحركات الاصولية تنمو وتتطور عادة في التربة التي غابت عنها الثقافة. واذا ما امعنا النظر في الواقع العربي، نجد خواء فادحاً في بعض المجالات، هو نتيجة عمى السياسة الاستعمارية الغربية. ويتعمق هذا العمى السياسي عندما نتصور بأن الهاوية بعيدة عنا. كما أن الاصولية تستجيب لحاجات الناس باحتواء وامتصاص العذابات، وهي قدرة عجزت الثقافة العلمانية عن امتلاكها والاستجابة لها.
* آداليندا غاسباريني1951 متخصصة في علم النفس والعلاج النفسي، ولها بحوث ودراسات عديدة في هذا المجال. من أحدث اصداراتها كتاب "علاء الدين والفانوس السحري" 1993، وهي تعد حالياً لنشر ترجمة ايطالية لحكايات كتبت بلهجات شعبية، من بينها قصص لها جذور عربية واسلامية.
سلفاتوري بونو : هل العنف الا نتيجة طبيعية للقمع ؟
* الغرب معبّأ سلفاً ضد الحركات الاصولية ، ويرفض مناقشة آرائها وطروحاتها بشكل موضوعي.
-1-
إن أي معرفة موضوعية، وأبسط نظرة ايجابية الى الموضوع، تقتضي رفض ما سعت أجهزة الاعلام الى ترسيخه في أذهان الناس، من ربط بين الاصولية الاسلامية ومعاني التطرف والعنف، وحتى الارهاب. فالاصولية جوهرها الدين، وأساسها العودة الى الاصول والجذور، واعتماد المبادئ الاساسية للايمان، وذلك لتأكيد هذه المبادئ وممارستها بجد وصراحة. ويصح هذا أيضاً على الديانات السماوية الاخرى التي شهدت عبر تاريخها اتجاهات وحركات أصولية.
غير أن الحركات الاصولية في العالم الاسلامي امتلكت تأثيراً أوسع، وحصلت على دعم قطاعات كبيرة من الناس. وأسباب كل ذلك - كما لم يعد يُخفى على أحد - أبعد بكثير من المظهر الديني البحت: فخيبة الأمل بسبب عدم انطلاق التطور الاقتصادي والاجتماعي بعد انتهاء المرحلة الاستعمارية. لذا اعتُبرت العودة الى تطبيق المبادئ الاسلامية وسيلة للانعتاق الاقتصادي والاجتماعي. وأحدث هذا التفسير الجديد، تغييرات في الحركات الدينية محولاً إياها الى تنظيمات ذات برنامج سياسي.
وإذا ب "الغرب" - وأعني به الحكومات والقوى السياسية والرأي العام الذي تقوده وتصنعه أجهزة الاعلام - يستوعب المواجهة بين الحركات الاسلامية والحكومات في العديد من البلدان العربية، بشكل يضر بالحركات الاصولية. فالغرب، كحكومات وكرأي عام، معبّأ سلفاً ضد الحركات الاصولية، وليس مستعداً لمناقشة آرائها وطروحاتها، كما أنه يرفض تقويم هذه الطروحات بشكل موضوعي.
واذا كان علينا أن ندين أشكال النضال السياسي المعتمدة على العنف، فلا بدّ أن ندرك من جهة أخرى، أن العنف في كثير من الأحيان، ليس الا نتاجاً طبيعياً للقمع. ومن هذه الزاوية، يبقى الغرب بشكل عام، في قسم كبير من اعلامه، وحتى في دراساته الاكاديمية، بعيداً كل البعد عن معرفة حقيقية لهذا الواقع الشائك المعقد. ويبقى قاصراً عن تناول الظاهرة، بما يتناسب معها من الجهد العلمي والتحليل الموضوعي.
-2-
من البديهي أن ضعف المعلومات، يؤدي الى تحريف خطير في الآراء، وينتج عن الجهل تعميمات مجانية، كربط الأصولية بالارهاب، كما أسلفنا الاشارة. وكل هذا، بطبيعة الحال، يؤدي الى الحاق ضرر كبير بالوجود الاسلامي في البلدان الاوروبية، ويؤثر على درجة قبول المواطنين الغربيين به. على الرغم من أن هذا الوجود أصبح أمراً واقعاً وحقيقة ملموسة متجذرة في الزمان والمكان، وأن علينا بالتالي أن نتعامل معه وندركه بشكل هادئ.
-3-
توجد بالتأكيد اختلافات جوهرية وكبيرة بين الحركات الاسلامية المتعددة، كما يمكن أن نقع على اختلافات في التوجه بين زعامات الحركة الواحدة، أو حركات البلد الواحد. لذا يرتكب خطأً فادحاً في اعتقادي، من يحاول تناول جميع الحركات وفق المنطق نفسه، واعتبارها خا ضعة لمركز واحد يدعمها ويحركها. لكن هذا لا يعني غياب وجوه الشبه، والسمات المشتركة بين هذه الحركات، اضافة الى علاقات التضامن البديهية على صعيد الجبهة المشتركة في مواجهة "أعداء" الخارج والداخل.
* شغل البروفسور سلفاتوري بونو من مواليد طرابلس الغرب - 1932 بين عامي 1957 و1961، منصب نائب رئيس المعهد الايطالي الخاص بأفريقيا. كما درّس التاريخ الدستوري للبلدان الآسيوية والأفريقية في جامعتي فلورنسا وببروجا، بين 1968 و1972. من مؤلفاته: "الحدود بين الدول الافريقية انطلاقاً من التقسيمات الاستعمارية، 1884 - 1971" ميلانو - 1972، "التاريخ الغربي المكتوب عن ليبيا، 1510 - 1911" روما - 1982... شارك البروفسور بونو في عدد من الصحف الايطالية، ويشغل حالياً منصب رئيس تحرير مجلة فصلية بعنوان "الاسلام، حضارةً وتاريخاً".
كلاوديو لوياكونو : خلاصنا بالمعرفة المتبادلة والاحترام المتبادل
* "اليعاقبة" مثال على بروز التعصب والعنف في مراحل التغيرات الكبرى.
-1-
إن الاصولية "وهي اصطلاح افضّله على المصطلح الايطالي "Integralismo"، ظاهرة معقدة للغاية ليس للغالبية الساحقة من الناس فحسب، بل لأولئك الذين نصطلح على تسميتهم ب "الاختصاصيين". وصعوبة فهم هذه الظاهرة وغيرها في العالم الاسلامي، سببها قرون من الجهل والانقطاع عن كل ما له صلة بهذا الجزء من العالم. اذ بتنا اليوم نجهل أحدنا الآخر، على الرغم من الارتباط الوثيق بين ثقافتينا على مدى العصور. وفي حدود تمكني من استيعاب ظاهرة الاصولية، فأنا من الذين يرون فيها ايجابيات كثيرة. مع العلم بأنها تتجلّى أيضاً في بعض المظاهر التي لا تطاق، ولا يمكن القبول بها.
الايجابي، برأيي، في هذه الظاهرة هو التعطش الى العدالة والحرية، ومعاداة أشكال الديكتاتورية والسلطوية، والسعي الى استعادة الاشكال التقليدية التي تأقلمت مع أصعب الظروف، وصمدت مع مرور الزمن، في كثير من البلدان العربية والاسلامية. وما يلفت النظر أيضاً، ويثير الاعجاب بين تجليات الاصولية التي نتفق معها، نزعة المحافظة على الهوية الثقافية والروحية الخاصة، والرغبة في تحقيق ذلك ضمن اطار اجتماعي أقل ظلماً وتعسّفاً، لكن ينبغي أن يتم ذلك دون خوف أو تردد من استقبال ما هو جديد ووليد عالم اليوم. فهكذا يتاح للمسلمين فرصة مواجهة ايجابية للراهن والمستقبل، مستفيدين مما يمنحهم إياه تراث ثقافي وحضاري عمره أربعة عشر قرناً.
أما الملامح السلبية التي تثير الاستنكار، فتتلخص في حالة التعصب، ورفض من يمتلك آراء ثقافية وقيماً فكرية مغايرة ومختلفة. ولعل قضية سلمان رشدي تشكل في هذا الصدد مثالاً واضحاً. وهذا السلوك يذكر، في اعتقادي، بسلوك "اليعاقبة" في فرنسا. ليس لأنني أعتبر التاريخ الاوروبي مقياساً لكل الامور، لكن "اليعاقبة" تسببوا، على الرغم من دوافعهم الايجابية، بما نعرف من العنف المدمّر، إبان الثورة الفرنسية. ومثال "اليعاقبة"، يسلط الضوء على كيفية بروز حالات التعصب والعنف في مراحل التغيرات الايديولوجية والسياسية الكبرى. مع العلم أن الثورة الفرنسية تعتبر في الغرب احدى المراحل الثقافية المهمّة، في التاريخ الغربي الحديث. وكما وقعت الافكار الكبرى للثورة الفرنسية الحرية والاخاء والمساواة في براثن "اليعاقبة"، لتفتح الطريق مشرعة أمام صعود البونابارتية، كذلك انتهت الافكار الاشتراكية ذات الاهداف الانسانية الى سلاح بيد ديكتاتورية ستالين.
-2-
أعتقد بأن الغرب يعرف القليل عن الثقافة الاسلامية، وما يعرفه من هذه الثقافة، لا يمثل جوهرها الفعلي. هناك حتى في صفوف أهل الاختصاص، وأساتذة الآداب واللغة والاسلاميات، من يشغل موقعه عن غير جدارة أو استحقاق. وإذا القينا نظرة على الكتب المدرسية، سنجد أن مؤلفيها بدأوا يهتمون بالعالم الاسلامي وثقافته في وقت متأخر.
هذا الجهل هو الذي حمل الغرب الى التعاطي مع الحركات الاصولية من منطلق واحد فحسب. إنه منطلق العنف، المترافق عادة مع الحركات التي تحاول التعجيل في إحداث تغييرات جذرية وسريعة على مستوى الواقع الروحي والاقتصادي والاجتماعي لمجتمع ما. وبطبيعة الحال، يجري التركيز على الطابع المعادي للغرب الذي يتميز به بعض هذه الحركات، فيما ينسى الغرب آثار الخراب الذي تركته سياساته الاستعمارية القديمة والجديدة.
والجهل المطبق بواقع ما يؤدي، بطبيعة الحال، الى استخلاص صورة مشوّهة وقاتمة عن ذلك الواقع. ولكي يدرك الغرب حقيقة العالم العربي والاسلامي، عليه أن يدرسه بشكل معمق وأن يقبل عليه بفضول كبير ورغبة صادقة في ادراك منطق "الآخر". ومن هذا المنطلق، يمكننا أن ندرك الأسباب التي جعلت ايطاليا تواجه مسألة الهجرة بشكل مضطرب يتمثل بفوضى القوانين والتشريعات: ذلك أنها لم تكن مهيأة لمواجهة المسألة ثقافياً.
وبسبب الجهل الذي أشرت اليه، فإن عادات المهاجرين ومواقفهم، تفسر من منطلق الريبة والخوف. ويخشى بعض الايطاليين من هيمنة المهاجرين - وأغلبهم من شمال افريقيا، يقبضون أجوراً زهيدة - على سوق اليد العاملة، مما يمكن أن يؤدي الى تفاقم الازمة الاقتصادية في البلاد. أي أن هؤلاء المغاربة يسرقون، في نهاية الامر، لقمة العيش من فم العائلة الايطالية!!
الاجيال الاولى من المهاجرين تدفع دائماً هذا "الثمن". والمهاجرون الايطاليون يعرفون معنى ذلك، إذ عانوا ما عانوه عندما هاجروا الى الولايات المتحدة، والى بلدان أوروبا الشمالية الاكثر غنى من ايطاليا. غير أني أميل الى التفاؤل بمستقبل أبناء الجيل الثاني وأحفادهم، ذلك أن المجتمع سيتعرف عليهم أكثر فأكثر، وسيزداد اتساعاً لهم. لذا يجب أولاً أن ننجح في التغلب على جهلنا بالثقافة الاسلامية، وعلى جهل المسلمين الذين يعيشون في بلادنا بثقافتنا. فخلاصنا لا يمكن أن يكون الا بالمعرفة المتبادلة. وكنتيجة لذلك فان الاحترام المتبادل دون أية رغبة في التعالي على الآخر، ستحل محل العلاقة السائدة الآن.
-3-
إذا استثنينا بعض المظاهر التي توحد بين جميع الحركات التي أشرت اليها في اجابتي على السؤال الاول، فان واقع البلدان التي تعمل فيها هذه الحركات، يجعلها مختلفة ومتباينة في ما بينها. فالجزائر ليست مصر، وتركيا ليست مثل ايران، والسودان بطبيعة الحال لا يشبه أفغانستان ولا باكستان أو أندونيسيا... ومن الضروري لادراك واقع هذه الحركات، التمييز بين اولئك الذين يعتمدون على "الدعوة" الخالصة، محاولين ابقاء نور الدين الاسلامي مضيئاً في قلوب المسلمين، و"الحركات التبشيرية" التي عملت وتعمل في افريقيا بالذات.
الى جانب هؤلاء يوجد من يمكن اعتبارهم "ملتزمين ومنظمين سياسياً"، وهم الذين يولون اهتماماً أكبر للقضايا والمشاكل ذات الطابع السياسي والاقتصادي. ومن بين هؤلاء مجموعات تعمل بشكل حازم ضد حكومات بلدانها، وأخرى ركزت اهتمامها على العمل في المجالات الاجتماعية.
وتوجد ايضاً منظمات اختارت الارهاب أساساً لعملها السياسي، فحددت لنفسها بذلك موقعاً خارج التقاليد المعتدلة التي اتسمت بها الحركات "السنية" عبر التاريخ. كما توجد حركات أخرى ارتضت ب "قوانين اللعبة"، دون أن يفوتها التركيز على المسائل الاجتماعية الضرورية لاحداث تغييرات في الواقع. وفي هذا الواقع المتنوع الالوان والاتجاهات، ينبغي التذكير بأن هناك اختلافات جذرية بين الاصولية "السنيّة" والاصولية "الشيعية".
وأود أن أختم بأنه لا بد من اعلاء صوت العقل والحوار، وهي مهمة عسيرة وصعبة للغاية، تحتاج الى عمل متواصل ورغبة صادقة. فمن يؤمن بالله، ليس مسموحاً له أن ينسى غفرانه.
* قدّم البروفسور كلاوديو لوياكونو روما 1945، في كلية العلوم السياسية في جامعة روما، أطروحة تخرج بعنوان "تاريخ الاحزاب والحركات السياسية في العراق منذ العهد العثماني حتى عبدالكريم قاسم" 1971. وهو االيوم عضو في الهيئة الادارية ل "معهد الدراسات الشرقية" في روما، وعضو في هيئة تحرير مجلة "دفاتر شرقية" الصادرة باللغة الايطالية. شغل ابتداء من العام 1974، منصب أستاذ التاريخ الاسلامي في كلية العلوم السياسية التابعة لجامعة كالييري جزيرة سردينيا، ثم انتقل ليشغل المنصب نفسه في كلية الدراسات الشرقية التابعة لجامعة نابولي. من بين مؤلفاته العديدة، نشير الى: "العرب والاتراك في الغرب" 1982، "العرب في شرق المتوسط" 1983، "المسلمون في أرمينيا" 1988، "الاسلام في شبه الجزيرة الايبيرية" 1991.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.